الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(32) باب بيع البعير واستثناء حملانه
[1691]
عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ قَالَ: غَزَوتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَلَاحَقَ بِي وَتَحتِي نَاضِحٌ لِي قَد أَعيَا فلَا يَكَادُ يَسِيرُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: مَا لِبَعِيرِكَ؟ . قَالَ: قُلتُ: عَلِيلٌ، قَالَ: فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَجَرَهُ وَدَعَا، فَمَا زَالَ بَينَ يَدَي الإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: كَيفَ تَرَى بَعِيرَكَ. قَالَ: قُلتُ بِخَيرٍ، قَد أَصَابَتهُ بَرَكَتُكَ، قَالَ: أَفَتَبِيعُنِيهِ؟ . فَاستَحيَيتُ، وَلَم يَكُن لَنَا نَاضِحٌ غَيرُهُ، قَالَ: نَعَم، فَبِعتُهُ إِيَّاهُ، في رواية: بأوقية، عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهرِهِ حَتَّى أَبلُغَ المَدِينَةَ، قَالَ: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَرُوسٌ، فَاستَأذَنتُهُ
ــ
(32)
ومن باب: بيع البعير
البعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس. يقال للجمل: بعير. وللناقة: بعير. تقول العرب: صرعني بعيرك. وشربت من لبن بعيري. وإنما يقال له بعير: إذا أجذع (1)، والجمع: أبعرة، وأباعر، وبعران.
حديث جابر هذا: كثرت طرقه، واختلفت روايته، وألفاظه، وخصوصًا ثمن الجمل. فقد اضطربت فيه الرواة اضطرابًا لا يقبل التلفيق. وتكلُّف ذلك بعيدٌ عن التحقيق. ومع ذلك فهو حديث عظيم، فيه أبواب من الفقه، أكثرها واضحة. فلنقصد إلى إيضاح ما يمكن أن يخفى منها؛ فمنها:
(قوله: أفتبيعنيه) دليل على جواز مساومة من لم يعرض سلعته للبيع.
و(قوله: فبعته بأوقية على أن لي فقار ظهره إلى المدينة) وفي الأخرى: (فقال: لك ظهره إلى المدينة). وهذا صريحٌ في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها. وقال به ابن شبرمة وغيره من الناس. ومنعه أبو حنيفة، والشافعي أخذًا بنهي
(1) الجَذَع من الإبل: ما استكمل أربعة أعوام، ودخل في السنة الخامسة.
فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمتُ إِلَى المَدِينَةِ حَتَّى انتَهَيتُ، فَلَقِيَنِي خَالِي فَسَأَلَنِي عَن البَعِيرِ، فَأَخبَرتُهُ بِمَا صَنَعتُ فِيهِ، فَلَامَنِي فِيهِ، قَالَ: وَقَد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِي حِينَ استَأذَنتُهُ: مَا تَزَوَّجتَ، أَبِكرًا أَم ثَيِّبًا؟ فَقُلتُ لَهُ: تَزَوَّجتُ ثَيِّبًا، قَالَ: أَفَلَا تَزَوَّجتَ بِكرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ . وذكر نحو ما تقدم، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ غَدَوتُ بِالبَعِيرِ، فَأَعطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ.
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. ورأوا: أن هذا النهي أولى من حديث جابر. إما لأنَّه ناسخ له، أو مرجَّح عليه. وقال مالك: يجوز ذلك إذا كانت المسافة قريبة معلومة. وحمل هذا الحديث عليه.
وقد اختلفوا في جواز البيع والشرط. فصحَّحهما ابن شبرمة، وأبطلهما أبو حنيفة. وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل الشرط تمسُّكًا بحديث بريرة المتقدم (1). وأما مالك رحمه الله فيحمل النهي عن بيع وشرط عنده على شرط يناقض مقصود العقد. كقوله: أبيعك هذه الجارية على ألا تطأها. أو: على ألا تبيع. وما شاكل ذلك. فجمع بين الأحاديث. وهي طريقته في القديم والحديث.
و(فقار الظهر): كناية عن ركوب الظهر. ومنه: أفقرت الرجل: إذا أعرته ذلك. والفقار: جمع فقارة، وهي: خرزات الصلب.
و(الناضح): الذي يستقى عليه الماء. وقد تقدَّم أيضًا الكلام على ما تضمنه هذا الحديث من ذكر النكاح في كتابه.
و(المماكسة) هي: الكلام في مناقصة الثمن.
و(قوله لبلال: أعطه وزده) دليل: على صحة الوكالة، وعلى جواز الزيادة في القضاء. وهي من باب قوله صلى الله عليه وسلم:(إن خيركم أحسنكم قضاءً)(2) وهذا
(1) سبق تخريجه برقم (1572).
(2)
رواه البخاري (2392)، ومسلم (1601)، والترمذي (1316 و 1317)، والنسائي (7/ 291).
وفي رواية: فَلَمَّا قَدِمنا المَدِينَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ: أَعطِهِ أُوقِيَّةً مِن ذَهَبٍ، وَزِدهُ. قَالَ فَأَعطَانِي أُوقِيَّةً مِن ذَهَبٍ وَزَادَنِي قِيرَاطًا، قَالَ: فَقُلتُ: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَانَ فِي كِيسٍ لِي، فَأَخَذَهُ أَهلُ الشَّامِ يَومَ الحَرَّةِ.
ــ
لا يختلف فيه إذا كان من بيع. وإنما يختلف فيه إذا كان من قرض. فاتفق على جوازه في الزيادة في الصفة؛ إذا كان بغير شرط، ولا عادة. وزاد أصحابنا: ولا قصد من المقرض للزيادة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا)(1). وأما الزيادة في العدد والوزن، فمنعها مالك في مجلس القضاء حسمًا للذريعة. وأجازها ابن حبيب. ولم يختلف في جواز ذلك؛ إذا كانت الزيادة بعد مجلس القضاء.
و(قوله: أعطه أوقية من ذهب) قال أبو جعفر الداودي: ليس لأوقية الذهب وزن يعرف. وأما أوقية الفضة: فأربعون درهمًا (2).
وفيه دليل على أن وزن الثمن وكَيله على المشتري، كما أنه على البائع إذا كان المبيع مما يكال، أو يوزن. ولأن على كل واحد منهما أن يسلِّم ما لزمه دفعه. ولا يتحقق التسليم إلا بذلك.
و(قوله: وزادني قيراطًا) وفي أخرى: (درهمًا أو درهمين) هذا اضطراب، وقد تكلَّف القاضي أبو الفضل الجمع بين هذه الروايات المختلفة التي في الثمن، وفي الزيادة، تكلُّفًا مبنيًا على تقدير أمر لم يصح نقله، ولا استقام
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده. انظر: فيض القدير (5/ 28).
(2)
في حاشية (ع): قال النووي في "شرح مسلم" له: يُحتمل أن تكون أوقية الذهب حينئذٍ وزن أربعة دنانير. وأما من روى: خمس أواق، فالمراد: خمس أواقٍ من الفضة، وهي بقدر أوقية الذهب في ذلك الوقت؛ فيكون الإخبار بأوقية الذهب عمَّا وقع به العقد، وعن أواق الفضة عمَّا حصل به الإيفاء، ولا يتغير الحكم. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (11/ 33).
وفي أخرى: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَتُرَانِي مَاكَستُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ.
وفي أخرى: قَالَ: فَنَخَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: اركَب بِاسمِ اللَّهِ. وَقَالَ: فَمَا زَالَ يَزِيدُنِي وَيَقُولُ: وَاللَّهُ يَغفِرُ لَكَ. اختلفت الروايات
ــ
ضبطه، مع أنه لا يتعلَّق بتحقيق ذلك حكم، ولا يفيد حكمة. والحاصل: أنَّه باعه البعير بثمن معلوم لهما، وزاده عند القضاء زيادة محققة، ولا يضرنا جهلنا بمقدار ذلك.
و(قوله: خذ جملك ودراهمك، فهو لك) هذا يدلُّ على أن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عطية مبتدأة بعد صحة شرائه، وملكه للبعير. وهذا مبطل لتأويل بعض الشافعية في هذا الحديث؛ إذ قال: إن ذلك لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم شراء للبعير، ولا بيعًا من جابر حقيقة. وهذا من قائله تغيير وتحريف، لا تأويل. وكيف يقبل هذا التأويل مع قوله:(أتبيعنيه بأوقية) فقال: قد بعته منك بأوقية، على أن لي ظهره إلى المدينة. بعد المماكسة. وهذا نصٌّ لا يقبل التأويل. وكذلك قوله:(فهو لك) بعد قوله: (خذ جملك ودراهمك) وذلك واضح لمن تأمل أفراد تلك الكلمات ومركّباتها.
و(قوله: أتراني ماكستك لكي آخذ جملك) بكسر لام كي، ونصب الفعل المضارع بعدها. كذا لجميع الرواة. وقُيِّد على أبي بحر. (لا، خذ جملك) على (لا) النافية، و (خذ) على الأمر. والمعنيان واضحان.
و(قوله: فما زال يزيدني) يدلُّ على أنه زاده بعد القيراط شيئًا آخر. ولعلها: الدرهم، والدرهمان اللذان قال في الرواية الأخرى.
و(قوله: والله يغفر لك) قال أبو نضرة: وكانت كلمة يقولها المسلمون: افعل كذا، والله يغفر لك.