الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب في إنظار المُعسِر والتجاوز عنه ومطل الغني ظلم، والحوالة
[1651]
عَن حُذَيفَةَ قَالَ: أُتِيَ اللَّهُ بِعَبدٍ مِن عِبَادِهِ، آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلتَ فِي الدُّنيَا؟ قَالَ: يَومَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَو تُسَوَّى بِهِمُ الأَرضُ وَلَا يَكتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيتَنِي مَالَكَ فَكُنتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَكَانَ مِن خُلُقِي الجَوَازُ، وَكُنتُ
ــ
(19)
ومن باب: إنظار المُعسِر والتجاوز عنه
الإنظار: التأخير. والمعسر هنا: هو الذي يتعذَّر عليه الأداء في وقت دون وقت. فندب الشرع إلى تأخيره إلى الوقت الذي يمكنُ له ما يؤدي. وأما المُعسِر بالإفلاس: فتحرم مطالبته إلى أن يتبين يساره. والمال: كل ما يتموَّل، أو يُتملَّك من عين، وعَرَض، وحيوان، وغير ذلك. ثم قد يخصُّه أهلُ كل مال بما يكون غالب أموالهم. فيقول أصحاب الإبل: المال: الإبل. وأصحاب النخل: النخل. وهكذا.
و(قوله: ولا يكتمون الله حديثًا) أي: لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله. فإن كتم شهدت عليه جوارحه كما يأتي.
و(قوله: وكان من خلقي الجواز) أي: التجاوز عن حقوقه، فأمَّا من حلول الأجل فيؤخره، وأما من استيفاء الحق فيسقط بعضه، أو يسامح في الزّيف.
و(قول الله تعالى: (أنا أحق بذلك) صدقٌ، وحقٌ؛ لأنه تعالى متفضل ببذل ما لا يستحق عليه، ومسقط بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه. ثم يتلافاه برحمته، فيكرمه، ويقرِّبه منه، وإليه. فله الحمد كِفَاءَ إنعامه، وله الشكر على إحسانه.
أَتَيَسَّرُ عَلَى المُوسِرِ، وَأُنظِرُ المُعسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنكَ، تَجَاوَزُوا عَن عَبدِي فَقَالَ عُقبَةُ بنُ عَامِرٍ الجُهَنِيُّ، وَأَبُو مَسعُودٍ الأَنصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعنَاهُ مِن فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم (1560)(29).
[1652]
وعَن أَبِي مَسعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّن كَانَ قَبلَكُم، فَلَم يُوجَد لَهُ مِن الخَيرِ شَيءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأمُرُ غِلمَانَهُ أَن يَتَجَاوَزُوا عَن المُعسِرِ. قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: نَحنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنهُ، تَجَاوَزُوا عَنهُ.
رواه مسلم (1561)، والترمذي (1307).
ــ
و(قوله: حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له شيء من الخير) هذا العموم مخصَّص قطعًا بأنه كان مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوز عنه، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} وهل كان قائمًا بفرائض دينه من الصلاة، والزكاة، وما أشبهها؛ هذا هو الأليق بحاله. فإن هذا الحديث يشهد بأنه كان ممَّن وُقي شح نفسه. وعلى هذا: فيكون معنى هذا العموم: أنه لم يوجد له شيء من النوافل إلا هذا. ويحتمل أن يكون له نوافل أخر، غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنودي به، وجوزي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاءً بهذا، والله تعالى أعلم. ويحتمل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه: أنه لم يوجد له فِعل برّ في المال إلا ما ذكر من إنظار المعسر، والله تعالى أعلم.
والتنفيس عن المعسر: تأخيره إلى الإمكان. والوضع: الإسقاط.
و(قوله: كان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر) دليل على جواز إذن السيد لعبده في التجارة. وفي الأم: (أَقبَلُ المَيسُورَ، وأَتجاوزُ عن المعسر)(1)
(1) انظر: صحيح مسلم (1560/ 27).
[1653]
وعَن أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّه طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعسِرٌ، قَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: أللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَن سَرَّهُ أَن يُنجِيَهُ اللَّهُ مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، فَليُنَفِّس عَن مُعسِرٍ أَو يَضَع عَنهُ.
رواه مسلم (1563).
[1654]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَطلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ،
ــ
رواية الجماعة: أقبل - بالهمزة المفتوحة، وبالقاف ساكنة، وبالباء بواحدة تحتها مفتوحة - من القبول. والميسور: المُتَيسَّر. ووقع لبعضهم: بضم الهمزة، وكسر القاف، وياء باثنتين تحتها، من الإقالة، وفيه بُعدٌ؛ لأنه لا يستقيم المعنى حتى يكون الميسور بمعنى الموسر. ولا يعطيه قانون التصريف، ولا يعضده نقل. والكرب: جمع كُربَة، وهي: الشدَّة، والفاقة. وكُرَب الآخرة: شدائدها، وأهوالها.
و(قوله: مطل الغني ظلم) المطل: منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن من ذلك، وطلب المستحق حقه. وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر:(لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)(1) أي: مطل الموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ظلم للمستحق، يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس، ويحبس حقوقهم. ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك. حُكي معناه عن سفيان. و (الظلم): وضع الشيء في غير موضعه في أصل اللغة. وهو في الشرع محرَّم مذموم. ووجهه هنا: أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به
(1) رواه أحمد (4/ 222)، والنسائي (7/ 316 - 317)، وابن ماجه (2427).
وَإِذَا أُتبِعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيءٍ فَليَتبَع.
رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564)، وأبو داود (3345)، والترمذي (1308)، والنسائي (7/ 317)، وابن ماجه (2404).
* * *
ــ
الذم والعقاب. والغني الذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق؛ بدليل قوله: (لي الواجد) وهو الظاهر من الحديث والمراد منه، ولا يلتفت لقول من قال: إنه صاحب الحق، لبعد المعنى، وعدم ما يدل عليه.
و(قوله: وإذا أُتبِعَ أحدكم على مليء فليتبع) أُتبع -بضم الهمزة، وتخفيف التاء، وكسر الباء - مبنيًّا لما لم يُسم فاعله عند الجميع. فأما:(فليتبع) فبعضهم قَيَّده بتشديد التاء، وكذلك قيَّدته على من يوثق به. وقد روي بتخفيفها. وهو الأجود؛ لأن العرب تقول: تبعت الرَّجل بحِّقي، أتبعه، تباعة: إذا طلبته به، فأنا له تبيع -كل ذلك بالتخفيف -، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُم عَلَينَا بِهِ تَبِيعًا} ، ومعناه: إذا أحيل أحدكم فليحتل. وهذا الأمر عند الجمهور محمول على الندب؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر. وقد حمله داود على الوجوب تمسَّكًا بظاهر الأمر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ملك الذمم كملك الأموال. وقد أجمعت الأمة على أن الإنسان لا يجبر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره، فكذلك الذمم. وأيضًا: فإن نقل الحق من ذمة إلى ذمة تيسير على المعسر، وتنفيسٌ عنه، فلا يجب، وإنما هو من باب المعروف بالاتفاق. وإذا تقرَّر ذلك فالحوالة معناها: تحويل الدَّين (1) من ذمَّة إلى ذمَّة. وهي مستثناة من بيع الدَّين بالدَّين لما فيها من الرِّفق، والمعروف. ولها شروط:
(1) في (م): الحق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فمنها: أن تكون بدين، فإن لم تكن بدين لم تكن حوالة، لاستحالة حقيقتها إذ ذاك، وإنما تكون حمالة.
ومنها: رضا المحيل والمحال دون المحال عليه. وهو قول الجمهور، خلافًا للإصطخري، فإنَّه اعتبره. وإطلاق الحديث حجة عليه. وقد اعتبره مالك إن قصد المحيل بذلك الإضرار بالمحال عليه. وهذا من باب دفع الضرر.
ومنها: أن يكون الدين المحال به حالاًّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم). ولا يصح المطل، ولا يصدق الظلم إلا في حق من وجب عليه الأداء، فيمطل. ثم قال بعده:(فإذا أتبع أحدكم فليتبع) فأفاد ذلك: أن الدَّين المحال به لا بُدَّ أن يكون حالاًّ؛ لأنه إن لم يكن حالاًّ كَثُرَ الغَرَرُ بتأجيل الدينين.
ومنها: أن يكون الدين المحال عليه من جنس المحال به؛ لأنه إن خالفه في نوعه خرج من باب المعروف إلى باب المبايعة، والمكايسة، فيكون بيع الدَّين بالدَّين المنهي عنه.
فإذا كملت شروطها برئت ذمة المحيل بانتقال الحق الذي كان عليه إلى ذمة المحال عليه. فلا يكون للمحال الرُّجوع على المحيل، وإن أفلس المحال عليه، أو مات. وهذا قول الجمهور.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى رجوعه عليه، إن تعذر أخذه الدين من المحال عليه. والأول الصحيح؛ لأن الحوالة عقد معاوضة، فلا يرجع بطلب أحد العوضين بعد التسليم، كسائر عقود المعاوضات؛ ولأن ذمة المحيل قد برئت من الحق المحال به بنفس الحوالة، فلا تعود مشتغلةً به إلا بعقد آخر، ولا عقد، فلا شغل. غير أن مالكا قال: إن غرَّ المحيل المحال بذمَّة المحال عليه كان له الرُّجوع على المحيل. وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لوضوحه.
* * *