الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(11) باب عِتق الأمةِ وتزويجها وهل يصح أن يجعل العتق صداقا
؟
[1480]
عَن أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيبَرَ قَالَ: فَصَلَّينَا عِندَهَا صَلَاةَ الغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أَبُو طَلحَةَ وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلحَةَ، فَأَجرَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيبَرَ وَإِنَّ رُكبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَانحَسَرَ الإِزَارُ عَن فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ
ــ
(11)
ومن باب: عِتق الأمةِ وتزويجها
(قوله: فانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (وإن ركبتي لتمسُّ فخذه) قد ذكرنا الخلاف في الفخذ: هل هو عورةٌ أم لا؟ وهذا الحديث مما يستدلُّ به من قال: إنه ليس بعورة، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكرت فيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُضطجعًا في بيتها كاشفًا عن فخذيه، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهو كذلك (1). وسيأتي الحديث في مناقب عثمان رضي الله عنه.
وقد عارض هذه الأحاديث ما رواه الترمذي وصححه غيره من حديث جَرهَدٍ، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو كاشف فخذه، فقال:(غط فخذك فإنها من العورة)(2). قال البخاري: حديث أنس أسند، وحديث جَرهَد أحوط كي يخرج من اختلافهم.
قلت: وقد يترجّح الأخذ بحديث جَرهَد من وجهٍ آخر، وهو: أن تلك
(1) رواه مسلم (2401).
(2)
رواه الترمذي (2795).
نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ المدينَةَ قَالَ: اللَّهُ أَكبَرُ خَرِبَت خَيبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلنَا بِسَاحَةِ قَومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ قَالَهَا ثَلَاثَ مرار قَالَ: وَقَد خَرَجَ القَومُ
ــ
الأحاديث قضايا معيّنة في أوقات وأحوال مخصوصة، يتطرَّق إليها من الاحتمال ما لا يتطرَّق لحديث جرهد، فإنه إعطاء حُكم كلِّيٍّ وتقعيد للقاعدة، فكان أولى.
بيان ذلك: أن تلك الوقائع تحتمل خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أو البقاء على البراءة الأصلية؛ إذ كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثم بعد ذلك حكم عليه: بأن الفخذ عورة. ويحتمل حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بانكشافه لِهَمِّه بشأن فتح خيبر، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا يتوجه بشيء (1) منها على حديث جَرهَد، فكان أولى، والله تعالى أعلم.
وتكبيرُه صلى الله عليه وسلم تعظيم لله، وتحقيرٌ لهم، وتشجيع عليهم. وقد تكلَّمنا على معنى الله أكبر في كتاب الحج.
و(قوله: خربت خيبر) أي: صارت خرابًا منهم. وهل ذلك على حقيقة الخبرية، فيكون ذلك من باب الإخبار عن الغيب، أو على جهة الدُّعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل لَمَّا خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ومرورهم؟ وقد قيل كل ذلك. والأوَّل أولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
و(الساحة): الناحية، والجهة. و (ساء): أي: صار سيئًا؛ من السُّوء. و (المنذر): أبلغ الإنذار، وهو التخويف بالإخبار عن المكروه. و (البشارة): الإخبار بالمحبوب. و (الخميس): الجيش؛ سُمِّي بذلك؛ لأنه يقسم خمسة أخماس: القلب، والميمنة، والميسرة، والمقدمة، والساقة. وقيل: لأنه يخمَّس (2). وليس بشيء؛ لأن هذا أمر مستجد من جهة الشرع، وكان الخميس
(1) من (م).
(2)
أي: تخمَّس فيه الغنائم.
إِلَى أَعمَالِهِم فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَالخَمِيسُ قَالَ: وَأَصَبنَاهَا عَنوَةً، وَجُمِعَ السَّبيُ، فَجَاءَهُ دِحيَةُ فَقَالَ: يَا نبي اللَّهِ أَعطِنِي جَارِيَةً مِن السَّبيِ فَقَالَ: اذهَب فَخُذ جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَعطَيتَ دِحيَةَ صَفِيَّةَ بِنتَ حُيَيٍّ سَيِّدِ قُرَيظَةَ وَالنَّضِيرِ، مَا تَصلُحُ إِلَّا لَكَ قَالَ: ادعُوهُ بِهَا قَالَ: فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيهَا نَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: خُذ جَارِيَةً مِن السَّبيِ غَيرَهَا قَالَ: وَأَعتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا.
ــ
اسما للجيش معروفًا قبل ذلك.
و(المكاتل): القفف والزنابيل. و (المرور): الحبال؛ لأنها تمرُّ؛ أي: تفتل، واحدها: مَرٌّ، كانوا يصعدون بها النخل، وقيل: هي المساحي.
و(قوله: وأصبناها عنوة) يعني: أوَّل حصونهم، وسيأتي ما افتتح منها عنوة، وما افتتح منها صلحًا.
و(قوله: فجاء دِحيَةُ فقال: يا رسول الله! أعطني جارية من السبي. فقال: (اذهب فخذ) فأخذ صفية. ثم ذكر استرجاع النبي صلى الله عليه وسلم لصفية منه. قد ظنَّ بعض المتكلّمين على هذا الحديث: أن هذه العطية هبةٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لدحية، فأشكل عليه استرجاعه إيَّاها، فأخذ يعتذر عن هذا بأعذار. وهذا كله ليس بصحيح، ولا يحتاج إليه. وقد أزال إشكال هذه الرواية الروايات الآتية بعد التي ذكر فيها: أن صفية إنّما صارت لدحية في مَقسَمِه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراها منه بسبعة أرؤسٍ. وهذه الروايات المتفقة لا إشكال فيها. بل هي رافعة لما يتوهَّم من إشكال غيرها. ويبقى إشكال بين قوله:(خذ جارية من السَّبي) وبين قوله: (وإنها صارت إليه في مَقسَمِه) يزيله تقدير: إنه إنما أراد: (خذ) بطريق القسمة. وفهم ذلك دِحية بقرائن أو تصريح لم ينقله الراوي، فلم يأخذ دِحية شيئًا إلا بالقسمة. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حصل عنده أنها لا تصلح إلا له، من حيث إنها من بيت النبوَّة؛ فإنها من ولد هارون. ومن بيت الرئاسة؛ فإنها بنت سيد قريظة والنضير، مع ما كانت عليه من الجمال المراد
فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمزَةَ مَا أَصدَقَهَا؟ قَالَ: نَفسَهَا أَعتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا،
ــ
لكمال اللذة الباعثة على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد. وهذا من فعله كما قد نبَّه عليه بقوله:(تخيَّروا لنطفكم)(1).
وأيضًا: فمثل هذه تصلح أن تكون أمًّا للمؤمنين. وحذارِ من أن يظنَّ جاهل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على ذلك غلبةُ الشهوة النفسانية، وإيثار اللَّذة الجسمانية؛ فإن ذلك اعتقاد يَجره جهلٌ بحال النبي صلى الله عليه وسلم وبأنّه معصوم من مثل ذلك؛ إذ قد أعانه الله تعالى على شيطانه فأسلم، فلا يأمره إلا بخير. وقد نزع الله من قلبه حظَّ الشيطان، حيث شقَّ قلبه، فأخرجه منه، وطهَّره، وملأه حكمة وإيمانًا، كما تقدَّم في الإسراء (2). وإنما الباعث له على اختيار ما اختاره من أزواجه ما ذكرت لك، وما في معناه، والله تعالى أعلم.
و(قوله: أصدقها عتقها، أو نفسها) استدل بهذا طائفةٌ من أهل العلم على جواز جَعل العتق صداقًا. وبه قال الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، وروي عن ابن المسيب، والحسن، والنخعي، والزهري. غير أن الشافعي يقول: هي بالخيار إذا أعتقها. فإن امتنعت فله عليها قيمتها. ومنع ذلك آخرون؛ منهم: مالك، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزُفر؛ متمسِّكين باستحالة ذلك. ويتقرر ذلك من وجهين:
أحدهما: أن عقدها على نفسها، إمَّا أن يقع قبل عتقها؛ وهو محال؛ لتناقض الحكمين: الحرَّية، والرِّق. فإن الحرية حكمها الاستقلال، والرِّق حكمه الجبر، وهو عدم الاستقلال. فهما متناقضان. وإمَّا بعد العِتق، وهو أيضًا محال؛ لزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز ألا ترضى، وحينئذ لا تنكح إلا برضاها.
(1) رواه ابن ماجه (1968)، والبيهقي (7/ 133) وانظر: فتح الباري (9/ 125).
(2)
انظر الحديث عند مسلم برقم (162/ 261).
حَتَّى إِذَا كَانَت بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتهَا لَهُ أُمُّ سُلَيمٍ فَأَهدَتهَا لَهُ مِن اللَّيلِ،
ــ
وثانيهما: إنَّا إذا جعلنا العتق صداقًا، فإمَّا أن يتقرر العتق لها حالة رِقِّها، وهو محال؛ لتناقضهما، أو حال حُرِّيتها، وحينئذ يلزم بسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حال فرض عدمه. وهو محال.
وبيانه: أنَّ الصَّداق لا بدَّ أن يتقرر تقدمه على الزوج، إمَّا نصًّا، وإمَّا حُكمًا، حتى تملك الزوجة طلبته. وحينئذ يلزم ما ذكرناه، لا يقال يبطل بنكاح التفويض، فإنا قد تحررنا عنه بقولنا: وإمَّا حكمًا. فإنها وإن لم يتعين لها حالة العتق شيء، لكنها تملك مطالبته بالفرض وتعيين الصَّداق، لا سيما على مذهب الشافعي؛ فإن مرجعه عنده إلى صداق المثل في الحياة والموت. فقد ظهر أنها ثبت لها حالة العقد شيء تُطالب به الزّوج، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق، فاستحال أن يكون صداقًا. ولَمَّا تقرَّر هذا عند أصحابنا اعتذروا عن قول أنس من أوجه:
أحدها: إنَّه قوله، وموقوف عليه. والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: إن ظاهر قوله: (أعتقها وتزوَّجها) أنه كان قد أعتقها ثم تزوَّجها بَعدُ. وهذا على ما قدمناه في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} وقوله صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بما بدأ الله)(1) فبدأ بالصَّفا.
وثالثها: إن قوله: (أصدقها نفسها) يحتمل أن يكون أنس لَمَّا لم ير صداقًا، وسُئل عنه، قال ذلك. ويعني به: أنه لم يصدقها شيئًا. ويكون هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
ورابعها: إنه لو سلم كونه مرفوعًا نصًّا؛ فحينئذ يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم في باب النكاح. وقد ظهرت له فيه خصائص كثيرة، والله تعالى أعلم.
و(قوله: حتى إذا كانت بالطريق جهّزَتها له أُمُّ سُليم، وأهدتها له من الليل)
(1) رواه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، والنسائي (5/ 143)، وابن ماجه (3074).
فَأَصبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا فَقَالَ: مَن كَانَ عِندَهُ شَيءٌ فَليَجِئ بِهِ قَالَ: وَبَسَطَ نِطَعًا قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمنِ فَحَاسُوا حَيسًا فَكَانَت وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد (3/ 186)، والبخاريُّ (947)، ومسلم (1365)(84)، والنسائي (1/ 271).
[1481]
وعنه قَالَ: صَارَت صَفِيَّةُ لِدِحيَةَ فِي مَقسَمِهِ، وَجَعَلُوا يَمدَحُونَهَا عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَيَقُولُونَ: مَا رَأَينَا فِي السَّبيِ مِثلَهَا. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى دِحيَةَ فَأَعطَاهُ بِهَا مَا أَرَادَ.
وفي رواية: ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى أُمِّي فَقَالَ: أَصلِحِيهَا.
وفي رواية: فَاشتَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبعَةِ أَرؤُسٍ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى أُمِّ سُلَيمٍ تُصَنِّعُهَا، وَتُهَيِّئُهَا له، قَالَ: وَأَحسِبُهُ قَالَ: تَعتَدُّ فِي بَيتِهَا، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن خَيبَرَ، حَتَّى إِذَا جَعَلَهَا فِي ظَهرِهِ نَزَلَ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيهَا القُبَّةَ، فَلَمَّا أَصبَحَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن كَانَ عِندَهُ فَضلُ زَادٍ فَليَأتِنَا
ــ
يعني: طريقَ رجوعه من خيبر إلى المدينة، كما جاء في الرواية الأخرى مفَسَّرًا. وكان بين سبائها وبين دخول النبي صلى الله عليه وسلم بها زمان أسلمت فيه، واستبرئت، وأصلح حالها فيه، ثم دخل بها بَعدُ. ولذلك قال أنس في الرواية الأخرى:(ثم دفعها لأُمِّي تُصَنِّعُها، وتُهَيِّئُهَا، وتعتّدُ في بيتها) يعني: في بيت أم أَنس.
و(قوله: حين أصبح عروسًا: (من كان عنده فضل زاد فليأتنا) دليل على مشروعية الوليمة، وأنَّها بعد الدُّخول. وعلى أنَّ العروس إذا لم يكن له بما يولم، طلب ممن ينبسط معه من أصحابه، ويختصُّ به منهم بما لا يثقل عليهم به مما يخف ويسهل، إذا علم حال أصحابه، وسخاوة أنفسهم بذلك، وطيب قلوبهم.
بِهِ قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِفَضلِ التَّمرِ وَفَضلِ السَّوِيقِ، حَتَّى جَعَلُوا مِن ذَلِكَ سَوَادًا حَيسًا، فَجَعَلُوا يَأكُلُونَ مِن ذَلِكَ الحَيسِ، وَيَشرَبُونَ مِن حِيَاضٍ إِلَى جَنبِهِم مِن مَاءِ السَّمَاءِ. قَالَ أنس: فَكَانَت تِلكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيهَا، قَالَ: فَانطلقنَا حَتَّى إِذَا رَأَينَا جُدُرَ المَدِينَةِ هَشِشنَا إِلَيهَا، فَرَفَعنَا مَطِيَّنَا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطِيَّتَهُ قَالَ: وَصَفِيَّةُ خَلفَهُ قَد
ــ
و(قوله: فجعل الرجل يجيء بفضل التمر، وفضل السويق، حتى جعلوا من ذلك سوادًا حيسًا) يعني: جاء كل واحد منهم بما فضل عن حاجته مِمَّا كان عنده. وسواد الشيء: شخصه؛ يعني: أنه اجتمع من ذلك ما له جرمٌ وقدرٌ مرتفع عن الأرض. و (الحيس): تمرٌ، وأقط، وسمن مجتمعٌ، وقد تقدَّم.
و(قوله في الأم (1): (فُحِصَتِ الأرض أفاحيص) أي: كشفت عما يمنع القعود عليها من حجارةٍ، وعُشب، وغير ذلك، وسوِّيت حتى خلص إلى التراب. ومنه: مفحص القطاة، وهو الموضع الذي تتخذه لبيضها. وواحد الأفاحيص: أفحوص.
و(الأنطاع) جمع: نطع. وفيه أربع لغات: نِطَعٌ، وهي أفصحها. ونِطعٌ، ونَطعٌ، ونَطَعٌ.
و(قوله: فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها) أي: اهتززنا فرحًا وسرورًا. وهذه فرحة القادم، السالم، الغانم؛ إذا وصل إلى وطنه وأهله.
و(قوله: فرفعنا مطينا ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته) أي: أجرينا، ورفعنا السير إلى غايته.
و(قوله في الأم (2): (ونَدَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَدَرَت) أي: صُرع وصُرعت؛ كما جاء في هذه الرواية مفسَّرًا. وأصل النُّدور: الخروج. ومنه قوله: نوادر الكلام.
(1) أي: في صحيح مسلم، رقم الحديث (1365/ 87).
(2)
انظر الحاشية السابقة.
أَردَفَهَا، قَالَ: فَعَثَرَت مَطِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصُرِعَ وَصُرِعَت. قَالَ: فَلَيسَ أَحَدٌ مِن النَّاسِ يَنظُرُ إِلَيهِ وَلَا إِلَيهَا، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَتَرَهَا قَالَ: فَأَتَينَاهُ فَقَالَ: لَم نُضَرَّ قَالَ: فَدَخَلنَا المَدِينَةَ، فَخَرَجَ جَوَارِي نِسَائِهِ يَتَرَاءَينَهَا، وَيَشمَتنَ بِصَرعَتِهَا.
وفي رواية، قال: وَقَالَ النَّاسُ: لَا نَدرِي أَتَزَوَّجَهَا أَم اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ، قَالُوا: إِن حَجَبَهَا فَهِيَ امرَأَتُهُ، وَإِن لَم يَحجُبهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَركَبَ حَجَبَهَا فَقَعَدَت عَلَى عَجُزِ البَعِيرِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ قَد تَزَوَّجَهَا، وذكر صرعتها نحوه.
رواه أحمد (3/ 195)، ومسلم (1365)(87 و 88).
ــ
والنَّادر من النَّاس: الخارج عنهم بما فيه من الزيادة عليهم. وكون النَّاس امتنعوا من النظر إليهما إنما كان ذلك احترامًا وإجلالًا أن يقع بصرٌ على عورة منهما، فإنه كان قد انكشف منهما ما يستر. ألا ترى قوله:(فسترها)؟
و(قوله: لم نُضَرَّ) أي: لم يصبنا ضررٌ؛ إزالة لما غشيهم من التخوِّف عليه، وتسكينًا لنفرتهم، وتطييبًا لقلوبهم.
و(قوله: فخرج جواري نسائه يتراءينها، ويشمتن بصرعتها) يعني: الصغارَ الأسنان، اللَّواتي لا ثبات لهن ولا حنكة عندهن.
و(يتراءينها): ينظرن، ويتشوَّفن إليها. (ويشمتن بصرعتها) كأنهن سُرِرن بذلك. وهذا فعلٌ يتضمنه طباع الضرائر ومن يتعصّب لهن.
و(قولهم: (إن حَجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد) هذا يدل على أنه ما كان أبان لهم أمرها، ولا أشهدهم على تزويجها. فيكون فيه دليل على جواز عقد النكاح من غير إشهاد، وبه قال الزهري ومالك، وأهل المدينة،
[1482]
وعَنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَزَوَّجَ صَفِيَّةَ، وَأَصدَقَهَا عِتقَهَا.
رواه مسلم (1365)(85).
[1482/م] وقد تقدم حديث أبي موسى فِي الَّذِي يُعتِقُ جَارِيَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا لَهُ أَجرَانِ.
رواه أحمد (4/ 415)، ومسلم (154)(86)، والترمذيُّ (2384).
* * *
ــ
وأبو ثور، وجماعة من السَّلف. وذهب آخرون: إلى أنَّه لا يجوز إلا بشاهدي عدل. وهو قول جماعة من الصَّحابة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد. وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه لا يشترط العدد. واتفق الجميع على أنه شرطٌ في الدُّخول.
وعلى هذا فيكون دخوله صلى الله عليه وسلم بصفيّة من غير إشهادٍ من خصائصه.
ولم يختلف أحدٌ من العلماء في أن كل نكاح استسرَّ به وليس فيه شاهدان أنَّه نكاح السرّ المنهيّ عنه، ويُفسخ أبدًا.
واختلفوا فيما إذا استسرَّ مع الشاهد، فذهب الجمهور إلى أنه ليس بنكاح سرٍّ، ولا يُفسخ. وهو عند مالك نكاح سرٍّ، ويُفسخ.
و(قوله في حديث أبي موسى في الذي يعتق جاريته ثم يتزوجها: (له أجران) دليلٌ على صحته، وفضيلته، خلافًا لمن كره ذلك من أهل العراق. وشَبَّهَهُ بركوب بدنته. وهو قياسٌ في مقابلة النصّ المذكور، فهو فاسد الوضع، والله تعالى أعلم.
* * *