المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٤

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(14) كِتَاب الإِمَارَةِ وَالبَيعَةِ

- ‌(1) بَاب اشتِرَاطِ نَسَبِ قُرَيشٍ في الخِلافَةِ

- ‌(2) باب في جواز ترك الاستخلاف

- ‌(3) باب النهي عن سؤال الإمارة والحرص عليها وأن من كان منه ذلك لا يولاها

- ‌(4) باب فضل الإمام المقسط وإثم القاسط وقوله كلكم راع

- ‌(5) باب تغليظ أمر الغلول

- ‌(6) باب ما جاء في هدايا الأمراء

- ‌(7) باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم}

- ‌(8) باب إنما الطاعة ما لم يأمر بمعصية

- ‌(9) باب في البيعة على ماذا تكون

- ‌(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر

- ‌(11) باب يصبر على أذاهم وتؤدَّى حقوقهم

- ‌(12) باب فيمن خلع يدا من طاعة وفارق الجماعة

- ‌(13) باب في حكم من فرَّق أمر هذه الأمة وهي جميع

- ‌(14) باب في الإنكار على الأمراء وبيان خيارهم وشرارهم

- ‌(15) باب مبايعة الإمام على عدم الفرار وعلى الموت

- ‌(16) باب لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وعمل صالح

- ‌(17) باب في بيعة النساء والمجذوم وكيفيتها

- ‌(18) باب وفاء الإمام بما عقده غيره إذا كان العقد جائزا ومتابعة سيد القوم عنهم

- ‌(19) باب جواز أمان المرأة

- ‌(15) كتاب النكاح

- ‌(1) باب الترغيب في النكاح وكراهية التبتل

- ‌(2) باب ردّ ما يقع في النفس بمواقعة الزوجة

- ‌(3) باب ما كان أبيح في أول الإسلام من نكاح المتعة

- ‌(4) باب نسخ نكاح المتعة

- ‌(5) باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وما جاء في نكاح المحرم

- ‌(6) باب النهي عن خِطبَةِ الرجل على خِطبَةِ أخيه وعن الشغار وعن الشرط في النكاح

- ‌(7) باب استئمار الثيب واستئذان البكر والصغيرة يزوجها أبوها

- ‌(8) باب النّظر إلى المخطوبة

- ‌(9) باب في اشتراط الصَّداق في النكاح وجواز كونه منافع

- ‌(10) باب كم أصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟ وجواز الأكثر من ذلك والأقل والأمر بالوليمة

- ‌(11) باب عِتق الأمةِ وتزويجها وهل يصح أن يجعل العتق صداقا

- ‌(12) باب تزويج زينب ونزول الحجاب

- ‌(13) باب الهدية للعروس في حال خلوته

- ‌(14) باب إجابة دعوة النكاح

- ‌(15) باب في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم) الآية وما يقال عند الجماع

- ‌(16) باب تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها، ونشر أحدهما سر الآخر

- ‌(17) باب في العزل عن المرأة

- ‌(18) باب تحريم وطء الحامل من غيره حتى تضع، وذكر الغيل

- ‌أبواب الرضاع

- ‌(19) باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة

- ‌(20) باب التحريم من قِبَل الفحل

- ‌(21) باب تحريم الأخت وبنت الأخ من الرضاعة

- ‌(22) باب لا تُحرِّم المَصَّةُ ولا المَصَّتان

- ‌(23) باب نسخ عشر رضعات بخمس، ورضاعة الكبير

- ‌(24) باب إنما الرَّضاعة من المَجَاعة

- ‌(25) باب في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)

- ‌(26) باب الولد للفراش

- ‌(27) باب قبول قول القافة في الولد

- ‌(28) باب المقام عند البكر والثيب

- ‌(29) باب في القَسم بين النساء وفي جواز هبة المرأة يومها لضرتها

- ‌(30) باب في قوله تعالى: {تُرجِي مَن تَشَاءُ مِنهُنَّ وَتُؤوِي إِلَيكَ مَن تَشَاءُ}

- ‌(31) باب الحث على نكاح الأبكار وذوات الدين

- ‌(32) باب مَن قَدم من سفر فلا يعجل بالدخول على أهله فإذا دخل فالكيس الكيس

- ‌(33) باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، ومداراة النساء

- ‌(16) كتاب الطلاق

- ‌(1) باب في طلاق السنة

- ‌(2) باب ما يُحِلُّ المطلقة ثلاثًا

- ‌(3) باب إمضاء الطلاق الثلاث من كلمة

- ‌(4) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا} الآية

- ‌(6) باب إيلاء الرَّجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة

- ‌(7) باب فيمن قال: إن المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى

- ‌(8) باب فيمن قال: لها السكنى والنفقة

- ‌(9) باب لا تخرج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا إن اضطرت إلى ذلك

- ‌(10) باب ما جاء أن الحامل إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها

- ‌(11) باب في الإحداد على المَيِّت في العدة

- ‌(12) باب ما جاء في اللِّعَان

- ‌(13) باب كيفية اللِّعان ووعظ المتلاعنين

- ‌(14) باب ما يتبع اللِّعان إذا كمل من الأحكام

- ‌(15) باب لا ينفى الولد لمخالفة لون أو شبه

- ‌(17) كتاب العتق

- ‌(1) باب فيمن أعتق شركًا له في عبد وذكر الاستسعاء

- ‌(2) باب إنما الولاء لمن أعتق

- ‌(3) باب كان في بريرة ثلاث سنن

- ‌(4) باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته وفي إثم من تولى غير مواليه

- ‌(5) باب ما جاء في فضل عتق الرِّقبة المؤمنة وفي عتق الوالد

- ‌(6) باب تحسين صحبة ملك اليمين، والتغليظ على سيده في لطمه، أو ضربه في غير حد ولا أدب، أو قذفه بالزنا

- ‌(7) باب إطعام المملوك مما يأكل ولباسه مما يلبس، ولا يكلف ما يغلبه

- ‌(8) باب في مضاعفة أجر العبد الصالح

- ‌(9) باب فيمن أعتق عبيده عند موته وهم كل ماله

- ‌(10) باب ما جاء في التدبير وبيع المُدَبَّر

- ‌(18) كتاب البيوع

- ‌(1) باب النهي عن الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، والغرر

- ‌(2) باب النهي عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن تلقي الجلب، وعن التصرية، وعن النجش

- ‌(3) باب لا يبع حاضر لباد

- ‌(4) باب ما جاء: أن التصرية عيب يوجب الخيار

- ‌(5) باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض أو ينقل

- ‌(6) باب بيع الخيار، والصدق في البيع، وترك الخديعة

- ‌(7) باب النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها

- ‌(8) باب النَّهي عن المزابنة

- ‌(9) باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ بخرصها تمرا

- ‌(10) باب فيمن باع نخلًا فيه تمر، أو عبدا وله مال

- ‌(11) باب النَّهي عن المحاقلة والمخابرة والمعاومة

- ‌(12) باب ما جاء في كراء الأرض

- ‌(13) باب فيمن رأى أن النهي عن كراء الأرض إنما هو من باب الإرشاد إلى الأفضل

- ‌(14) باب المساقاة على جزء من الثمر والزرع

- ‌(15) باب في فضل من غرس غرسًا

- ‌(16) باب في وضع الجائحة

- ‌(17) باب قسم مال المفلس، والحث على وضع بعض الدين

- ‌(18) باب من أدرك ماله عند مُفلس

- ‌(19) باب في إنظار المُعسِر والتجاوز عنه ومطل الغني ظلم، والحوالة

- ‌(20) باب النَّهي عن بيع فضل الماء، وإثم منعه

- ‌(21) باب النهي عن ثمن الكلب، والسنور، وحلوان الكاهن، وكسب الحجام

- ‌(22) باب ما جاء في قتل الكلاب واقتنائها

- ‌(23) باب في إباحة أجرة الحجَّام

- ‌(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

- ‌أبواب الصرف والربا

- ‌(25) باب تحريم التفاضل والنساء في الذهب بالذهب والورق بالورق

- ‌(26) باب تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير والتمر والملح

- ‌(27) باب بيع القلادة فيها خرز وذهب بذهب

- ‌(28) باب من قال: إن البُرَّ والشعير صنف واحد

- ‌(29) باب فسخ صفقة الربا

- ‌(30) باب ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة

- ‌(31) باب اتِّقاء الشبهات ولعن المقدم على الربا

- ‌(32) باب بيع البعير واستثناء حملانه

- ‌(33) باب الاستقراض وحسن القضاء فيه

- ‌(34) باب في السلم والرهن في البيع

- ‌(35) باب النَّهي عن الحكرة، وعن الحلف في البيع

- ‌(36) باب الشفعة

- ‌(37) باب غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختلف في الطريق

- ‌(38) باب إثم من غصب شيئًا من الأرض

- ‌(19) كتاب الوصايا والفرائض

- ‌(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز

- ‌(2) باب الصدقة عمَّن لم يوص، وما ينتفع به الإنسان بعد موته

- ‌(3) باب ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند موته

- ‌(4) باب ألحقوا الفرائض بأهلها، ولا يرث المسلم الكافر

- ‌(5) باب ميراث الكلالة

- ‌(6) باب من ترك مالًا فلورثته وعصبته

- ‌(7) باب قوله عليه الصلاة والسلام: لا نورث

- ‌(20) كتاب الصَّدقة والهِبَة والحَبس

- ‌(1) باب النهي عن العود في الصدقة

- ‌(2) باب فيمن نحل بعض ولده دون بعض

- ‌(3) باب المنحة مردودة

- ‌(4) باب ما جاء في العمرى

- ‌(5) باب فيما جاء في الحُبس

- ‌(21) كتاب النذور والأيمان

- ‌(1) باب الوفاء بالنذر، وأنه لا يرد من قدر الله شيئا

- ‌(2) باب لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا فيما لا يملك العبد

- ‌(3) باب فيمن نذر أن يمشي إلى الكعبة

- ‌(4) باب كفارة النذر غير المسمى كفارة يمين، والنهي عن الحلف بغير الله تعالى

- ‌(5) باب النهي عن الحلف بالطواغي، ومن حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله

- ‌(6) باب من حلف على يمين فرأى خيرًا منها فليكفر

- ‌(7) باب اليمين على نية المستحلف والاستثناء فيه

- ‌(8) باب ما يخاف من اللجاج في اليمين، وفيمن نذر قربة في الجاهلية

الفصل: ‌(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

[1671]

وعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ بِالمَدِينَةِ فقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالخَمرِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنزِلُ فِيهَا أَمرًا، فَمَن كَانَ عِندَهُ مِنهَا شَيءٌ فَليَبِعهُ وَليَنتَفِع بِهِ. قَالَ: فَمَا لَبِثنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمرَ، فَمَن أَدرَكَتهُ هَذِهِ

ــ

(24)

ومن باب: تحريم بيع الخمر

(قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعرِّض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، هذا التعريض، وهذا التوقع إنما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:{يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا} ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُم سُكَارَى حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وذلك: أنه لما سمع أن فيهما إِثمًا كبيرًا، وأن إثمهما أكبر من نفعهما، وأنه قد منع من الصلاة في حال السُّكر؛ ظهر له: أن هذا مناسب للمنع منها، فتوقع ذلك.

و(قوله: فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به) فيه دليل على أن الخمر وبيعها كانا مباحين إباحة متلقاة من الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر أصحابه عليها، وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية؛ لأن إقراره دليلُ الجواز والإباحة، كما قررناه في الأصول. وفيه دليل على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت، وعلى صيانة المال، وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعلمه من الوجوه المصلحية.

و(قوله: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرَّم الخمر، فمن

ص: 455

الآيَةُ وَعِندَهُ مِنهَا شَيءٌ فَلَا يَشرَب وَلَا يَبِع. فَاستَقبَلَ النَّاسُ مَا كَانَ عِندَهُم مِنهَا فِي طَرِيقِ المَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا.

رواه مسلم (1578).

ــ

أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب، ولا يبع) يعني بالآية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ} الآية، وسيأتي الحديث عليها.

ويعني بقوله: (من أدركته) أي: من بلغته وهو بصفات المكلفين من العقل والبلوغ. وقد فهمت الصحابة رضي الله عنهم من نهيه عن الشرب والبيع: أنها لا ينتفع بها بوجه من الوجوه، ولذلك بادروا إلى إراقتها، وإتلافها. ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبَّه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، كما نبَّه على ما في جلد الميتة من المنفعة؛ لما قال:(هلَاّ أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به)(1) وعلى هذا: فلا يجوز تخليلها، ولا أن تعالج بالملح والسَّمك فيصنع منها المُري. وإلى مَنع ذلك ذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم. وحكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة، والأوزاعي، والليث. وقد دلَّ على فساد هذا ما ذكرناه آنفًا، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلاًّ. وسيأتي مزيد بيان على هذا.

قال القاضي عياض: وفي هذا أيضًا: منع الانتفاع بها للتداوي، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء، ولتجويز لقمة غص بها. وهو قول مالك، والشافعي، وغيرهم. وأجاز ذلك أبو حنيفة، وأحمد. وقاله بعض أصحابنا. وروي عن الشافعي: جوازه أيضًا إذا خاف التلف، وقاله أبو ثور.

قلت: وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقا فلا يصح تملكها لمسلم، ولا تقر في يديه، بل تتلف عليه. ويجب ذلك عليه. ويتلفها الوصي على اليتيم. وقد ذكر ابن

(1) رواه البخاري (1492)، ومسلم (363/ 101)، وأبو داود (4120)، والنسائي (7/ 171)، وابن ماجه (3610).

ص: 456

[1672]

وعَن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ رَجُلًا أَهدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَل عَلِمتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا. فَسَارَّ إِنسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِمَ سَارَرتَهُ؟ قَالَ: أَمَرتُهُ بِبَيعِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُربَهَا حَرَّمَ بَيعَهَا.

ــ

خواز منداذ من قدماء أصحابنا العراقيين: أنها تملك، ونزع إلى ذلك: بأنها يمكن أن يزال بها الغُصص، ويُطفأ بها الحريق، فتملك لذلك. وهذا نقل لا يعرف لمالك، ولا يلتفت لشيء مما قيل هنالك؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك، على ما ذكرناه آنفًا فيمن غص بلقمة. ولو سلمنا ذلك فلا يلتفت إليه لندوره، وعدم وقوعه. وإنما ذلك تجويز وهمي، وتقدير، فاعتباره وسواسٌ أعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه، ولم يلتفتوا إلى شيء منه.

و(قوله صلى الله عليه وسلم للمُهدِي راوية الخمر: (هل علمت أن الله حرَّمها) وقول المُهدِي: لا؛ يدلُّ على قرب عهد التحريم بزمن الإهداء. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن له الحكم، ولم يوبخه، ولم يذمَّه؛ لأن الرَّجل كان متمسِّكًا بالإباحة المتقدِّمة، ولم يبلغه الناسخ، فكان ذلك دليلًا: على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ، بل ببلوغه، كما قرَّرناه في الأصول.

و(قوله صلى الله عليه وسلم: (بم ساررته؟ ) دليل: على أن العالم إذا خاف على أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حتى يتبين وجهه له، ولا يكون هذا من باب التجسس، بل من باب النصيحة والإرشاد.

و(قوله: إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها) الذي هنا: كناية عن اسم الله تعالى، فكأنه قال: إن الله حرَّم شربها وحرَّم بيعها. ويحتمل أن يكون معناه:

ص: 457

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إن الذي اقتضى تحريم شربها اقتضى تحريم بيعها؛ إذ لا تراد إلا للشرب، فإذا حرم الشرب لم يجز البيع؛ لأنه يكون من أكل المال بالباطل. وقد دلَّ على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه) يعني: شيئًا يؤكل، أو يشرب؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الحديث، ويلحق به كل محرَّم نجس لا منفعة فيه.

واختلف في جواز بيع ما فيه منفعة منها، كالأزبال، والعذرة. فحرم ذلك الشافعي، ومالك، وجُلّ أصحابنا. وأجاز ذلك الكوفيون، والطبري. وذهب آخرون: إلى إجازة ذلك للمشتري دون البائع. ورأوا: أن المشتري أعذر من البائع؛ لأنه مضطر إلى ذلك. روي ذلك عن بعض أصحابنا. وهي قولة عن الشافعي.

وقد فهم الجمهور من تحريم الخمر وبيعها، والمنع من الانتفاع بها، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكمَ بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة وحده من السلف فرأى (1): أنها طاهرة، وأن المحرَّم إنما هو شربها. وهو قول شاذ يردُّه ما تقدَّم. وما كان يليق بأصول ربيعة، فإنه قد علم: أن الشرع قد بالغ في ذم الخمر حتى لعنها وعشرة بسببها (2)، وأمر باجتنابها، وبالغ في الوعيد عليها. فمن المناسب بتصرفات الشرع الحكم بتنجيسها مبالغة في المباعدة عنها، وحماية لقربانها. فإن قيل: التنجيس حكم شرعي، ولا نصّ فيه، فلا يلزم من كون الشيء محرَّمًا أن يكون نجسًا؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس.

(1) في (م) و (ج 2) وحكي ذلك عن الليث بن سعد، والمزني من أصحاب الشافعي، فرأوا.

(2)

في هذا إشارة إلى حديث: "لعن اللهُ في الخمر عشرة. . ." رواه الترمذي (1295)، وابن ماجه (3381).

ص: 458

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فالجواب: أنها وإن لم يكن فيها نصٌّ بالوضع المُتَّحِد، لكن فيها ما يدلُّ دلالة النصوصية بمجموع قرائن الآية ومساقها. ويَعرفُ ذلك من تصفَّح الآية وتفهَّمها. ثم ينضاف إلى الآية جملة ما ذكرناه، فيحصل اليقين بالحكم بتنجيسها. ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص فيها قليل. وأيُّ نص يوجد على تنجيس البول، والعذرة، والدَّم، والميتة، وغير ذلك، ولا يوجد نصٌّ على تنجيس شيء مما هنالك. وإنما هي الظواهر، والعمومات، والأقيسة.

وقوله: لا يلزم من الحكم بالتحريم الحكم بالتنجيس. قلنا: لم نستدل بمجرد التحريم، بل بتحريم مستخبث شرعي يحرم شربه، وإن شئت أن تحرر قياسًا؛ قلت: مستخبث شرعا (1)، يحرم شربه، فيكون نجسًا كالبول، والدَّم. وهذا هو الأولى بربيعة، فإنه الملقَّب بـ (ربيعة الرأي). والله تعالى أعلم.

وقد استدل بعض من تابع ربيعة على عدم تنجيس الخمر، وهو سعيد بن الحداد القروي بسفك الخمر على طرق المدينة. قال: ولو كانت نجسة لما فعلوا ذلك، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، كما نهى عن التخلِّي في الطرق.

والجواب: أن الصحابة رضي الله عنهم فعلت ذلك لضرورة الحال، لأنهم لم تكن لهم سُروبٌ (2)، ولا آبارٌ يريقونها فيها؛ إذ الغالب من حالهم: أنهم لم تكن لهم كُنُف (3) في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت. ونَقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة، ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، فالتحق صبها في الطرق بالنجاسات التي لا تنفكُّ الطرق عنها، كأرواث الدواب، وأبوالها. وأيضًا: فإنها يمكن التحرُّز منها،

(1) في (ع) و (م): شرعي.

(2)

جمع سَرَب، وهو: القناة التي يجري فيها الماء.

(3)

جمع كنيف، وهو المكان المعدّ لقضاء الحاجة.

ص: 459

قَالَ: فَفَتَحَ المَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا.

رواه أحمد (1/ 323)، ومسلم (1579)، والنسائي (7/ 307).

[1673]

وعَن عَائِشَةَ قالت: لَمَّا أنَزَلَت الآيَاتُ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ -وفي رواية: في الربا- خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى عَن التِّجَارَةِ فِي الخَمرِ.

رواه مسلم (1580)(69 و 70).

ــ

فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة، بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلّها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرُّز عنها. هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها. ويتتابع (1) الناس، ويتوافقوا على ذلك، والله أعلم.

و(قوله: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها) دليل: على أن أواني الخمر إذا لم تكن مضرّاة (2) بالخمر؛ أنه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غسلت، ألا ترى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إبقاءها عنده، ولا أمره بشقها، ولو كانت نجسة لا يطهرها الغسل لأمره بشقِّها، وتقطيعها، كما فعل أبو طلحة لَمَّا قال لأنس: قم إلى هذه الجرار فكسرها. قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت.

و(الراوية): القربة الكبيرة التي يُحمَل فيها الماء. وقد سُمِّي البعير الذي يحملها: راوية؛ لأنه يحملها. وسُميت بذلك: لأنها تَروِي من كانت عنده، وتُسمَّى أيضًا: مزادة؛ لأنها زيد فيها جلد آخر، ويحتمل أن تُسمَّى بذلك؛ لأنها من كانت عنده في سفره كان عنده معظم الزَّاد.

(1) في (ل 1): ويتسامع.

(2)

الضاري من الآنية: الذي ضري بالخمر -أي: اشتدّ- فإذا جُعِل فيه النبيذ صار مُسْكِرًا.

ص: 460

[1674]

وعَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الفَتحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ، وَالمَيتَةِ، وَالخِنزِيرِ، وَالأَصنَامِ.

ــ

و(قول جابر رضي الله عنه: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام) كذا صحَّت الرواية: (حرَّم) مُسندًا إلى ضمير الواحد. وكان أصله: حَرَّما؛ لأنه تقدَّم اثنان، لكن تأدَّب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لأن هذا من نوع ما ردَّه على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: (بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)(1) وقد قدَّمنا الكلام عليه في كتاب الصلاة. وصار هذا مثل قوله تعالى: الله بريء من المشركين ورسوله (2)، فيمن قرأ بنصب (رسولَه) غير أن الحديث فيه تقديم، وتأخير؛ لأنه كان حقه أن يقدم:(حرَّم) على (رسوله) كما جاء في الآية، والله تعالى أعلم (3).

وهذا الحديث يدلُّ: على أن تحريم الخمر كان متقدِّما على فتح مكة، وقد سوَّى في هذا الحديث بين الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فلا يجوز بيع شيء مِمَّا يقال عليه خمرٌ. وقد قدمنا، ويأتي: أن الخمر: كل شراب يُسكر من أي شيء كان، من عنب أو غيره. فيحرم بيع قليله وكثيره. وقد قلنا: إن تحريم نفعه (4) مُعَلَّل بنجاسته، وأنه ليس فيه منفعة مسوِّغة شرعا.

وأما الميتة: فيحرم بيع

(1) رواه أحمد (4/ 256)، ومسلم (870)، وأبو داود (1099)، والنسائي (6/ 90).

(2)

رسولُه: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: ورسولُه بريءٌ من المشركين، وإنما حُذف لدلالة الأول عليه، وهذا أصح الأوجه. إعراب القرآن الكريم لمحيي الدين درويش (4/ 52).

(3)

ما بين حاصرتين ساقط من (م).

(4)

في (ل 1): بيعه.

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جميع أجزائها، حتى عظمها، وقرنها، ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تحله الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر من الميتة، وينتزع من الحيوان في حال حياته وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وزاد أبو حنيفة، وابن وهب من أصحابنا إلى ذلك: أن العظم من الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، كلها لا تَحُلُّها الحياة، فلا تنجس بالموت.

والجمهور على خلافهما في العظم، وما ذكر معه، فإنها تحله الحياة. وهو الصحيح. فإن العظم والسن يألم، وتُحَسُّ به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة. فأمَّا أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيل: فاختلف فيها. هل حكمها حكم أصولها فتنجس؟ أو حكمها حكم الشعر؟ على قولين.

وأمَّا الريش: فالشعري منه شعرٌ، وأسفله عظم. ومتوسطه؛ هل يلحق بأطرافه أو بأصله؟ فيه قولان لأصحابنا. وقد قال بنجاسة الشعر الحسن البصري، والليث بن سعد، والأوزاعي، لكنها تطهر بالغسل عندهم، فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال: تطهر إن سُلِقَت بالماء.

وعن الشافعي في الشعور ثلاث روايات:

إحداها: أن الشعر ينجس بالموت.

والثانية: أنها طاهرة كقولنا.

والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر، وأن ما عداه نجس.

وأمَّا الميتة: فلا تباع قبل الدباغ، ولا ينتفع بها؛ لأنها كلحم الميتة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب)(1) وأما بعد الدِّباغ؛ فمشهور مذهب مالك: أنها لا تطهر بالدِّباغ، وإنما ينتفع بها. وهو مذهب جماعة

(1) رواه أبو داود (4128)، والترمذي (1729)، والنسائي (7/ 175)، وابن ماجه (3613).

ص: 462

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من أهل العلم. وعلى هذا فلا يجوز بيعها، ولا الصلاة عليها، ولا بها، ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات، إلا في الماء وحده.

وذهب الجمهور من السَّلف، والخلف: إلى أنها تطهر طهارة مطلقة، وأنها يجوز بيعها، والصلاة عليها، وبها. وإليه ذهب الشافعي، ومالك في رواية ابن وهب. وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:(أيُّما إهاب دبغ فقد طهر)(1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (دباغ الإهاب طهوره)(2) وغير ذلك. وكلها صحيح.

ومما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر. وقد أُعطي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة آلاف درهم. فلم يأخذها، ودفعه إليهم، وقال:(لا حاجة لنا بجسده، ولا بثمنه)(3).

وأمَّا الخنزير، وهو الحيوان المعروف البريُّ، ولا تعرف العرب في البحر خنزيرًا. وقد سُئل مالك عن خنزير الماء؟ فقال: أنتم تسمونه خنزيرًا؛ أي: لا تسمِّيه العرب بذلك. وقد اتَّقاه مرة أخرى على جهة الورع، والله تعالى أعلم.

فأمَّا البري: فلا خلاف في تحريمه، وتحريم بيعه، وأنه لا تعمل الذكاة فيه. ومن هنا قال كافة العلماء: إن جلده لا يُطَهِّرهُ الدِّباغ، وإنما يُطَهِّرُ الدباغ جلد ما تعمل الذكاة في حيه. وألحق الشافعي بالخنزير الكلب، فلا يطهر جلده عنده. وقال الأوزاعي، وأبو ثور: إنما الدِّباغ جلد ما يؤكل لحمه.

وقد أجاز مالك تذكية السِّباع والفيل لأخذ جلودها، وهذا إنما يتمشى على قوله بكراهة لحومها. وأما

(1) رواه أبو داود (4123)، والترمذي (1728)، والنسائي (7/ 173)، وابن ماجه (3609).

(2)

رواه أحمد (3/ 476)، وابن حبان (2/ 291)، وانظر: بلوغ المرام لابن حجر رقم (22) طبعة دار ابن كثير، وتحقيق يوسف علي بديوي.

(3)

رواه ابن أبي شيبة (12/ 419) وانظر: تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي ص 305).

ص: 463

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيتَ شُحُومَ المَيتَةِ، فَإِنَّهُ يُطلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَستَصبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ

ــ

على ما قاله في الموطأ من أن السِّباع حرام: فلا تعمل الذكاة فيها، فلا تطهر جلودها بالدباغ، كالخنزير. وقد شذَّ داود، وأبو يوسف فقالا: إنه يطهر بالدِّباغ جلدُ كل حيوان، حتى الخنزير. ومتمسكهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)(1). ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة. وينفصل الجمهور عنهما: بأن هذا العموم محمولٌ على نوع السبب الذي أخرجه. وهو ميتة ما تعمل الذكاة فيه، وبأن جلد الخنزير نادرٌ لا يخطر بالبال حالة الإطلاق، فلا يقصد بالعموم، كما قررناه في أصول الفقه، وبأنه: لا يقال: إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه، كما قاله النَّضر بن شُمَيل. وأمَّا القياس: فليس بصحيح؛ لوجود الفرق. وذلك: أن الأصل: ميتة ما تعمل الذَّكاة فيه. والفرع: ميتة ما لا تعمل الذكاة فيه. فكانت أغلظ، وأفحش. والله تعالى أعلم.

وأمَّا الأصنام: فهي الصور المُتَخِذَةُ للعبادة، ولا خلاف في تحريم اتخاذها، وبيعها، وأنها يجب كسرها، وتغييرها. وكذلك كل صورة مجسدة، كانت صورة ما يعقل، أو ما لا يعقل. وأما ما كان رقما في ثوب أو بناء في حائط (2)، ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

و(قوله - وقد سُئل عن بيع شحوم الميتة -: لا، هو حرام) نصٌّ في أنه يحرم بيعها؛ وإن كانت فيها منافع، وذلك: لأنها جزء من الميتة كاللحم، أو هي كالشحم مع اللحم، فإنه عنه يكون. ولا يلزم من تحريم بيعها، والحكم بنجاستها، ألا يجوز الانتفاع بها، على ما قدمناه. وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك،

(1) سبق تخريجه في الصفحة السابقة.

(2)

انظر: كتاب اللباس، الباب رقم (15).

ص: 464

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِندَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِم شُحُومَهَا

ــ

فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات؛ كالزيت، والسمن، والعسل، وغير ذلك، مع الحكم بنجاسته. فقال: يعمل من الزيت النجس الصابون، ويستصبح به في غير المساجد. ويعلف العسلُ النحلَ. ويطعم النجس الماشية. وإلى نحو ذلك ذهب الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة. وروي عن علي وابن عمر. وقد فَرَّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة. فقال: لا ينتفع بالشحوم؛ لأنها نجسة لعينها، بخلاف ما ينجس بما وقع فيه، فإنه ينتفع به؛ لأن نجاسته ليست لعينه، بل عارضة.

قلت: وهذا الفرق ليس بصحيح. فإن النجاسة حكم شرعي. والأحكام الشرعية ليست صفات للأعيان، بل هي راجعة لقول الشارع: افعلوا، أو لا تفعلوا. كما قد حققناه في الأصول (1). ولو سلمناه لقلنا: إن النجاسة العينية قد اختلطت مع العارضة ولا مميز، فحكمهما سواء.

فإن قيل: فكيف يجوز أن يقال بجواز الانتفاع بشيء من ذلك، وفي الحديث الصحيح:(إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه)(2). والانتفاع بها قربان لها فلا يجوز؟ ! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعا.

فالجواب: القول بموجب ما ذكر. فإن القرب المنهي عنه إنما هو الأكل؛ بدليل قوله في أول الحديث: (إن كان جامدًا فألقوها، وكلوه) وفي بعض طرقه: (وكلوا سمنكم) ثم قال بعد هذا: (وإن كان مائعًا فلا تقربوه) أي: بأكل. وأيضًا: فقد قررنا في أصول الفقه: أن الشرع إذا نهى عن شيء، وأوقع نهيه عليه، فإنما يعني به: النهي

(1) في (ج 2): أصول الفقه.

(2)

رواه أحمد (2/ 232 و 265 و 490)، وأبو داود (3842). وانظر:"بلوغ المرام" لابن حجر رقم (807) طبعة دار ابن كثير.

ص: 465

أَجمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ.

رواه أحمد (3/ 326)، والبخاري (2236)، ومسلم (1581)، وأبو داود (3486)، والترمذي (1297)، والنسائي (7/ 309)، وابن ماجه (2167).

ــ

عما يراد ذلك الشيء له، وإن سكت عنه. كما قال تعالى:{وَلا تَقرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطهُرنَ} ؛ أي: بالوطء، وكقوله:{حُرِّمَت عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم} أي: وطؤهن ومقدماته. وكذلك العرف إذا قال العربي: لا تقرب الماء؛ أي: لا تشربه. والخبز؛ أي: لا تأكله. وهذا معلوم.

وأما النهي عن مباشرة النجاسات: فإنما يحمل على التحريم عند محاولة فعل الطهارة شرط فيه؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ونحو ذلك. وأما فيما لم يكن كذلك فلا يكون حرامًا بالاتفاق.

ثم اختلف القائلون بجواز الانتفاع بها. هل يجوز بيع ما ينتفع به منها أو لا؟ على قولين؛ والصحيح: منع (1) الجواز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود، نُهوا عن الشحم، فباعوه، وأكلوا ثمنه)(2). وفي بعض طرقه: (إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه)(3).

وقوله: (قاتل الله اليهود) أي: قتلهم؛ كقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ} قاله الهروي. قال: وسبيل (فَاعَلَ) أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد؛ كقولك: سافرت، وطارقت النعل. وقال ابن عباس: لعنهم. وقد جاء ذلك مصرَّحا به في الرواية الأخرى. وقال غيره: عاداهم.

و(قوله: اجتملوها (4)) أي: أذابوها. يقال: جملت الشحم، واجتملته:

(1) في (م) و (ج 2) نفي. والمثبت من (ع) و (ل).

(2)

رواه أحمد (3/ 326)، والبخاري (2236 و 4633)، ومسلم (1581).

(3)

أحمد (1/ 242 و 293 و 322)، وأبو داود (3488).

(4)

في التلخيص: أجملوه.

ص: 466

[1675]

وعَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ: أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ، أَلَم يَعلَم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ، حُرِّمَت عَلَيهِم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا.

رواه أحمد (1/ 242)، والبخاريُّ (2223)، ومسلم (1582)، وأبو داود (3488).

* * *

ــ

إذا أذبته. والجميل: الشحم المذاب. قال أبو عبيد: يقال: جملت، وأجملت، واجتملت.

و(قوله: أنَّه بلغ عمر: أن سمرة باع خمرًا) اختلف في كيفية بيع سمرة رضي الله عنه الخمر على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم، ظنًّا منه: أن ذلك جائز.

والثاني: أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرًا، والعصير يُسمَّى خمرًا؛ كما قد سمي العنب به في قوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعصِرُ خَمرًا} وُسمي بذلك لأنه يؤول إلى الخمر.

والثالث: أن يكون خلل الخمر وباعها خلاًّ. ولعل عمر كان يعتقد: أن ذلك لا يحلِّلها، كما قد ذهب إليه جماعة من أهل العلم على ما يأتي.

قلت: وفي هذين الوجهين بُعدٌ. والأشبه: الأول.

* * *

ص: 467