الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(21) كتاب النذور والأيمان
(1) باب الوفاء بالنذر، وأنه لا يرد من قدر الله شيئا
[1737]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: استَفتَى سَعدُ بنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَت قَبلَ أَن
ــ
(21)
كتاب النذور والأيمان
النُّذور: جمع نَذر، كفَلسٍ، وفلوس. وهو عبارة عن التزام فعل الطَّاعات بصيغ مخصوصة؛ كقوله: للهِ عليَّ صومٌ، أو صلاةٌ، أو صدقة.
والأيمان: جمع يمين، وهو في أصل اللغة: الحَلفُ (1) بمعظَّم - في نفسه، أو عند الحالف - على أمر من الأمور؛ من فعل، أو ترك، بصيغ مخصوصة؛ كقوله: والله لأفعلن، وبحياتك لأتركن.
وأمَّا تسمية العتق، والطلاق، والصَّدقة المعلقات على أمر مستقبل أيمانًا؛ فليست كذلك لغة، ولا ورد في كلام الشارع تسميتها أيمانًا، لكن الفقهاء سَمُّوا ذلك أيمانًا، فيقولون: كتاب الأيمان بالطلاق. ومن حلف بطلاق زوجته، أو بعتق أمته فقال: إن شاء الله لم ينفعه الاستثناء. وهم يريدون: إن دخلتِ الدَّار فأنتِ طالق إن شاء الله. وتسمية هذه أيمانًا وَضعٌ من جهتهم. والأحق بهذا النَّوع أن يُسمَّى التزامًا؛ لأنه شرط ومشروط، وليس من نوع ما تسمِّيه العرب يمينًا.
(1)
ومن باب: الوفاء بالنَّذر
(قوله: استفتى سعدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمِّه توفيت قبل أن
(1) ويقال: الحِلْف والحَلِفُ.
تَقضِيَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَاقضِهِ عَنهَا.
رواه أحمد (1/ 219)، والبخاري (6698)، ومسلم (1638)، وأبو داود (3307)، والنسائي (6/ 253).
[1738]
وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا يَنهَانَا عَن النَّذورِ وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيئًا، وَإِنَّمَا يُستَخرَجُ بِهِ مِن الشَّحِيحِ.
وفي رواية: قَالَ عليه الصلاة والسلام: النَّذرُ لَا يُقَدِّمُ شَيئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُستَخرَجُ بِهِ مِن البَخِيلِ.
وفي أخرى: إِنَّهُ لَا يَأتِي بِخَيرٍ، (بدل): لَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ.
رواه أحمد (2/ 118)، والبخاري (6692)، ومسلم (1639).
ــ
تقضيه) فيه من الفقه: استفتاء الأعلم ما أمكن. وقد اختلف أهل الأصول في ذلك. هل يجب على العامِّيّ أن يبحث عن الأعلم، أو يكتفي بسؤال عالم - أي عالم كان - على قولين. وقد أوضحناهما في الأصول، وبيَّنا: أنه يجب عليه أن يبحث عن الأعلم؛ لأن الأعلم أرجح، والعمل بالرَّاجح واجب.
وقد اختلف في هذا النذر الذي كان على أم سعد؛ فقيل: إنه كان نذرًا مطلقا. وقيل: صومًا. وقيل: عتقًا. وقيل: صدقةً. والكل محتمل، ولا مُعيِّن، فهو مُجمَل. ولا خلاف: أن حقوق الأموال من العتق، والصَّدقة تصحّ فيها النيابة، وتصحّ توفيتها عن المَيِّت والحيِّ. وإنَّما اختلف في الحجِّ والصوم كما تقدم ذلك في كتابيهما.
و(قوله: فاقضه عنها) أمرٌ بالقضاء على جهة الفتوى فيما سئل عنه، فلا يحمل على الوجوب، بل على جهة بيان: أنه إن فعل ذلك صحَّ، بل نقول: لو ورد
[1739]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَنذِرُوا، فَإِنَّ النَّذرَ لَا يُغنِي مِن القَدَرِ شَيئًا، وَإِنَّمَا يُستَخرَجُ بِهِ مِن البَخِيلِ.
رواه أحمد (2/ 412)، والبخاري (6694)، ومسلم (1640)، وأبو داود (3288)، والترمذي (1538)، والنسائي (7/ 16)، وابن ماجه (2123).
ــ
ذلك ابتداءً وافتتاحًا لما حمل على الوجوب، إلا أن يكون ذلك النذر ماليًّا، وتركت (1) مالًا، فيجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال، أو من الثلث، كما قد ذكرناه في الوصايا. وإن كان حقًّا بدنيًا: فمن يقول بأن الوليَّ يقضيه عن الميت؛ لم يقل: إن ذلك يجب على الوليِّ، بل ذلك على النَّدب إن طاعت بذلك نفسُه. ومن تخيَّل شيئًا من ذلك فهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم:(من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه لمن شاء)(2) وهو نصٌّ في الغرض.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: لا تنذروا! فإن النَّذر لا يردّ من قدر الله شيئًا) هذا النذر (3) محله أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي فعليَّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا. ووجه هذا النهي هو: أنه لما وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر: أنه لم يتمحض له نيَّة التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة. ألا ترى: أنَّه لو لم يحصل غرضه لم يفعل؟ ! وهذه حال البخيل؛ فإنَّه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربي على ما أخرج. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه) ثم ينضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظن: أن
(1) أي: أم سعد.
(2)
رواه أحمد (6/ 69)، والبخاري (1952)، ومسلم (1147)، وأبو داود (2400).
(3)
في (ج 2): النهي.
[1740]
وعنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ النَّذرَ لَا يُقَرِّبُ مِن ابنِ آدَمَ
ــ
النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو: أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر. وإليهما الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن النَّذر لا يردُّ من قدر الله شيئًا). وهاتان جهالتان. فالأولى تُقارب الكفر. والثانية خطأ صراح.
وإذا تقرر هذا، فهل هذا النهي محمول على التحريم، أو على الكراهة؟ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة.
قلت: والذي يظهر لي: حمله على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد. فيكون إقدامه على ذلك محرما. والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك. والله تعالى أعلم.
وإذا وقع هذا النذر على هذه الصفة لزمه الوفاء به قطعًا من غير خلاف. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)(1) ولم يفرق بين النذر المعلَّق ولا غيره. ومما يلحق بهذا النَّهي في الكراهة: النذر على وجه التبرُّم والتَّحرُّج. فالأول: كمن يستثقل عبدًا لقلة منفعته، وكثرة مؤنته، فينذر عتقه تخلُّصًا منه، وإبعادًا له. وإنما يكره ذلك لعدم تمحُّض نية القربة. والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها؛ بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه. فأمَّا لو التزم بالنذر ما لا يطيقه لكان ذلك محرَّمًا. فأمَّا النذر الخارج عمَّا تقدَّم: فما كان منه غير معلَّق على شيء، وكان طاعة؛ جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به. وأمَّا ما كان منه على جهة الشكر: فهو مندوب إليه؛ كمن شُفي مريضه فقال: للهِ عليَّ أن أصوم كذا، أو أن أتصدق بكذا شكرًا لله تعالى.
(1) رواه أحمد (6/ 36)، والبخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126).
شَيئًا لَم يَكُن اللَّهُ قَدَّرَهُ، وَلَكِن النَّذرُ يُوَافِقُ القَدَرَ، فَيُخرَجُ بِذَلِكَ مِن البَخِيلِ مَا لَم يَكُن البَخِيلُ يُرِيدُ أَن يُخرِجَ.
رواه أحمد (2/ 373)، ومسلم (1640)(7).
* * *
ــ
وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقا. فيمكن حمله على الأنواع التي بينَّا كراهتها. ويمكن حمله على جميع أنواعه؛ لكن من حيث: إنَّه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرض للوم الشرع وعقوبته. كما قد كره الدُّخول في الاعتكاف. وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروها. ووجه هذا واضح. وهو: أن فعل القرب من غير التزامها خير محض، عَرِيّ عن خوف العقاب، بخلاف الملتزم لها؛ فإنَّه يخاف عليه ذلك فيها. وقد شهد لهذا ذمُّ من قصَّر فيما التزم في قوله تعالى:{فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود والعهود المأمور بالوفاء بها، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرب المثنى عليها. وكفى بذلك مدحًا وتعزيزًا قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذرِ وَيَخَافُونَ يَومًا كَانَ شَرُّهُ مُستَطِيرًا}