الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأورد ابن حجر رحمه الله ردًا على ذلك فقال: قال المازري ومن تبعه: صان اللَّه الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر. (1)
وقال أيضًا: وقد عسر فهم المعنى في الفرق بين السرقة والنهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكًا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس؛ لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي، وجوابه: أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها. (2)
الشبهة الثانية: (أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق):
وأجاب ابن القيم فقال: السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم وخير إلى متولي القطع أمرًا وحكمًا لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة، وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم. فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث اللَّه به رسله وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به، أفليس في عقوبة هذا الصائل خيرٌ محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة، فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة
(1) فتح الباري (12/ 100).
(2)
فتح الباري (12/ 100، 101) بتصرف يسير.
القدر ويفتح لك الطريق إلى اللَّه، ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وإنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن اللَّه أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلًا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلًا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (القلم: 35، 36). وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (الجاثية: 21)، وقوله:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (ص: 28).
فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته، لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا، وقد فطر اللَّه عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة، والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة؛ فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه؛ فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله هذه فطرة اللَّه الذي فطر الناس عليها فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته