الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر:
نعمة اللَّه لا تعاب ولكن
…
ربما استقبحت على أقوام. (1)
الشبهة الثالثة: سوء فهم لحديث: (قطع يد السارق في البيضة والحبل)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن اللَّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده
" (2).
والجواب:
قال الحافظ في الفتح: قال الخطابي: . . . .، أنه ليس بالشائع في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه الحديث من اللوم والتثريب: أخزى اللَّه فلانًا عرض نفسه للتلف في مال له قد ومزية وفي عرض له قيمة إنما يضر المثل في مثله بالشيء الذي لا وزن له ولا قيمة، هذا حكم العرف الجاري في مثله، وإنما وجه الحديث وتأويله ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قل وكثر من المال كأنه يقول إن سرقة الشيء اليسير الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة والحبل الخلق الذي لا قيمة له إذا تعاطاه فاستمرت به العادة لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ قدر ما تقطع فيه اليد فتقطع يده، كأنه يقول فليحذر هذا الفعل وليتوقه قبل أن تملكه العادة ويمرن عليها ليسلم من سوء مغبته ووخيم عاقبته. . . . (3).
ونقل ابن حجر عن محمد بن قتيبة فيما حكاه عن ابن بطال أنه قال: ولأن من عادة العرب والعجم أن يقولوا قبح اللَّه فلانًا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وتعرض للعقوبة بالغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه اللَّه تعرض لقطع اليد في حبل رث أو في كبة شعر أو رداء خلق. . . (4).
(1) بدائع الفوائد (2/ 211، 212).
(2)
أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687).
(3)
فتح الباري (12/ 84).
(4)
المصدر السابق.
قال القرطبي: فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله صلى الله عليه وسلم:"من بني للَّه مسجدًّا ولو مثل مفحص قطاة بني اللَّه له بيتًا في الجنة". (1) وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر، وذلك أنه إذا ضرى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري (2) في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم. (3)
وقال بعضهم: البيضة في اللغة تستعمل في المبالغة في الذم، فمن الأول قولهم فلان بيضة البلد إذا كان فردًا في العظمة وكذا في الاحتقار، ومنه قول أخت عمرو بن عبدُ وُدّ لما قتل علي أخاها يوم الخندق في مرثيتها له:
لكن قاتله من لا يعاب له
…
من كان يدعى قديمًا بيضة البلد
ومن الثاني قول الآخر يهجو قومًا:
تأبى قضاعة أن تبدي لكم نسبًا
…
وابنًا تزار فأنتم بيضة البلد
ويقال في المدح أيضًا: بيضة القوم أي وسطهم وبيضة السنام أي شحمته، فلما كانت البيضة تستعمل في كل من الأمرين حسن التمثيل بها كأنه قال يسرق الجليل والحقير فيقطع فرب أنه عذر بالجليل فلا عذر له بالحقير، وأما الحبل فأكثر ما يستعمل في التحقير كقولهم: ما ترك فلان عقالًا ولا ذهب من فلان عقال، فكأن المراد أنه إذا اعتاد السرقة لم يتمالك مع غلبة العادة التمييز بين الجليل والحقير وأيضًا فالعار الذي يلزمه بالقطع لا يساوي ما حصل له ولو كان جليلاً، وإلى هذا أشار القاضي عبد الوهاب بقوله:
(1) أخرجه ابن ماجه (738)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (603).
(2)
أخرجه البخاري (6783).
(3)
القرطبي (6/ 162).
صيانة العضو أغلاها وأرخصها
…
صيانة المال فافهم حكمة الباري. (1)
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدر، وإنما يذم من يخاطر بها فيما لا قدر له فهو موضع تقليل لا تكثير، والصواب أن المراد التنبيه على عظيم ما خسر، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار؛ فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة، أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه، أو أن المراد به قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاة سياسة لا قطعًا جائزًا شرعًا، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب، فقاله على ظاهر اللفظ. واللَّه أعلم. (2)
وعليه فالحديث يحتمل وجوهًا كما نقل ابن كثير عن الجمهور بأنهم أجابوا بأجوبة عن هذا الحديث وهي:
أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة (3)، وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.
والثاني: أشبه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.
والثالث: أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة. (4)
وفيه أيضًا، الإشارة إلى سد الذرائع، فإنه أخبر أن سرقة الحبل والبيضة لا تدعه حتى تقطع يده. (5)
(1) فتح الباري (12/ 85).
(2)
مسلم بشرح النووي (6/ 200)، وسنن النسائي بشرح السيوطي (8/ 66، 67).
(3)
حديث عائشة "تقطع يد السارق في ربع دينار" في البخاري ومسلم.
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 138).
(5)
زاد المعاد (5/ 53).