الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيد المسيح، وأنها هي الباب الأول ولا بد منها لدخول الإنسان ملكوت النعمة (1)، والدليل على ذلك من كتابهم، وإليكم النصوص:
(فتقدم يسوع وكلمهم قائلًا: دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس). متى (28/ 18، 19).
(ربٌ واحد، إيمانٌ واحد، ومعمودية واحدة). الرسالة إلى أهل أفسس (4/ 5).
(إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه) يوحنا (3/ 5).
(من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن) مرقس (16/ 16).
(توبوا وليعتمد كل منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس) أعمال الرسل (2/ 38).
فيفهم من هذه النصوص: أن من لا يعتمد لا يستحق الدخول في الملكوت، بل يدان على عدم تعميده، وهذه بعض النصوص وليست كلها، فالنصوص كثيرة على تغييرهم لفطرة البشرية التي فطروا عليها، وهذا يتضح في معنى الحديث "وأبواه ينصرانه"، فلماذا يجبر منهم من يريد أن يستعيد فطرته على البقاء في دين لم يكن لهم إرادة في اختياره منذ البداية؟ ! أليس هذا هو التناقض بعينه؟
الشبهة الثالثة:
يقولون: أن حكم الردة خاطئ بشهادة القرآن ويستدلون بالآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54)، وغيرها من الآيات.
والرد عليها كالآتي:
الوجه الأول: تفسير الآية
.
(1) أسرار الكنيسة السبعة (29) بتصرف، مؤلفه - "حبيب جرجس".
يقول تعالى ذكره للمؤمنين باللَّه وبرسوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي: صدّقوا اللَّه ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ، يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم، فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، فلن يضر اللَّه شيئًا، وسيأتي اللَّه بقوم يحبهم ويحبونه، يقول: فسوف يجيء اللَّه بقومٍ خير من الذين ارتدوا وأبدلوا دينهم يحبهم اللَّه ويحبون اللَّه، وكان هذا الوعيد من اللَّه لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك وعده من وعد المؤمنين ما وعده في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد، فلما قبض اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد أقوام من أهل الوبَرِ، وبعض أهل المَدَر، فأبدل اللَّه المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده. (1)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن اللَّه يستبدل به من هو خير لها منه، وأشد منعة وأقوم سبيلًا كم قال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (النساء: 133)، وقال تعالى {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (إبراهيم: 19 - 20) أي: بممتنع ولا صعب وقال تعالى هاهنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} (المائدة: 54) أي: يرجع عن الحق إلى الباطل (2).
فأخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم؛ فإن اللَّه يأتي عوضًا عن ذلك بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة
(1) تفسير الطبري المائدة (54) بتصرف يسير.
(2)
تفسير ابن كثير (المائدة: 54).
على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} (الحجر: 88).
وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215)، وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة: 73)، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) الآية، وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)(1).
فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين باللَّه المعاندين لآياته المكذبين لرسله، أعزة: قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60)، وقال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فالغلظة والشدة على أعداء اللَّه مما يقرب العبد إلى اللَّه، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإِسلامي بالتي هي أحسن، فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. (2)
ويقول الشيخ أبو بكر الجزائري: هذه الآية الكريمة تضمنت خبرًا من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به، فتكون آية أنه كلام اللَّه حقًا، وأن المنزل على رسوله صدقٌ؛ فقد أخبر تعالى أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي اللَّه عز وجل بخير
(1) أضواء البيان (المائدة: 54).
(2)
تفسير السعدي، الآية نفسها.
منه ممن يحبون اللَّه ويحبهم اللَّه تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل اللَّه ولا يخافون لوم من يلوم ولا عتاب من يعتب عليهم، وما إن مات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد فئات من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضوان اللَّه عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم، فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف اللَّه تعالى؛ يحبون اللَّه ويحبهم اللَّه، يجاهدون في سبيله، ولا يخافون لومة لائم، وقد روى بل وصح "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى الله عليه وسلم وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا"(1) وفعلًا بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق اللَّه العظيم (2).
وهذه الآية الكريمة تدل على أن اللَّه هيأ للمرتدين من يقاومهم من المؤمنين المجاهدين الذين وصفهم اللَّه تعالى بما وصفهم في الآية مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين، فأنقذوا الإِسلام من هذه الفتنة العظيمة ألا وهي فتنة الردة.
وقد بوب الإمام البخاري باب -حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم- تحت كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ثم أتى بآيات منها هذه الآية الكريمة، ثم أورد حديثًا فيه "أن عليًا أتى بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس؛ فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لا تعذبوا بعذاب اللَّه"، ولقتلتهم لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" (3).
وقال الشوكاني: والمراد بالقوم الذين وعد اللَّه سبحانه بالإتيان بهم؛ هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم
(1) صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (32261) والشيباني في الآحاد والمثاني (2515)، وصححه الألباني في الصحيحة (3368).
(2)
أيسر التفاسير (المائدة: 54).
(3)
فتح الباري (12/ 279).