الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أي لا إكراه في الدخول فيه، لأن الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان.
وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين، بل من أوليائه، أن الإِسلام ما قام إلا والسيف ناصره، فكان يعرض على الناس، فإن قبلوه نجوا، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه، فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإِسلام حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستخفيًا، والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب، ولا يجدون زاجرًا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة، أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإِسلام؟ اللهم لا هذا ولا ذاك، وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه الغزوة، فإن غزوة بني النضير كانت في السنة الرابعة من الهجرة.
هذا وقد كان معهودًا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول في دينهم، ثم أكد عدم الإكراه قوله:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي: قد ظهر أن هذا الدين الرشد والفلاح، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غيّ وضلال (1).
الوجه الثاني: لا تناقض بين الآية وقتل المرتد
.
وقد يتساءل البعض: أليست هذه العقوبة مناقضة للحرية الدينية التي أقرها الإِسلام بقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ولقوله تعالى للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ؟ .
والجواب: أن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإِسلام، والإِسلام يريد ممن يدخل فيه أن يكون مخلصًا في طلبه في الدخول فيه؛ مدركًا حقائقه ومزاياه، ولذلك قرن نفي الإكراه في الآية الأولى بقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ
(1) تفسير المراغي (البقرة/ 256)، المنار (البقرة/ 256).
عَلِيمٌ (256)} (البقرة: 256)، فمن دخل في الإِسلام حرًّا مدركًا، عالمًا الغيّ من الرشد. فليس له من بعد أن ينفصم منه؛ لأنه لن يخرج منه ببينة صادقة وحجة مستقيمة، إنما هو الضلال والتضليل، فإذا حارب الإِسلام اتخاذ الأديان هزوًا ولعبًا وعبثًا وتضليلًا، فإنما يفعل ذلك لحماية حرية الفكر والرأي من هؤلاء العابثين (1).
وهنا مظنة سؤال: لعل العصر بما يموج فيه من أخلاط الفكر يجعله أكثر إلحاحًا! أليست قضية الاعتقاد مسألة شخصية تمامًا بحيث لا يحق التدخل فيها؟ ، أليس القرآن نفسه يقرر هذا المبدأ الذي نستند إليه عندما نتحدث عن سماحة الإِسلام:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} (البقرة: 256)!
ونقول: بلى، جوابًا عن كل من السؤالين، ولكن هل ردة المرتد مسألة شخصية تمامًا لا تمس الجماعة التي كان يؤمن بدينها، فهل عقوبتها تتناقض مع مبدأ حرية العقيدة التي تقرره الآية؟
فرق بين موقفين: موقف يرفض فيه صاحبه من البداية -وهو غير مسلم- أن يدخل في الإِسلام، وموقف يرتد فيه صاحبه عن الإِسلام بعد أن دخل فيه.
الموقف الأول يقر الإِسلام صاحبه، ويحمي حقه الكامل في البقاء على حاله التي هو عليها، بل في تغييرها إلى أي دين آخر يختاره غير الإِسلام، وهنا يتجسد المبدأ العظيم {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} تجسيدًا لا شبهة فيه. وإقرار الإِسلام لمثل هذا يحتسب له، ويشاد به من أهله.
أما الموقف الآخر فليس كذلك، لم يعد موقفًا شخصيًا خالصًا، ولم يعد الأمر فيه قاصرًا في آثاره على صاحبه؛ لقد دخل في الإِسلام طوعًا، فلماذا ارتد عنه؟ إنه أبسط سؤال يترتب على ردته؟ ، وهو سؤال ينطوي على كثير من التشكيك في الإِسلام، وإلا ففيم دخل
(1) تنظيم الإِسلام للمجتمع (118) د/ رمزي نعناعه.