الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ بخرصها تمرا
[1622]
عن زَيد بن ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيعِ العَرِيَّةِ بِخَرصِهَا تَمرًا.
ــ
للأنصار: (ما تصنعون بمحاقلكم؟ )(1) يعني: مزارعهم. وفي مثل العرب: لا تنبت البقلة إلا الحقلة. وهي التي تسمى في العراق: القراح. وقال الليث: هي بيع الزرع قبل أن يغلظ. وقال أبو عبيد: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقال قوم: هي المزارعة بالجزء مما تنبته الأرض. وسيأتي القول في كراء الأرض.
(9)
ومن باب: الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ
وهي في اللغة - على ما نقله الجوهري -: النخلة يُعرِيهَا صاحبها رجلًا محتاجًا، فيجعل ثمرها له عامًا، فيعروها، أي: يأتيها. وهي: فعيلة، بمعنى: مفعولة. وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت، فصارت في عداد الأسماء، كالنطيحة، والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة؛ قلت: نخلة عري. وأنشد لسويد بن الصامت:
لَيسَت بِسَنهاء ولا رُجبيَّة
…
ولكن عَرَايَا في السِّنِين الجَوائح (2)
وقال غيره: هي فعيلة، بمعنى: فاعلة؛ أي: عريت من ملك مُعريها. وقال غيرهما: عراه، يعروه: إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه؛ أي: أعطاه إياها، كما
(1) رواه أحمد (4/ 143)، والبخاري (2339)، ومسلم (1548)(114)، وأبو داود (3294)، والنسائي (7/ 49)، وابن ماجه (2459).
(2)
قال في اللسان: سانهت النخلة، وهي: سنهاء: حملت سنة، ولم تحمل أخرى.
والرَّجْبَةُ: أن تُعْمَدَ النخلة بخشبة ذات شعبتين، إذا كثُر حملُها؛ لئلّا تتكسَّر أغصانُها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقال: سألني فأسألته. وطلبني فأطلبته. فالعريَّة: اسم للنخلة المعطى ثمرها. فهي اسم لعطيَّة خاصة. وقد سمت العرب عطايا خاصة بأسماء خاصة، كالمنيحة: لعطية الشاة لِلَّبن. والإفقار: لما ركب فقاره. والإخبال: لما ينتفع به من المال.
قلت: فقد حصل من نقل أهل اللغة: أن العرية عطية؛ لا بيعٌ. ولما ثبت ذلك فسَّر مالك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، والأوزاعي العرية المذكورة في الحديث: بأنَّها إعطاء الرَّجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عامًا، على ما تقتضيه اللغة. غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة، وأحكام متعددة. وحاصل مذهب مالك في العرية: أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيها أن يبيعها إذا بدا صلاحها من كل أحد بالعين، والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:
أحدها: أن تكون أقل من خمسة أوسقٍ. وفي الخمسة خلاف.
وثانيها: أن تكون بخرصها من نوعها ويابسها نخلًا، وعنبًا. وفي غيرهما مما يوسق، ويدخر للقوت، خلاف.
وثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجداد.
ورابعها: أن يكون المشترى جملتها، لا بعضها.
وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من المُعرِي قبل ذلك على شرط القطع لم يجز، لتعدِّي محل الرُّخصة.
وأما الشافعي: فالعرية عنده: بيع الرُّطب في رؤوس النخل بتَمر مُعَجَّل. فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها. وكأنه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية: أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا. وهذا لا ينبغي أن يعوَّل عليه؛ لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيًّا، فيقال: فهمه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت به عرف غالب
وفي رواية: رَخَّصَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي العَرِيَّةِ، يَأخُذُهَا أَهلُ البَيتِ بِخَرصِهَا تَمرًا، يَأكُلُونَه رُطَبًا.
ــ
شرعي حتى يرجِّحه على اللغة. وغايته: أن يكون رأيًا ليحيى، لا رواية له، ثم يعارضه بتفسير ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب الرجل للرجل النخلات، فيّشق عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها. ثم هو عين المزابنة المنهي عنها، ووضع رخصة في موضع لا ترهق إليه حاجة وكيدة، ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع تمره بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا. قيل: فأجدر بيع الرُّطب بالتمر؛ إذا كان لا على رؤوس النخل؛ إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك، فلا يجوز تفسير العرية بما ذكروا.
وأمَّا أبو حنيفة: فإنَّه فسَّر العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة، أو نخلات، ولم يقبضها الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرا، ويتمسك بالثمرة، جاز له ذلك؛ إذ ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة؛ التي لم تجب بناء على أصله في أن الهبة لا تجب إلا بالقبض. وهذا المذهب إبطال لحديث العرية من أصله فيجب اطراحه. وذلك: أن حديث العرية تضمن أنه بيع مُرَخَّص فيه في مقدار مخصوص. وأبو حنيفة يلغي هذه القيود الشرعية.
و(قوله: ورخص في بيع العرية بخرصها تمرًا يأكلها أهل البيت رطبًا) الخِرصُ -بكسر الخاء - هو: اسم للمخروص، وبفتح الخاء هو: المصدر. والرواية هنا: بالكسر. و (أهل البيت) - على مذهب مالك ومن قال بقوله -: هم المُعرُون، فيضمنون مقدار العرية، فيدفعون ذلك للمعرى له تمرًا عند الجداد رفقًا به حيث كفي المؤن، وأعطي ما يقتات به. ويحصل من ذلك للمعري (1) دفع ضرر
(1) سقطت من (ل 1).
وفي أخرى: أَن يُبَاعَ بخرصها كيلا مكان تمرا. قَالَ يَحيَى بن سعيد: العَرِيَّةُ: أَن يَشتَرِيَ الرَّجُلُ تَمَرَ النَّخَلَاتِ لِطَعَامِ أَهلِهِ رُطَبًا بِخَرصِهَا تَمرًا.
رواه أحمد (5/ 186)، والبخاريُّ (2188)، ومسلم (1539)(61 و 63)، والنسائي (7/ 267)، وابن ماجه (2269).
[1623]
وعَن بُشَيرِ بنِ يَسَارٍ، عَن بَعضِ أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِن أَهلِ دَارِهِم، مِنهُم سَهلُ بنُ أَبِي حَثمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بَيعِ الثَّمَرِ بِالتَّمرِ، وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا، تِلكَ المزابنة. إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيعِ العَرِيَّةِ: النَّخلَةِ وَالنَّخلَتَينِ، يَأخُذُهَا أَهلُ البَيتِ بِخَرصِهَا تَمرًا، يَأكُلُونَهَا رُطَبًا.
رواه أحمد (4/ 2)، والبخاريُّ (2191)، ومسلم (1540)، وأبو داود (3363)، والترمذيُّ (1303)، والنسائي (7/ 268).
[1624]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيعِ العَرَايَا بِخَرصِهَا فِيمَا دُونَ خَمسَةِ أَوسُقٍ، أَو فِي خَمسَةِ أوسق، يَشُكُّ دَاوُدُ بن الحصين.
ــ
تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها، وسقيها، واجتنائها. فظهر لمال: أن العرية إنما رخص فيها لأنها من باب المعروف، والرفق، والتسهيل في فعل الخير، والمعونة عليه. وأما على مذهب الشافعي: فأهل البيت عنده هم: المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها رطبًا. وظهر له: أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب. وقد ذكرنا آنفًا ضعف هذا المعنى.
و(قوله: فيما دون خمسة أوسق) أو (في خمسة أوسق) دليل على أن في العرية إنما تجري فيما يُوسَّق ويُكال. ثم هل تقصر على التمر والزبيب، أو يلحق
رواه أحمد (2/ 237)، والبخاري (2190)، ومسلم (1541)، وأبو داود (3364)، والترمذي (1301)، والنسائي (7/ 268).
* * *
ــ
بهما ما في معناهما مما يُدَّخر للقوت؟ قولان؛ وقد تقدَّما. والأولى: التعدية، والإلحاق؛ لأن المنصوص عليه في الحديث التمر، وقد ألحق بها الزبيب قولًا واحدًا عندنا، وليس منصوصًا عليه، ولا سبب للإلحاق إلا أن الزبيب في معنى التمر، فيلحق بهما كل ما في معناهما من المدخر للقوت.
وقد وسَّع المناط يحيى بن عمر من أصحابنا فقاس سائر الثمار على النخل والعنب، فأجاز بيع الثمار كلها بخرصها إذا طابت إلى الجداد. وشذَّ في ذلك شذوذًا منكرًا لم يقل به أحدٌ من أهل العلم. وقد دلَّ هذا الحديث على قصر الرُّخصة على هذا القدر فلا يزاد عليه. لكن هذا إنما شرط في بيعها من معريها بخرصها كما تقدَّم، وأمَّا من غيره، أو منه بالعين أو بالعروض، فجائز مطلقا من غير تقدير. هذا هو المشهور عن المذهب. وقد روي عنه أنه لا يجوز شراؤها للمعري إلا بالخرص خاصة، لا بغيره؛ لأنه من باب: العود في الهبة، ومحل الرُّخصة الخرص فيقصر عليه. وهذا هو سبب الخلاف في أكثر مسائل هذا الباب؛ أعني: هل يقاس على الرخص، أو لا؟
و(قوله: فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق) هو شكٌّ من داود بن الحصين. وموضع الشك: الخمسة. فتطرح، ويعوَّل على أن الجواز مخصوص بما دونها لأوجه:
أحدها: أن الحكم لا يثبت بالشك.
والثاني: أن الأصل في المزابنة المنع، إلا فيما تحققت فيه الرخصة، ولم تتحقق هنا في الخمسة، بل فيما دونها.
والثالث: أن الخمسة الأوسق هو أول مقادير المال الكثير، الذي تجب فيه