الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: والجزية من الثاني.
الثالثة: أن الجزية تدفع ضمن بنود عقد الذمة ويقابلها حقوق يتمتع بها أهل الذمة؛ وعلى رأسها ما يلي:
1 - حماية الدّولة لهم
كما سبق، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الحق في مسألة كلام الفقهاء عن أهل الذمة.
2 - حق الإقامة والتنقّل
، فلأهل الذّمّة أن يقيموا في دار الإسلام آمنين مطمئنّين على أنفسهم وأموالهم، ما لم يظهر منهم ما ينتقض به عهدهم؛ لأنّهم إنّما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا في أصل الحرمة، والمسلمون على شروطهم.
لكنّ الفقهاء اتّفقوا على عدم جواز إقامة الذّمّيّ واستيطانه في مكّة والمدينة على خلافٍ وتفصيلٍ فيما سواهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع في أرض العرب دينان"(1)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لئن عشت -إن شاء اللَّه- لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب"(2). أمّا في غيرها من المدن والقرى في دار الإسلام فيجوز لأهل الذّمّة أن يسكنوا فيها مع المسلمين أو منفردين، لكن ليس لهم رفع بنائهم على المسلمين بقصد التّعلّي، وإذا لزم من سكناهم في المصر بين المسلمين تقليل الجماعة أمروا بالسّكنى في ناحيةٍ -خارج المصر- ليس فيها جماعة المسلمين إذا ظهرت المصلحة في ذلك.
وأمّا حق التنقّل فيتمتّع أهل الذّمّة به في دار الإسلام أينما يشاؤون للتّجارة وغيرها، إلّا أنّ في دخولهم مكّة والمدينة وأرض الحجاز تفصيل.
3 - عدم التعرّض لهم في عقيدتهم وعبادتهم
، إنّ من مقتضى عقد الذّمّة ألا يتعرّض المسلمون لأهل الذّمّة في عقيدتهم، وأداء عبادتهم دون إظهار شعائرهم، فعقد الذّمّة ترك الكفّار على كفرهم بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملّة، وإذا كان هناك احتمال دخول
(1) أخرجه أحمد 6/ 274. بلفظ (لا يترك)، وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه مسلم (1767).
الذِّمِّيِّ في الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين ووقوفه على محاسن الدّين، فهذا يكون عن طريق الدّعوة لا عن طريق الإكراه، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء، لكن هناك تفصيل وخلاف في بعض الفروع نذكره فيما يلي:
أ - معابد أهل الذّمّة، قسّم الفقهاء أمصار المسلمين على ثلاثة أقسامٍ:
الأوّل: ما اختطّه المسلمون، وأنشئوه كالكوفة، والبصرة، وبغداد، وواسط؛ فلا يجوز فيه إحداث كنيسةٍ، ولا بيعةٍ، ولا مجتمعٍ لصلاتهم، ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم، ولا يمكّنون فيه من شرب الخمر، واتّخاذ الخنازير، وضرب النّاقوس، ولأنّ هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر، ولو عاقدهم الإمام على التّمكّن من ذلك فالعقد باطل.
الثّاني: ما فتحه المسلمون عنوةً، فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ من ذلك بالاتّفاق، لأنّه صار ملكًا للمسلمين، وما كان فيه شيء من ذلك هل يجب هدمه؟ قال المالكيّة: وهو وجه عند الحنابلة: لا يجب هدمه؛ لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرًا من البلاد عنوةً فلم يهدموا شيئًا من الكنائس.
ويشهد لصحّة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد الّتي فتحها المسلمون عنوةً، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله: ألّا يهدموا بيعةً، ولا كنيسةً، ولا بيت نارٍ. وفي الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو وجه عند الحنابلة: يجب هدمه، فلا يقرّون على كنيسةٍ كانت فيه؛ لأنّها بلاد مملوكة للمسلمين، فلم يَجُزْ أن تكون فيها بيعة، كالبلاد الّتي اختطّها المسلمون. وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تهدم، ولكن تبقى بأيديهم مساكن، ويمنعون من اتّخاذها للعبادة.
الثّالث: ما فتحه المسلمون صلحًا، فإن صالحهم الإمام على أنّ الأرض لهم والخراج لنا، فلهم إحداث ما يحتاجون إليه فيها من الكنائس عند الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة؛ لأنّ الملك والدّار لهم، فيتصرّفون فيها كيف شاؤوا.
وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة: المنع؛ لأنّ البلد تحت حكم الإسلام.
وإن صالحهم على أنّ الدّار لنا ويؤدّون الجزية فالحكم في الكنائس على ما يقع عليه الصّلح، والأولى ألّا يصالحهم إلّا على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم إحداث شيءٍ منها.
وإن وقع الصّلح مطلقًا لا يجوز الإحداث عند الجمهور: الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، ويجوز في بلدٍ ليس فيه أحد من المسلمين عند المالكيّة.
ولا يتعرّض للقديمة عند الحنفيّة، والحنابلة، وهو المفهوم من كلام المالكيّة، والأصحّ عند الشّافعيّة المنع من إبقائها كنائس.
ب - إجراء عباداتهم.
الأصل في أهل الذّمّة تركهم وما يدينون، فيتركون على الكفر، وعقائدهم، وأعمالهم الّتي يعتبرونها من أمور دينهم كضرب النّاقوس خفيفًا في داخل معابدهم، وقراءة التّوراة والإنجيل فيما بينهم، ولا يمنعون من ارتكاب المعاصي الّتي يعتقدون بجوازها كشرب الخمر، واتّخاذ الخنازير وبيعها، أو الأكل والشّرب في نهار رمضان، وغير ذلك فيما بينهم أو إذا انفردوا بقريةٍ.
ويشترط في جميع هذا ألّا يظهروها، ولا يجهروا بها بين المسلمين، وإلا منعوا وعزّروا، وهذا باتّفاق المذاهب، فقد جاء في شروط أهل الذّمّة لعبد الرّحمن بن غنمٍ:"ألّا نضرب ناقوسًا إلّا ضربًا خفيًّا في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبًا، ولا نرفع أصواتنا في الصّلاة، ولا القراءة في كنائسنا، ولا نظهر صليبًا، ولا كتابًا في سوق المسلمين".
هذا وقد فصّل بعض الحنفيّة بين أمصار المسلمين وبين القرى، فقالوا: لا يمنعون من إظهار شيءٍ من بيع الخمر، والخنزير، والصّليب، وضرب النّاقوس في قريةٍ أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين، ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام، وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين؛ وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود؛ لأنّ المنع من إظهار هذه الأشياء لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام، فيختصّ المنع بالمكان المعدّ لإظهار الشّعائر وهو المصر الجامع.
وفصّل الشّافعيّة بين القرى العامّة والقرى الّتي ينفرد بها أهل الذّمّة، فلا يمنعون في الأخيرة من إظهار عباداتهم. (1)
ومما ينبغي أن يعلم أن أخذ الجزية منهم وتركهم على عقيدتهم وعبادتهم ممتد إلى زمن معين ثم لا تقبل منهم الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، وهذا عند نزول المسيح عليه السلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم صلى الله عليه وسلم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضح الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} (النساء: 159). (2)
فقوله: "حكمًا مقسطًا" أي: حاكمًا، والمعنى أنه ينزل حاكمًا بهذه الشريعة؛ فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ، بل يكون عيسى عليه السلام حاكمًا من حكام هذه الأمة، (والمقسط العادل بخلاف القاسط فهو الجائر).
وقوله: "فيكسر الصليب ويقتل الخنزير" أي: يبطل دين النصرانية بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، قوله:"ويضح الجزية" أي: أن الدين يصير واحدًا فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه أن المال يكثر حتى لا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له فتترك الجزية استغناءً عنها، وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بوضع الجزية تقريرها على الكفار من غير محاباة، ويكون كثرة المال بسبب ذلك، وتعقبه النووي وقال: الصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام ومن بذل منهم الجزية لم يكفِ عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل. قلت: -ابن حجر- ويؤيده أن عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: "وتكون الدعوى واحدة" قال النووي:
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية مصطلح عقد الذمة.
(2)
أخرجه البخاري (2109، 3264)، ومسلم (242).