الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب بيع الخيار، والصدق في البيع، وترك الخديعة
[1612]
عَن ابنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: البَيِّعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا،
ــ
عليه؛ لأنه هو الذي كان اشتراه من الذي أعطيه، فباعه قبل أن يستوفيه كما قد نصَّ عليه فيه. والجار موضع معروف بالسَّاحل كان يجتمع فيه الطعام فيُرزق الناس منه (1).
(6)
ومن باب: بيع الخيار
قد تقدَّم القول على أصل الخيار في الباب قبل هذا. و (البيِّعان) تثنية (بيع) وهو يقال على البائع وعلى المشتري. كما يقال كل واحد منهما على الآخر. وهو اسم فاعل من: باع. كما يقال: تيِّق، من: تاق، وميِّقٌ من: ماق.
و(قوله: كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا) وفي الرواية الأخرى: (وكانا جميعًا) ظاهر ألفاظ هذا الحديث وإن كثرت متواردة على ثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين. وإن التفرُّق المذكور فيه؛ إنما هو بالأبدان. وإليه ذهب كثير من الصحابة والتابعين، كسعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب، والليث، والثوري، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، والأوزاعي، والشافعي، وأهل الظاهر. وذهبت طائفة من أصحابنا وغيرهم: إلى أنه محمول على ظاهره، لكن على جهة الندب، لا على الوجوب. وترك العمل به مالك، وربيعة، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والثوري، والنخعي
(1) الجار: بتخفيف الراء، مدينة على ساحل بحر القلزم (الأحمر) بينها وبين المدينة المنورة يوم وليلة. معجم البلدان (2/ 92).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في أحد قوليهما. ورأوا: أن التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع، ولا خيار إلا إن اشترط.
والذي لأجله ترك مالك العمل بظاهر الحديث: ما نص عليه في الموطأ لما ذكر هذا الحديث، ثم قال: وليس لهذا عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به (1). وظاهر هذا: أن أهل المدينة اتفقوا على ترك العمل به. وليس ذلك الظاهر بصحيح؛ لأن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وقد قالوا به، وقد أنكره ابن أبي ذئب على مالك. وقد اعتذر أصحابنا عن مالك بأعذار كثيرة أجمعها: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي فقال على قول مالك: ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف؛ يريد: أن فرقتهما ليس لها وقت معلوم. وهذه جهالة وقف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة، والمنابذة. وكبيع على خيار إلى أجل مجهول. وما كان كذلك فهو فاسد قطعًا، ولا يعارض هذا الأصل بظاهر لم يتحصَّل المراد منه مفهومًا؛ إذ تفسير ابن عمر ليس بحجة، ولهذا عدل عن ظاهره الفقهاء السبعة (2)، وغيرهم من السَّلف. وأوَّلوه على أنه قد روي في بعض طرقه: ما لم
(1) الموطأ (2/ 671).
(2)
جُمِعَت أسماؤهم في هذين البيتين:
ألا كل من لا يقتدي بأئمةٍ
…
قسمتُه ضيزى عن الحق خارجة
فَخُذْهُم: عبيد الله، عروة، قاسم
…
سعيد، سليمان، أبو بكر، خارجة
- عبيد الله: هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي.
- عروة: هو ابن الزبير.
- القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق.
- سعيد: هو ابن المسيب بن حَزْن بن أبي وهب.
- سليمان: هو ابن يسار الهلالي المدني.
- أبو بكر: هو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي.
- خارجة: هو ابن زيد بن ثابت الأنصاري.
إِلَّا بَيعَ الخِيَارِ.
رواه أحمد (2/ 4)، والبخاريُّ (2109)، ومسلم (1531)(43)، وأبو داود (3455)، والترمذي (1245)، والنسائي (7/ 249).
[1613]
وعَن ابنِ عُمَرَ، عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَو يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِن خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكِ، فَقَد وَجَبَ البَيعُ، وَإِن تَفَرَّقَا بَعدَ أَن تَبَايَعَا، وَلَم يَترُك وَاحِدٌ مِنهُمَا البَيعَ، فَقَد وَجَبَ البَيعُ.
ــ
يتفرَّقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله. رواه الليث عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. فظاهر هذه الزيادة مخالف لظاهر أول الحديث، فإن تأول من أخذ بظاهر الحديث لفظ الاستقالة: باختيار الفسخ تأولنا لفظ الخيار باختيار الاستقالة، فإذا تقابل التأويلان وقف الحديث. والقياس في جانبنا.
قلت (1): وهذا كلام وجيزٌ في لفظه، جامعٌ في معناه لكل ما يَتَمسَّك به متمسِّك من المالكيِّين، وممن هو على مذهبهم. فلنقتصر عليه. والله الموفق.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بيع الخيار) معناه على مذهب الشافعي: أن خيار المجلس لا أثر له مع وجود خيار الشرط، فلو تفرَّقا مع اشتراط خيار الثلاث لم يجب البيع بنفس التفرُّق، بل بمضي مدة الخيار المشترط، ويكون هذا الاستثناء من قوله:(لا بيع بينهما) وهو استثناء موجب من منفيّ. فكأنه قال: كلٌّ بيِّعَين فلا حُكم لبيعهما ما داما في مجلسهما إلا بيع الخيار المشترط، فحكمه باق إلى مدته،
(1) سقطت من (ع).
وفي أخرى: كُلُّ بَيِّعَينِ لَا بَيعَ بَينَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا بَيعُ الخِيَارِ.
وفي رواية: قَالَ نَافِعٌ: فَكَانَ - يعني ابن عمر - إِذَا بَايَعَ رَجُلًا، فَأَرَادَ أَلَا يُقِيلَهُ، قَامَ فَمَشَى هُنَيَّهةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيهِ.
رواه البخاريُّ (2112)، ومسلم (1531)(44 و 45 و 46).
[1614]
وعَن حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ - وولد في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة - عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيعِهِمَا، وَإِن كَذَبَا وَكَتَمَا، مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا.
رواه أحمد (3/ 403)، والبخاري (2079)، ومسلم (1532)، وأبو داود (3459)، والنسائي (7/ 244 و 245).
ــ
وإن افترقا بالأبدان. ويمكن تنزيله على مذهب مالك على هذا النحو، غير أن التفرُّق يحمل على التفرُّق بالأقوال، ويكون البيعان بمعنى المتساومين. غير أن الاستثناء يكون منقطعًا؛ لأن المتبايعين بالخيار الشرطي ليسا متساومين، بل متعاقدين، فيكون تقديره: لكن بيع الخيار يلزم حكمه بانقضاء مدته. والله تعالى أعلم. وقد تقدَّم القول في بيع الخيار وفي مدته.
و(قول نافع: إن ابن عمر كان إذا بايع رجلًا، وأراد ألا يقيله، قام فتمشى هنيهة ثم رجع إليه) دليل: على أن ابن عمر كان يرى التفرُّق بالأبدان، وأن ذلك يجوز. وحينئذ يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ويعتذر عن ابن عمر بأن هذه الزيادة لم يسمعها، أو لم تصح عنده. وقد حكى أبو عمر الإجماع: على جواز ما فعل ابن عمر. فإن صحَّ هذا، فتلك الزيادة متروكة الظاهر بالإجماع.
و(هنيهة): تصغير هنةٍ، وهي كلمه يعبَّر بها عن كل شيء قليل.
و(قوله: فإن صدقا وبيَّنا) أي: إن صدقا في الإخبار عن الثمن والمثمون
[1615]
وعن ابنَ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُخدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن بَايَعتَ فَقُل: لَا خِلَابَةَ. فَكَانَ إِذَا بَايَعَ يَقُولُ: لَا خِيَابَةَ.
رواه أحمد (2/ 61)، والبخاريُّ (2407)، ومسلم (1533).
* * *
ــ
فيما يباع مرابحة، وبيّنا ما فيها من العيوب.
و(بورك لهما) أي: بورك في الثمن: بالنماء، وفي المثمون بدوام الانتفاع به. (وإن كذبا، وكتما، محقت تلك البركة) أي: أذهبت، ورفعت. والرَّجل الذي كان يخدع في البيوع، هو: حَبَّان بن منقذ بن عمرو الأنصاري، والد يحيى وواسع، ابني حبَّان، شهد أحدًا. أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شُجَّ في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم مأمومة (1) خُبل (2) منها عقله، ولسانه.
وذكر الدارقطني: أنه كان ضرير البصر. وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له عهدة الثلاث (3)؛ إذ كان أكثر مبايعته في الرَّقيق.
و(الخلابة): الخديعة. ومنه قولهم: إذا لم تغلِب فاخلُب.
و(قوله: لا خيابة) روايتنا فيه: بالياء باثنتين من تحتها مكان اللام. وهو الصحيح؛ لأنه كان ألثغ، يخرج اللام من غير مخرجها. وقد رواه بعضهم:(لا خيانة) بالنون، وليس بالمشهور. وفي غير كتاب مسلم: أنه كان يقول: لا خذابة - بالذال المعجمة -. وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أنس. وقال: هو
(1) قال في اللسان: شجاج الرأس عشرة، وذكر منها: المأمومة، ويقال لها: الآمّة، وهي التي لا يبقى بينها وبين الدماغ إلا جلدة رقيقة، وفيها ثلث الدية.
(2)
جاء في حاشية (ل 1): قال ابنُ القطاع: خَبِل الزمانُ والشيءُ خَبْلًا، وخَبَالًا: اضطرب. وخُبِل الرجل: اضطرب عقله.
(3)
رواه الحاكم (2/ 22).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصحيح. وقال فيه: إن رجلًا كان في عقله ضعف، وكان يبايع، وأن أهله أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! احجر عليه. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم (1) فنهاه، فقال: يا رسول الله! إني لا أصبر عن البيع! فقال: (إذا بايعت فقل: لا خلابة (2)). وخرَّجه أبو داود وقال فيه: (إن كنت غير تارك للبيع فقل: ها وها ولا خلابة (3)). وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه: (إذا بايعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال)(4) وفيه (5) أبواب من الفقه مختلف فيها:
أولها: أن كل من يخدع في البيوع لقلة خبرته، وضعف عقله، فهل يحجر عليه أم لا؟ فقال بالحجر عليه أحمد، وإسحاق. وقال آخرون: لا يحجر عليه. والقولان في المذهب (6).
وثانيها: أن الغبن هل يوجب الخيار للمغبون أم لا؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة، ومالك - في أحد قوليه - إلى نفي الخيار. وذهب آخرون إلى لزوم الخيار. وإليه ذهب البغداديون من أصحابنا.
ثم اختلف هؤلاء في حدِّ الغبن الموجب للخيار. فمنهم من حدَّه بالثلث. ومنهم من حدَّه بالتفاحش الذي لا يُتغابن بمثله.
وثالثها: مدَّة الخيار. هل هي مقدَّرة بالثلاث في كل مبيع، أو يختلف ذلك بحسب الاحتياج إلى اختيار المبيع على ما قد تقدم.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
رواه الترمذي (1250).
(3)
رواه أبو داود (3501).
(4)
ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/ 2/ 17).
(5)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(6)
ساقط من (ع) و (ل 1).