المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٤

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(14) كِتَاب الإِمَارَةِ وَالبَيعَةِ

- ‌(1) بَاب اشتِرَاطِ نَسَبِ قُرَيشٍ في الخِلافَةِ

- ‌(2) باب في جواز ترك الاستخلاف

- ‌(3) باب النهي عن سؤال الإمارة والحرص عليها وأن من كان منه ذلك لا يولاها

- ‌(4) باب فضل الإمام المقسط وإثم القاسط وقوله كلكم راع

- ‌(5) باب تغليظ أمر الغلول

- ‌(6) باب ما جاء في هدايا الأمراء

- ‌(7) باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم}

- ‌(8) باب إنما الطاعة ما لم يأمر بمعصية

- ‌(9) باب في البيعة على ماذا تكون

- ‌(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر

- ‌(11) باب يصبر على أذاهم وتؤدَّى حقوقهم

- ‌(12) باب فيمن خلع يدا من طاعة وفارق الجماعة

- ‌(13) باب في حكم من فرَّق أمر هذه الأمة وهي جميع

- ‌(14) باب في الإنكار على الأمراء وبيان خيارهم وشرارهم

- ‌(15) باب مبايعة الإمام على عدم الفرار وعلى الموت

- ‌(16) باب لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وعمل صالح

- ‌(17) باب في بيعة النساء والمجذوم وكيفيتها

- ‌(18) باب وفاء الإمام بما عقده غيره إذا كان العقد جائزا ومتابعة سيد القوم عنهم

- ‌(19) باب جواز أمان المرأة

- ‌(15) كتاب النكاح

- ‌(1) باب الترغيب في النكاح وكراهية التبتل

- ‌(2) باب ردّ ما يقع في النفس بمواقعة الزوجة

- ‌(3) باب ما كان أبيح في أول الإسلام من نكاح المتعة

- ‌(4) باب نسخ نكاح المتعة

- ‌(5) باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وما جاء في نكاح المحرم

- ‌(6) باب النهي عن خِطبَةِ الرجل على خِطبَةِ أخيه وعن الشغار وعن الشرط في النكاح

- ‌(7) باب استئمار الثيب واستئذان البكر والصغيرة يزوجها أبوها

- ‌(8) باب النّظر إلى المخطوبة

- ‌(9) باب في اشتراط الصَّداق في النكاح وجواز كونه منافع

- ‌(10) باب كم أصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟ وجواز الأكثر من ذلك والأقل والأمر بالوليمة

- ‌(11) باب عِتق الأمةِ وتزويجها وهل يصح أن يجعل العتق صداقا

- ‌(12) باب تزويج زينب ونزول الحجاب

- ‌(13) باب الهدية للعروس في حال خلوته

- ‌(14) باب إجابة دعوة النكاح

- ‌(15) باب في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم) الآية وما يقال عند الجماع

- ‌(16) باب تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها، ونشر أحدهما سر الآخر

- ‌(17) باب في العزل عن المرأة

- ‌(18) باب تحريم وطء الحامل من غيره حتى تضع، وذكر الغيل

- ‌أبواب الرضاع

- ‌(19) باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة

- ‌(20) باب التحريم من قِبَل الفحل

- ‌(21) باب تحريم الأخت وبنت الأخ من الرضاعة

- ‌(22) باب لا تُحرِّم المَصَّةُ ولا المَصَّتان

- ‌(23) باب نسخ عشر رضعات بخمس، ورضاعة الكبير

- ‌(24) باب إنما الرَّضاعة من المَجَاعة

- ‌(25) باب في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)

- ‌(26) باب الولد للفراش

- ‌(27) باب قبول قول القافة في الولد

- ‌(28) باب المقام عند البكر والثيب

- ‌(29) باب في القَسم بين النساء وفي جواز هبة المرأة يومها لضرتها

- ‌(30) باب في قوله تعالى: {تُرجِي مَن تَشَاءُ مِنهُنَّ وَتُؤوِي إِلَيكَ مَن تَشَاءُ}

- ‌(31) باب الحث على نكاح الأبكار وذوات الدين

- ‌(32) باب مَن قَدم من سفر فلا يعجل بالدخول على أهله فإذا دخل فالكيس الكيس

- ‌(33) باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، ومداراة النساء

- ‌(16) كتاب الطلاق

- ‌(1) باب في طلاق السنة

- ‌(2) باب ما يُحِلُّ المطلقة ثلاثًا

- ‌(3) باب إمضاء الطلاق الثلاث من كلمة

- ‌(4) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا} الآية

- ‌(6) باب إيلاء الرَّجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة

- ‌(7) باب فيمن قال: إن المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى

- ‌(8) باب فيمن قال: لها السكنى والنفقة

- ‌(9) باب لا تخرج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا إن اضطرت إلى ذلك

- ‌(10) باب ما جاء أن الحامل إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها

- ‌(11) باب في الإحداد على المَيِّت في العدة

- ‌(12) باب ما جاء في اللِّعَان

- ‌(13) باب كيفية اللِّعان ووعظ المتلاعنين

- ‌(14) باب ما يتبع اللِّعان إذا كمل من الأحكام

- ‌(15) باب لا ينفى الولد لمخالفة لون أو شبه

- ‌(17) كتاب العتق

- ‌(1) باب فيمن أعتق شركًا له في عبد وذكر الاستسعاء

- ‌(2) باب إنما الولاء لمن أعتق

- ‌(3) باب كان في بريرة ثلاث سنن

- ‌(4) باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته وفي إثم من تولى غير مواليه

- ‌(5) باب ما جاء في فضل عتق الرِّقبة المؤمنة وفي عتق الوالد

- ‌(6) باب تحسين صحبة ملك اليمين، والتغليظ على سيده في لطمه، أو ضربه في غير حد ولا أدب، أو قذفه بالزنا

- ‌(7) باب إطعام المملوك مما يأكل ولباسه مما يلبس، ولا يكلف ما يغلبه

- ‌(8) باب في مضاعفة أجر العبد الصالح

- ‌(9) باب فيمن أعتق عبيده عند موته وهم كل ماله

- ‌(10) باب ما جاء في التدبير وبيع المُدَبَّر

- ‌(18) كتاب البيوع

- ‌(1) باب النهي عن الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، والغرر

- ‌(2) باب النهي عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن تلقي الجلب، وعن التصرية، وعن النجش

- ‌(3) باب لا يبع حاضر لباد

- ‌(4) باب ما جاء: أن التصرية عيب يوجب الخيار

- ‌(5) باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض أو ينقل

- ‌(6) باب بيع الخيار، والصدق في البيع، وترك الخديعة

- ‌(7) باب النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها

- ‌(8) باب النَّهي عن المزابنة

- ‌(9) باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ بخرصها تمرا

- ‌(10) باب فيمن باع نخلًا فيه تمر، أو عبدا وله مال

- ‌(11) باب النَّهي عن المحاقلة والمخابرة والمعاومة

- ‌(12) باب ما جاء في كراء الأرض

- ‌(13) باب فيمن رأى أن النهي عن كراء الأرض إنما هو من باب الإرشاد إلى الأفضل

- ‌(14) باب المساقاة على جزء من الثمر والزرع

- ‌(15) باب في فضل من غرس غرسًا

- ‌(16) باب في وضع الجائحة

- ‌(17) باب قسم مال المفلس، والحث على وضع بعض الدين

- ‌(18) باب من أدرك ماله عند مُفلس

- ‌(19) باب في إنظار المُعسِر والتجاوز عنه ومطل الغني ظلم، والحوالة

- ‌(20) باب النَّهي عن بيع فضل الماء، وإثم منعه

- ‌(21) باب النهي عن ثمن الكلب، والسنور، وحلوان الكاهن، وكسب الحجام

- ‌(22) باب ما جاء في قتل الكلاب واقتنائها

- ‌(23) باب في إباحة أجرة الحجَّام

- ‌(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

- ‌أبواب الصرف والربا

- ‌(25) باب تحريم التفاضل والنساء في الذهب بالذهب والورق بالورق

- ‌(26) باب تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير والتمر والملح

- ‌(27) باب بيع القلادة فيها خرز وذهب بذهب

- ‌(28) باب من قال: إن البُرَّ والشعير صنف واحد

- ‌(29) باب فسخ صفقة الربا

- ‌(30) باب ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة

- ‌(31) باب اتِّقاء الشبهات ولعن المقدم على الربا

- ‌(32) باب بيع البعير واستثناء حملانه

- ‌(33) باب الاستقراض وحسن القضاء فيه

- ‌(34) باب في السلم والرهن في البيع

- ‌(35) باب النَّهي عن الحكرة، وعن الحلف في البيع

- ‌(36) باب الشفعة

- ‌(37) باب غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختلف في الطريق

- ‌(38) باب إثم من غصب شيئًا من الأرض

- ‌(19) كتاب الوصايا والفرائض

- ‌(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز

- ‌(2) باب الصدقة عمَّن لم يوص، وما ينتفع به الإنسان بعد موته

- ‌(3) باب ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند موته

- ‌(4) باب ألحقوا الفرائض بأهلها، ولا يرث المسلم الكافر

- ‌(5) باب ميراث الكلالة

- ‌(6) باب من ترك مالًا فلورثته وعصبته

- ‌(7) باب قوله عليه الصلاة والسلام: لا نورث

- ‌(20) كتاب الصَّدقة والهِبَة والحَبس

- ‌(1) باب النهي عن العود في الصدقة

- ‌(2) باب فيمن نحل بعض ولده دون بعض

- ‌(3) باب المنحة مردودة

- ‌(4) باب ما جاء في العمرى

- ‌(5) باب فيما جاء في الحُبس

- ‌(21) كتاب النذور والأيمان

- ‌(1) باب الوفاء بالنذر، وأنه لا يرد من قدر الله شيئا

- ‌(2) باب لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا فيما لا يملك العبد

- ‌(3) باب فيمن نذر أن يمشي إلى الكعبة

- ‌(4) باب كفارة النذر غير المسمى كفارة يمين، والنهي عن الحلف بغير الله تعالى

- ‌(5) باب النهي عن الحلف بالطواغي، ومن حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله

- ‌(6) باب من حلف على يمين فرأى خيرًا منها فليكفر

- ‌(7) باب اليمين على نية المستحلف والاستثناء فيه

- ‌(8) باب ما يخاف من اللجاج في اليمين، وفيمن نذر قربة في الجاهلية

الفصل: ‌(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر

(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر

[1422]

عَن أَبِي هُرَيرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَت بَنُو إِسرَائِيلَ تَسُوسُهُم الأَنبِيَاءُ؛ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ،

ــ

(10)

ومن باب: الوفاء ببيعة الأول وضرب عنق الآخر

قوله كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء عليهم السلام، كلما هلك نبي خَلَفَهُ نبي، إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وبنوه أولاده وهم الأسباط، وهم كالقبائل في أولاد إسماعيل، قال ابن عباس: إسرا هو عبد، وإيل هو الله تعالى، فمعناه: عبد الله - وفيه لغات، وقيل: هو عِبرِيٌّ، اسم واحد بمعنى يعقوب.

ويعني بهذا الكلام أنّ بني إسرائيل كانوا إذا ظهر فيهم فساد أو تحريفٌ في أحكام التوراة بعد موسى بعث الله تعالى لهم نبيا يقيم لهم أمرهم ويصلح لهم حالهم، ويزيل ما غُيّرَ وبُدِّلَ من التوراة وأحكامها، فلم يزل أمرهم كذلك إلى أن قتلوا يحيى وزكريا (1) عليهما السلام، فقطع الله تعالى ملكهم وَبَدَّدَ شملهم ببختنصَّر وغيره، ثم جاءهم عيسى ثم محمد صلى الله عليهما وسلم فكذبوهما، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} ؛ وهو في الدنيا ضَربُ الجزية ولزوم الصَّغار والذلة، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ.

ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء بعثًا، وكتابه لا يقبل التغيير أسلوبًا ونظمًا، وقد تَوَلَّى الله تعالى كلامه صيانةً وحفظًا، وجعل علماء أمته قائمين ببيان مشكله وحفظ حروفه وإقامة أحكامه وحدوده، كما قال صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل

(1) في (ع): يحيى بن زكريا. والمثبت من (ج) و (ج 2).

ص: 47

وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فتَكثُرُ.

ــ

الجاهلين (1)، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (2)، ولَمّا كان أمر هذه الأمة كذلك اكتفى بعلمائها عمَّا كان من توالي الأنبياء هنالك.

وقوله وإنه لا نبي بعدي، هذا النفي عامٌ في الأنبياء والرُّسل؛ لأن الرَّسول نبي وزيادة، وقد جاء نصًّا في كتاب الترمذي قوله لا نبي بعدي ولا رسول (3)، وقد قال الله تعالى:{وَلَكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ومن أسمائه في الكتب القديمة (4) وفيما أطلقته هذه الأمة: خاتم الأنبياء. ومما سمى به نفسه: العاقب، والمقفي؛ فالعاقب: الذي يَعقُبُ الأنبياءَ، والمُقَفَّي: الذي يقفوهم؛ أي: يكون بعدهم.

وعلى الجملة: هو أمرٌ مجمع عليه معلوم من دين هذه الأمة، فمن ادَّعى أنَّ بَعدَهُ نبي أو رسول فإن كان مُسِرًّا لذلك واطّلع عليه بالشهادة المعتبرة قُتل قِتلة زنديق، فإن صرَّح بذلك فهو مرتد يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل قِتلة مُرتدٍّ فيسبى ماله.

وقوله (5) وستكون خلفاء فتكثر، هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غيب وقع على نحو ما أخبر به ووُجد كذلك في غير ما وقت؛ فمن ذلك مبايعة الناس لابن الزبير

(1) رواه ابن عدي (1/ 152 - 153)، والقرطبي في تفسيره (1/ 36 و 7/ 311)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 9 - 10)، وابن حجر في لسان الميزان (1/ 210).

(2)

قال في كشف الخفاء: قال السيوطي في الدر المنثور: لا أصل له. وقال في المقاصد: قال شيخنا -ابن حجر-: لا أصل له. (كشف الخفاء رقم 1744).

(3)

رواه الترمذي (2219) دون قوله: (ولا رسول). وهو عند الحاكم (2/ 577) بلفظ المصنِّف.

(4)

في (ج 2): المتقدمة.

(5)

ساقط من (ع).

ص: 48

قَالَوا: فَمَا تَأمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ،

ــ

بمكة ولمروان بالشام ولبني العباس بالعراق ولبني مروان بالأندلس ولبني عبيد بمصر، ثم لبني عبد المؤمن بالمغرب (1).

وقوله فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل دليل على وجوب الوفاء ببيعة الأول، وسكت في هذا الحديث عمَّا يحكم به على الآخر، وقد نصَّ عليه في الحديث الآتي حيث قال: فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر، وفي رواية فاضربوه بالسيف كائنًا من كان، وهذا الحكم مجمعٌ عليه عند تقارب الأقطار وإمكان استقلال واحد بأمور المسلمين وضبطها، فأمَّا لو تباعدت الأقطار وخيف ضَيعَةُ البعيد من المسلمين ولم يتمكن الواحد من ضبط أمور من بَعُدَ عنه فقد ذكر بعضُ الأصوليين أنهم يُقيمون لأنفسهم واليًا يدبرهم ويستقل بأمورهم، وقد ذكر أنَّ ذلك مذهب الشافعي في الأم.

قلت: ويمكن أن يقال إنهم يقيمون من يدبّر أمورهم على جهة النيابة عن الإمام الأعظم، لا أنّهم يخلعون الإمام المتقدم حكمًا ويُوَلُّونَ هذا بنفسه مستقلًا، هذا ما لا يوجد نصًّا عن أحدٍ ممن يُعتبر قوله. والذي يمكن أن يُفعل مثل هذا إذا تعذر الوصول إلى الإمام الأعظم أن يُقيموا لأنفسهم من يدبّرهم ممن يعترفُ للإمام بالسَّمع والطَّاعة، فمتى أمكنهم الوصول إلى الإمام فالأمر له في إبقاء ذلك أو عَزلِه.

ثم للإمام أن يفوض لأهل الأقاليم البعيدة التفويض العام، ويجعل للوالي عليهم الاستقلال بالأمور كلِّها لتعذر المراجعة عليهم، كما قد اتفق لأهل الأندلس وأقصى بلاد العجم.

فأمَّا لو عُقِدت البيعةُ لإمامين معًا في وقتٍ واحدٍ في بلدين متقاربين

(1) زاد في (ج 2): ولبني. . . باليمن.

ص: 49

وَأَعطُوهُم حَقَّهُم، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُم عَمَّا استَرعَاهُم.

رواه البخاريّ (3455)، ومسلم (1842).

[1423]

وعن عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلنَا مَنزِلًا، فَمِنَّا مَن يُصلِحُ خِبَاءَهُ وَمِنَّا مَن يَنتَضِلُ، وَمِنَّا مَن هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذ نَادَى مُنَادِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةَ جَامِعَةً! فَاجتَمَعنَا إِلَى

ــ

فالإمامة لأرجحهما، وهل قرابة أحدهما من الإمام المتوفى موجبة للرجحان أم لا؟ اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: يُقَدّم الأقعد فالأقعد به (1) كولاية النكاح. ومنهم من لم يعتبر ذلك وفرَّق بين الولايتين، والفرق واضحٌ، فأمَّا لو تساويا من كل وجه فَيُقرعُ بينهما. والفرض في اثنين كل واحد منهما كامل أهلية الولاية باجتماع الشروط المعتبرة المنصوص عليها في كتب أئمتنا المتكلمين.

وقوله أعطوهم حقهم يعني به السَّمع والطاعة والذَّبَّ عِرضًا ونفسًا والاحترام، والنُّصرة له على مَن بغى عليه.

وقوله ومنا من ينتضل؛ أي: يرمي بالسهام تَدرُّبا ومداومةً - والمناضلةُ: المراماة بالسهام.

وقوله ومنَّا من هو في جشره، قال أبو عبيد: الجشر قوم يخرجون إلى المرعى بدوابهم. قال الأصمعي: وهم يبيتون فيه، فربما رأوا أنه (2) سفر تُقصر فيه الصلاة وليس كذلك، ولذلك قال في حديث عثمان: لا يغرَّنكم جَشَرُكُم من صلاتكم (3)؛ يعني: لا تَقصُروا صلاتكم فيه.

وقول منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة خبرٌ بمعنى الأمر؛ كأنَّه قال:

(1) أي: الأقرب نسبًا.

(2)

في (ج 2): ذلك.

(3)

ذكره الزمخشري في (الفائق) في غريب الحديث (1/ 215).

ص: 50

رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ لَم يَكُن نَبِيٌّ قَبلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيهِ أَن يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيرِ مَا يَعلَمُهُ لَهُم، وَيُنذِرَهُم شَرَّ مَا يَعلَمُهُ لَهُم، وَإِنَّ أُمَّتَكُم هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتنَةٌ فَيُدفِّقُ بَعضُهَا بَعضًا، وَتَجِيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤمِنُ: هَذِهِ مُهلِكَتِي! ثُمَّ تَنكَشِفُ، وَتَجِيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ! فَمَن أَحَبَّ أَن يُزَحزَحَ

ــ

اجتمعوا للصلاة. وكأنَّهُ كان وقت صلاة، فلمَّا جاؤوا صلّوا معه، وسكت الراوي عن ذلك، وإلَاّ فمن المُحال أن يناديَ منادي الصَّادق بالصلاةِ ولا صلاةَ.

وقوله صلى الله عليه وسلم إنَّه لم يكن نبي إلَاّ كان حقًّا عليه أن يدلّ أُمَّته على خير ما يَعلَمُه لهم؛ أي حقًّا واجبا؛ لأن ذلك من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان.

وقوله وإن أمتكم هذه جُعِلَ عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، يعني بأوّل الأمة زمانَه وزمانَ الخلفاءِ الثلاثة إلى قتل عثمان، فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة (1) واستقامة أمرها وعافية دينها (2)، فلما قتل عثمان ماجت الفتن كموج البحر، وتتابعت كقطع الليل المظلم، ثم لم تزل ولا تزال متواليةً إلى يوم القيامة. وعلى هذا فأول آخر هذه الأمة - المَعنِيُّ في هذا الحديث - مقتل عثمان، وهو آخر بالنسبة إلى ما قبله من زمان الاستقامة والعافية، وقد دلّ على هذا قوله وأمور تنكرونها، والخطاب لأصحابه - فدلّ على أن منهم من يدرك أول ما سَمَّاه آخرًا، وكذلك كان.

وقوله وتجيء الفتنةُ فَيَدفِقُ بعضها بعضًا، الرواية يدفق بالتخفيف وفتح الياء، هذه رواية الطبري عن الفارسي، ومعنى فيدفق يدفع، والدَّفقُ الدَّفعُ.

(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).

(2)

ساقط من (م).

ص: 51

عَن النَّارِ وَيُدخَلَ الجَنَّةَ فَلتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَليَأتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَن يُؤتَى إِلَيهِ، وَمَن بَايَعَ إِمَامًا فَأَعطَاهُ صَفقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلبِهِ فَليُطِعهُ إِن استَطَاعَ، فَإِن جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ. قال عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة: فَدَنَوتُ مِنهُ فَقُلتُ: أَنشُدُكَ اللَّهَ، آنتَ سَمِعتَ هَذَا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَأَهوَى إِلَى أُذُنَيهِ وَقَلبِهِ بِيَدَيهِ وَقَالَ: سَمِعَتهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلبِي! فَقُلتُ لَهُ: هَذَا ابنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأمُرُنَا أَن نَأكُلَ أَموَالَنَا

ــ

ومنه الماء الدَّافِق. ويعني: أنها كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضًا، وشُبِّه المؤمنُ في هذه الفتن بالعائِم الغريق بين الأمواج، فإذا أقبلت عليه موجة قال: هذه مهلكتي! ثم تروح عنه تلك، فتأتيه أخرى فيقول: هذه هذه! إلى أن يغرق بالكلّية، وهذا تشبيه واقع. ورواه أكثر الرُّواة فيُرَقِّقُ بالراء المفتوحة والقاف الأولى المكسورة؛ أي: يُسَيبُ بعضها بعضًا ويشيرُ إليه، كما قالوا في المثل: عن صَبُوحٍ تًرَقِّقُ؟

ويُزَحزَح عن النار: يُنَحَّى عنها ويُؤخّر منها.

وقوله وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه؛ أي: يجيء إلى الناس بحقوقهم من النصح والنيّة الحسنة بمثل الذي يحبُّ أن يُجَاءَ إليه به، وهذا مِثلُ قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1)، والنَّاسُ هنا الأئمة والأمراء، فيجب عليه لهم من السمع والطاعة والنُّصرة والنَّصيحة مثل ما لو كان هو الأمير لكان يحب أن يُجاءَ له به.

وقوله ومن بايع إمامًا فأعطاه صَفقَةَ يده وثمرةَ فؤاده يدلّ على أن البيعة لا يكتفى فيها بمجرّد عقد اللسان فقط، بل لا بد من الضرب باليد، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوقَ أَيدِيهِم} ولكن

(1) رواه أحمد (3/ 176 و 272)، والبخاري (13)، ومسلم (45)، وابن ماجه (66)، والترمذي (2515)، والنسائي (8/ 125).

ص: 52

بَينَنَا بِالبَاطِلِ وَنَقتُلَ أَنفُسَنَا، وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُم وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم، قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَطِعهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاعصِهِ فِي مَعصِيَةِ اللَّهِ.

رواه مسلم (1844)(46)، وأبو داود (4248)، والنسائي (7/ 153).

* * *

ــ

ذلك للرجال فقط على ما يأتي، ولا بُدَّ من التزام البيعة بالقلب وترك الغش والخديعة فإنها من أعظم العبادات، فلا بُدَّ فيها من النية والنصيحة.

والصفقة أصلها الضرب بالكفِّ على الكفِّ أو بأصبعين على الكفّ، وهو التصفيق، وقد تقدَّم في كتاب الصلاة.

واستحلاف عبد الرحمن زيادةٌ في الاستيثاق لا أنه كذَّبَهُ ولا اتّهمه، وما ذكره عبد الرحمن عن معاوية إغيَاءٌ في الكلام على حسب ظنه وتأويله، وإلَاّ فمعاوية رضي الله عنه لم يُعرف مِن حاله ولا من سيرته شيء مما قاله له، وإنما هذا كما قالت طائفة من الأعراب: إنَّ ناسًا من المُصَّدِّقين يظلموننا - فسمّوا أخذ الصدقة ظُلمًا حسب ما وقع لهم.

وقول ابن عمرو أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية (1) الله، هذا كما قاله صلى الله عليه وسلم: فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (2).

* * *

(1) في الأصول: "في معصيته" والتصحيح من التلخيص وصحيح مسلم.

(2)

تقدم تخريجه في التلخيص برقم (1718).

ص: 53