الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد اللَّه، وذمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والخلفاء، والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية. (1)
5 - ويسجل عبادة في الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام
، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط، فيقول: إما أجبتم إلى الإسلام. فإن قبلت ذلك أنت، وأصحابك فقد سعدت في الدنيا، والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، ولا التعرض لكم، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد، وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن، وأنتم في كل عام أبدًا ما بقينا، وبقيتم، نقاتل عنكم من ناوأكم، وعرض لكم في شيء من أرضكم، ودمائكم، وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا (2).
ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية، وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه نقاتل عنكم من ناوأكم، وعرض لكم في شيء من أرضكم، ودمائكم، وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم.
6 - حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك:
أ - ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة، فقال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى، وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا: ما نعلم إلا وفاء، وحسن ملكة. (3)
(1) فتوح البلدان للبلاذري (120).
(2)
مرسل. أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأخبارها (78) من طريق ابن لهيعة عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر، وعياش بن عباس القتباني، وغيرهما يزيد بعضهم على بعض، وذكره ضمن قصة فتح مصر.
(3)
أخرجه الطبري في التاريخ (2/ 503) قال: كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وسفيان عن الحسن قال: قال عمر للوفد وذكره، وفي إسناده سيف بن عمر. قال ابن حجر في =
ب - ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، وأن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتلوا من ورائهم، وألا يكلفوا فوق طاقتهم. (1)
ج - عن جبير بن نفير قال: أتي عمر بمال كثير، -قال أبو عبيد- أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا واللَّه ما أخذنا إلا عفوًا صفوًا. قال: بلا سوط، ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد للَّه الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني. (2)
د - وهذه صورة عظيمة من صور لوفاء من المسلمين لهم مع إصرارهم على الخيانة العظمى للدولة عن ابن سيرين، أن عمر بن الخطاب؛ استعمل عمير بن سعيد، أو سعد على طائفة من الشام، فقدم عليه قدمة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها: عرب السوس، وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئًا، ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بعير بعيرين، ومكان كل شيء شيئين فإن رضوا بذلك فأعطهم، وخربها فإن أبوا فانبذ إليهم وأجلهم سنة، ثم خربها، فقال: اكتب لي عهدًا بذلك، فكتب له عهدًا، فلما قدم عمير عليهم عرض عليهم ذلك، فأبوا فأجلهم سنة، ثم أخربها قال أبو عبيد: وهذه مدينة بالثغر من ناحية الحدث يقال لها: عرب سوس، وهي معروفة هناك، وقد كان لهم عهد، فصاروا إلى هذا، وإنما نرى عمر عرض عليهم ما عرض من الجلاء، وأن يعطوا الضعف من أموالهم؛ لأنه لم يتحقق ذلك عنده من أمرهم، أو أن النكث كان من طوائف منهم دون
= التقريب (2724): ضعيف الحديث عمدة في التاريخ. وهذا الخبر من أخبار التاريخ لا يحتوي على شريعة جديدة، ولا يخالف أصلًا ثابتًا فيعتمد فيه على سيف وأمثاله، واللَّه أعلم.
(1)
أخرجه البخاري برقم (1328).
(2)
أخرجه أبو عبيد في الأموال حديث (118) من طريق بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه به، وهذا إسناد ضعيف فيه بقيه بن الوليد مدلس، وقد عنعن، وانظر المغني (9/ 290)، وأحكام أهل الذمة (1/ 139).
إجماعهم، ولو أطبقت جماعتهم عليه ما أعطاهم من ذلك شيئًا إلا القتال والمحاربة، وقد كان نحو من هذا قريبًا الآن في دهر الأوزاعي بموضع بالشام، يقال له: جبل اللبنان، وكان به ناس من أهل العهد فأحدثوا حدثًا، وعلى الشام يومئذ صالح بن علي، فحاربهم وأجلاهم فكتب إليه الأوزاعي، فيما ذكر لنا محمد بن كثير عنه، برسالة طويلة، فيها: قد كان من إجلاء أهل الذمة، من أهل جبل لبنان، مما لم يكن تمالأ عليه خروج من خرج منهم، ولم تطبق عليه جماعتهم، فقتل منهم طائفة، ورجع بقيتهم إلى قراهم، فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة؟ فيخرجون من ديارهم وأموالهم؟ وقد بلغنا أن من حكم اللَّه عز وجل أنه لا يأخذ العامة بعمل الخاصة، ولكن يأخذ الخاصة بعمل العامة، ثم يبعثهم على أعمالهم، فأحق ما اقتدي به ووقف عليه حكم اللَّه تبارك وتعالى، وأحق الوصايا بأن تحفظ وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقوله: "من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه، من كانت له حرمة في دمه فله في ماله والعدل عليه مثلها فإنهم ليسوا بعبيد فتكونوا من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرار أهل ذمة، يرجم محصنهم على الفاحشة، ويحاص نساؤهم نساءنا من تزوجهن منا القسم، والطلاق، والعدة سواء - ثم ذكر رسالة طويلة، قال أبو عبيد: ثم كان بعد ذلك حدث من أهل قبرص، وهي جزيرة في البحر بين أهل الإسلام والروم، قد كان معاوية صالحهم وعاهدهم على خرج يؤدونه إلى المسلمين، وهم مع هذا يؤدون إلى الروم خرجا أيضًا، فهم ذمة للفريقين كليهما فلم يزالوا على ذلك حتى إذا كان زمان عبد الملك بن صالح على الثغور، فكان منهم حدث أيضًا، أو من بعضهم، رأى عبد الملك أن ذلك نكث لعهدهم والفقهاء يومئذ متوافرون، فكتب إلى عدة منهم يشاورهم في محاربتهم، فكان ممن كتب إليه: الليث بن سعد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وموسى بن أعين، وإسماعيل بن عياش، ويحيى بن حمزة، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن حسين، فكلهم أجابه على كتابه. قال أبو عبيد: فوجدت رسائلهم إليه قد استخرجت من ديوانه، فاختصرت منها المعنى الذي أرادوه وقصدوا له، وقد اختلفوا عليه في الرأي، إلا
أن من أمره بالكف عنهم والوفاء لهم، وإن غدر بعضهم، أكثر ممن أشار بالمحاربة، فكان مما كتب إليه الليث بن سعد: إن أهل قبرص لم نزل نتهمهم بالغش لأهل الإسلام والمناصحة لأهل الروم، وقد قال اللَّه تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (الأنفال: 58) ولم يقل تبارك وتعالى: لا تنبذ إليهم حتى تستبين خيانتهم وإني أرى أن تنبذ إليهم، ثم ينظروا سنة يأتمرون، فمن أحب منهم اللحاق ببلاد المسلمين، على أن يكون ذمة يؤدي الخراج فعل، ومن أراد أن ينتحي إلى الروم فعل، ومن أراد أن يقيم بقبرص على الحرب أقام، فيقاتلهم المسلمون كما يقاتلون عدوهم؛ فإن في إنظارهم سنة قطعًا لحجتهم ووفاء بعهدهم، وكان فيما كتب إليه سفيان بن عيينة: إنا لا نعلم النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قوما فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم، غير أهل مكة فإنه من عليهم، وإنما كان نقضهم الذي استحل به غزوهم: أن قاتلت حلفاؤهم من بني بكر حلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من خزاعة فنصر أهل مكة بني بكر على حلفائه، فاستحل بذلك غزوهم، ونزلت في الذين نقضوا {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} (التوبة: 13 - 14) ونزلت فيهم أيضًا: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} (الأنفال: 55 - 57)، وكان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أهل نجران في صلحه: أن من أكل منهم ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة. والذي انتهى إلينا من العلم: أن من نقض شيئًا مما عوهد عليه، ثم أجمع القوم على نقضه، فلا ذمة لهم. وكان فيما كتب إليه مالك بن أنس: إن أمان أهل قبرص كان قديمًا متظاهرًا من الولاة لهم، يرون أن أمانهم وإقرارهم على حالهم ذل وصغار لهم، وقوة للمسلمين عليهم: لما يأخذون من جزيتهم ويصيبون بهم من
الفرصة على عدوهم، ولم أجد أحدًا من الولاة نقض صلحهم، ولا أخرجهم من مكانهم، وأنا أرى أن لا تعجل بنقض عهدهم ومنابذتهم حتى يعذر إليهم، وتؤخذ الحجة عليهم، فإن اللَّه تبارك وتعالى يقول:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فإن لم يستقيموا بعد ذلك ويتركوا غشهم، ورأيت أن الغدر يأتي من قبلهم أوقعت بهم عند ذلك، وكان بعد الإعذار إليهم، فكان أقوى لك عليهم، وأقرب من النصر لك والخزي لهم إن شاء اللَّه.
وكان فيما كتب إليه موسى بن أعين: إنه قد كان يكون مثل هذا فيما خلا، فينظر فيه الولاة، ولم أر أحدًا ممن مضى نقض عهد أهل قبرص، ولا غيرها، ولعل جماعتهم لم تمالئ على ما كان من خاصتهم، وإني أرى الوفاء لهم وإتمام تلك الشروط، وإن كان منهم الذي كان. قال موسى: وقد سمعت الأوزاعي يقول في قوم صالحوا المسلمين ثم أخبروا المشركين بعورتهم ودلوهم عليها - قال: إن كان من أهل الذمة فقد نقض عهده، وخرج من ذمته، فإن شاء الوالي قتله وصلبه وإن كان مصالحًا لم يدخل ذمة نبذ إليهم الوالي على سواء:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . وكان فيما كتب إليه إسماعيل بن عياش: أن أهل قبرص أذلاء مقهورون، تغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم، وقد كتب حبيب بن مسلمة في عهده وأمانه لأهل أرمينية أنه إن عرض للمسلمين شغل عنكم وقهركم فإنكم غير مأخوذين، ولا ناقض ذلك عهدكم، بعد أن تفُوا للمسلمين، وإني أرى أن يقروا على عهدهم وذمتهم، فإن الوليد بن يزيد قد كان أجلاهم إلى الشام، فاستفظع ذلك واستعظمه فقهاء المسلمين، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرس، فاستحسن المسلمون ذلك ورأوه عدلًا.
وكان فيما كتب إليه يحيى بن حمزة: إن أمر قبرص كأمر عربسوس، فإن فيها قدوة حسنة وسنة متبعة، فإن صارت قبرص لعدو المسلمين إلى ما صارت إليه عربسوس، فإن تركها على حالها والصبر على ما كان فيها، لما في ذلك للمسلمين من جزيتها وما يحتاجون إليه مما فيها أفضل، وإنما كان أمانها وتركها لذلك وليس من أهل عهد بمثل منزلتهم فيما
بين المسلمين وبين عدوهم إلا ومثل ذلك يتقى منهم قديمًا وحديثًا، وكل أهل عهد لم يقاتل المسلمون من ورائهم وتمض أحكامهم فيهم، فليسوا بذمة، ولكنهم أهل فدية، يكف عنهم ما كفوا، ويوفى لهم بعهدهم ما وفوا، ويقبل منهم عفوهم ما أدوا، ولا ينبغي أن يكون ذلك من المسلمين إليهم إلا بعد تقية يتقونها منهم أو ضعف عن محاربتهم، أو شغل عنهم بغيرهم، وقد روي عن معاذ بن جبل: أنه كره أن يصالح أحدًا من العدو على شيء معلوم، إلا أن يكون المسلمون مضطرين إلى صلحهم؛ لأنه لا يدري لعلهم يكونون أغنياء أعزاء في صلحهم، ليست عليهم ذلة ولا صغار. وكان فيما كتب إليه أبو إسحاق، ومخلد بن حسين: وإنا لم نر شيئًا أشبه بأمر قبرس من أمر عربسوس، وما حكم فيها عمر بن الخطاب، ثم ذكرا مثل الحديث الذي ذكرناه فيها، وقد كان الأوزاعي يحدث أن المسلمين فتحوا قبرص، فتركوا أهلها على حالهم، وصالحوهم على أربعة عشر ألف دينار: سبعة آلاف للمسلمين، وسبعة آلاف للروم، على أن لا يكتموا المسلمين أمر عدوهم، ولا يكتموا الروم أمر المسلمين، فكان الأوزاعي يقول: ما وفى لنا أهل قبرص قط، وإنا نرى أن هؤلاء القوم أهل عهد، وأن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم، وأنه لا يستقيم إلا بأمر يعرف به غدرهم ونكث عهدهم. قال أبو عبيد: فأرى أكثرهم قد وكد العهد ونهى عن محاربتهم حتى يجمعوا جميعًا على النكث، وهذا أولى القولين بأن يتبع وأن لا يؤخذ العوام بجناية الخاصة، إلا أن يكون ذلك بممالأة منهم ورضا بما صنعت الخاصة، فهناك تحل دماؤهم وقد روي عن علي بن أبي طالب شيء يدل على هذا المعنى (1).
ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهرًا، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم (2).
(1) أخرجه أبو عبيد عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين به، وانظر فتوح البلدان (156).
(2)
فتوح البلدان (132).
7 -
وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فعن مكحول؛ أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا اللَّه عليهم (1).
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن.
يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه -أرمينية بين بيزنطة والإسلام-: (إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653 م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ما داموا راغبين فيه، وفي جملته: أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلًا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلًا ولا قضاة. . . وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدّات. وأشهد معاويةُ اللَّه على ذلك (2).
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان.
(1) الخراج (135)، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري، وفتوح الشام للأذر.
(2)
انظر فتوح البلدان (210 - 211).
يقول القرافي: إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة اللَّه تعالى، وذمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة اللَّه وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام (1).
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضمانًا للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخًا كبيرًا من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير. (2) وكان مما أمر به رضي الله عنه: من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه (3).
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه (4). أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته.
يقول القرطبي: وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء (5).
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية.
(1) الفروق (3/ 14).
(2)
الأموال (1/ 163).
(3)
تاريخ مدينة دمشق (1/ 178).
(4)
الأموال (1/ 170).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (8/ 73 - 74).