الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) باب لا يبع حاضر لباد
[1603]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَن يُتَلَقَّى الرُّكبَانُ، وَأَن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ طاوس: فَقُلتُ لِابنِ عَبَّاسٍ: مَا قَولُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُن لَهُ سِمسَارًا.
رواه البخاري (2158)، ومسلم (1521)، وأبو داود (3439)، والنسائي (7/ 257)، وابن ماجه (2177).
[1604]
وعَن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبِع حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرزُق اللَّهُ بَعضَهُم مِن بَعضٍ.
ــ
أو لا؛ قولان. سبب المنع عقوبته بنقيض قصده (1). وقد أجاز أبو حنيفة، والأوزاعي التلقي إلا أن يضر بالناس فيُكره. وهذه الأحاديث حجة عليهما.
و(قوله: ولا تناجشوا) أصل النجش: الاستثارة والاستخراج. ومنه سُمي الصَّائد: ناجشًا لاستخراجه الصيد من مكانه. والمرادُ به في الحديث: النهي عن أن يزيد في ثمن السلعة ليغرَّ غيره، وكأنه استخرج منه في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه. فإذا وقع؛ فمن رآه لحق الله تعالى فسخ. ومن رآه لحق المشتري خيره، فإما رضي، وإمَّا فسخ.
قال أبو عبيد الهروي: قال أبو بكر: أصل النَّجش: مدح الشيء وإطراؤه. فالنَّاجش يغرُّ المشتري بمدحه ليزيد في الثمن.
و(قوله: لا يبع حاضر لبادٍ) مفسَّر بقول ابن عباس: لا يكن له سمسارًا، وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبًا كانوا من الحضر، أو بعيدًا، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب. وإليه صار غير
(1) في (ع): مقصوده.
رواه أحمد (2/ 307)، ومسلم (1522)، والترمذي (1223)، والنسائي (7/ 256)، وابن ماجه (2176).
ــ
واحدٍ. وحمله مالك على أهل العمود ممن بعد منهم عن الحضر، ولا يعرف الأسعار، إذا كان الذي جلبوه من فوائد البادية بغير شراء. وإنما قيده مالك بهذه القيود نظرًا إلى المعنى المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم:(دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض). وذلك: أن مقصوده أن يرتفق أهل الحاضرة بأهل البادية، بحيث لا يضر ذلك بأهل البادية ضررًا ظاهرًا. وهذا لا يحصل إلا بمجموع تلك القيود.
وبيانه: أنهم إذا لم يكونوا أهل عمود كانوا أهل بلاد وقرى، وغالبهم يعرف الأسعار. وإذا عرفوها صارت مقاديرها مقصودة لهم. فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيلها بأنفسهم أو بغيرهم. وإذا كان الذي جلبوه عليهم بالشراء فهم تجار يقصدون الأرباح، فلا يحال بينهم وبينها. فلهم التوصل إليها بالسَّماسرة وغيرهم، وأما أهل العمود، والموصوفون بالقيود المذكورة: فإن باع لهم السماسرة وغيرهم ضروا بأهل الحاضرة في استخراج غاية الأثمان، فيما أصله على أهل البادية بغير ثمن، فقصد الشرع أن يباشروا بيع سلعهم بأنفسهم ليرتفق أهل الحاضرة بالرخص فيما لا ضرر على أهل البادية فيه. وأعرض الشرع عما يلحق أهل البادية في ذلك دفعًا لأشد الضررين، وترجيحًا لأعظم المصلحتين.
واختلف في شراء أهل الحاضرة للبادي. فقيل بمنعه قياسًا على البيع لهم. وقيل: يجوز ذلك؛ لأنه لما صار ثمن سلعته بيده عينًا أشبه أهل الحضر. فإذا وقع هذا البيع فهل يفسخ معاقبة لهم، أو لا يفسخ لعدم خلل ركن من أركان البيع؟ قولان.
و(قوله: لا تُصَرُّوا الإبل والغنم): روايتنا فيه بضم التاء وفتح الصاد، وضم الراء مشددة بعدها واو الجمع. (الإبلَ) بالنصب، نحو:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم} وهو الصحيح تقييدًا ولغة. وقد قيده بعضهم (لا تَصُرُّوا بفتح التاء،
[1605]
وعَن أَنَسِ قَالَ: نُهِينَا أَن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِن كَانَ أَخَاهُ أَو أَبَاهُ.
ــ
وضم الصاد، ونصب (الإبل). وبعضهم: بضم التاء وفتح الصاد، ورفع (الإبل) والأول هو الصحيح. ووجهه: أنها مأخوذة من: صريت اللبن في الضَّرع: إذا جمعته. وليست من الصَّر الذي هو الربط، ولو كانت من ذلك لقيل فيها: مُصَرَّرة. وإنما جاء: مصراة. وإلى معناه ذهب أبو عبيد وغيره، وعلى هذا: فأصل (تُصَروا الإبل): تقربوا، استثقلت الضمَّة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضمومًا فانقلبت الياء واوًا، واجتمع ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وبقيت واو الجمع ساكنة، فحذفت لاجتماع الساكنين (1). و (الإبل): نصب على أنه مفعول (تُصَرُّوا). هذا أحسن ما قيل في هذا، وأجراه على قياس التصريف.
ومعنى: (التصرية) عند الفقهاء: أن يجمع اللَّبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم، فيظن المشتري: أن ذلك لكثرة اللبن، وعظم الضرع. وهي المسمَّاة أيضًا بـ (المُحَفَّلَة) في حديث آخر (2). يقال: ضرع حافل؛ أي: عظيم. و (المحفَل): الجمع العظيم. وقال الشافعي: التصرية: أن يربط أخلاف النَّاقة، أو الشاة، ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك. قال الخطابي: والذي قال الشافعي صحيح. والعرب (3) تصُرُّ الحلوبات، وتسمي ذلك الرباط: صِرارًا. واستشهد لهم بقول العرب: العبد لا يحسن الكرَّ، وإنما يحسن الحلب والصرَّ (4). قال: ويحتمل أن تكون المصراة
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(2)
رواه البخاري (2149).
(3)
في (ع): لأن العرب.
(4)
هذا قول عنترة لأبيه. (الأغاني 8/ 239).
رواه البخاري (2161)، ومسلم (1523)، وأبو داود (3440)، والنسائي (7/ 256).
* * *
ــ
أصلها: مصرورة، فأبدل من إحدى الراءين ياءً، كما قالوا: تقضَّى (1) البازيُّ.
واختلف في الأخذ بحديث المُصَرَّاة. فأخذ به الشافعي، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومالك في المشهور عنه، وابن أبي ليلى في إحدى الروايتين عنه، وفقهاء أصحاب الحديث. ولم يأخذ به أبو حنيفة، ولا الكوفيون، ولا مالك، ولا ابن أبي ليلى في الرواية الأخرى عنهما. فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: التصرية ليست بعيب، ولا تردّ بذلك. وقد حكي عن أبي حنيفة: أنه يرجع بأرش التصرية. ولهذا الخلاف سببان:
أحدهما: أن هذا الحديث يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)(2). خرَّجه الترمذي من حديث ابن عباس، وقال فيه: حديث حسن صحيح. ووجهها: أن مشتري المصرَّاة ضامن لها لو هلكت عنده، واللَّبن غلة فيكون له.
وثانيهما: أنه معارضٌ لأصول شرعية، وقواعد كليه. وبيانها بأوجه:
أحدها: أن اللبن مما يضمن بالمثل، والتمر ليس بمثل له.
وثانيها: أنه لما عدل عن المثل إلى غيره فقد نحا به نحو المبايعة، فهو: بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، وهو الرِّبا.
وثالثها: أن الصَّاع المقابل للَّبن محدودٌ، واللَّبن ليس بمحدود، فإنَّه يختلف بالكثرة والقلة.
(1) أصلها: تقضض.
(2)
رواه أحمد (6/ 80)، وأبو داود (3510)، والترمذي (1285 و 1286)، وابن ماجه (2243) كلهم من حديث عائشة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ورابعها: أن اللبن غلَّة، فيكون للمشتري كسائر المنافع، فإنها لا تردُّ في الردّ بالعيب. ولما كان ذلك، فالحديث وإن كان صحيحًا؛ فإما منسوخ بقوله:(الخراج بالضمان)(1) وإما مرجوح بهذه القواعد المخالفة له، فإنها قواعد كلية قطعية. ولو لم يكن كذلك فالقياس مقدَّم عند أبي حنيفة، وكثير من الكوفيين، وهو قول مالك في العتبية، وفي مختصر ابن عبد الحكم.
والجواب عن السبب الأول: أنه لا معارضة بينهما؛ لأنا لا نسلم أن اللبن خراج سَلَّمناه. لكنه إذا نشأ على ضمان المشتري، ولبن المصراة نشأ على ضمان البائع؛ فإنَّه كان موجودًا في الضرع حالة التبايع سلّمناه. لكن حديث المصرَّاة خاصٌّ، وحديث الخراج بالضمان عام. ولا معارضة بينهما، لأن الجمع بينهما ممكن بأن يُبنى العام على الخاص. وهو الصحيح على ما مهدناه في أصول الفقه. وحينئذ يبطل قول من زعم: أن حديث المصراة منسوخ بحديث: (الخراج بالضمان). سلمنا المعارضة، لكن المتقدم منهما من المتأخر مجهول، فلا يصح الحكم بالنسخ لعدم العلم بالتاريخ.
والجواب عن السبب الثاني: أن حديث المصرَّاة أصل منفرد بنفسه، مستثنى من تلك القواعد، كما قد استثني ضرب الدِّية على العاقلة، ودية الجنين، والعرية (2)، والجعل، والقراض، عن أصول ممنوعة، لدعاء الحاجة إلى هذه المستثنيات، ولحصول مصالح خاصة منها. وبيانه في مسألة المصراة: أن الشرع إنما ضمن لبنها بالصاع دفعًا للخصام، وسدًّا لذريعة المنازعة لتعذُّر ضبط مقدار اللبن، فإنه يختلف بالكثرة والقلة، ولتعذر تمييز اللبن الكائن في الضرع من الحادث. وخصَّه بالطعام؛ لأنه قوت كاللبن، وبالتَّمر؛ لأنه أغلب قوتهم، ووصفه
(1) هو الحديث السابق.
(2)
"بيع العرايا": هو بيع الرُّطَبِ على النخل خرصًا بتمر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بقوله: (لا سمراء) رفعًا للحرج في تكلُّف (1)؛ لقلتها عندهم. وعلى هذا: فلم تخرج المصراة عن قانون الالتفات للمصالح، لكنَّها مصالح مخصوصة لا يلحق بها غيرها لعدم نظائرها، ولو سلَّمنا أنها معارضة لأقيسة تلك القواعد من كل وجه، لكن لا نسلم: أن القياس مقدَّم على خبر الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم السُّنة على القياس في حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له: (بم تحكم؟ ) قال: بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد؟ ) قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن لم تجد؟ ) قال: أجتهد رأيي (2). والسَّنة: تعم التواتر، والآحاد. ولكثرة الاحتمالات في القياسات، وقلتها في خبر الواحد. وقد أوضحنا هذا في الأصول. وهذا هو الصحيح من مذهب مالك وغيره من المحققين.
وفي حديث المصراة أبواب من الفقه نشير إليها:
فمنها: أن العقد المنهي عنه، المحرّم إذا كان لأجل الآدمي لم يدلّ على الفساد، ولا يفسخ العقد. ألا ترى: أن التصرية غش محرَّم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسخ العقد، لكن جعل للمشتري الخيار.
ومنها: أن الغرور بالفعل معتبر شرعا؛ لأنه صار كالتصريح باشتراط نفي العيب. ولا يختلف في الغرور الفعلي. وإنما اختلف في الغرور بالقول، هل هو معتبر أو لا؟ فيه قولان:
فرع: لو كان الضرع كثير اللحم، فظنه المشتري لبنًا، لم يجب له الخيار؛ إذ لا غرور، ولا تدليس، لا بالفعل، ولا بالقول.
ومنها: جواز خيار الشرط. وهذا لا يختلف فيه. وإنما اختلف في مقداره.
(1) في (ل 1): تكليف.
(2)
رواه أبو داود (3592)، والترمذي (1327).