الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب إيلاء الرَّجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة
[1549]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَم أَزَل حَرِيصًا أَن أَسأَلَ عُمَرَ عَن المَرأَتَينِ مِن أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اللَّتَينِ قَالَ اللَّهُ: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا حَتَّى حَجَّ عُمَرُ وَحَجَجتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كُنَّا بِبَعضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ وَعَدَلتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَسَكَبتُ عَلَى يَدَيهِ فَتَوَضَّأَ فَقُلتُ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ مَن المَرأَتَانِ مِن أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ: إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا قَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا بنَ عَبَّاسٍ.
ــ
(6)
ومن باب: إيلاء الرَّجل من نسائه
الإيلاء في اللغة هو: الحلف. يقال: آلى، يُؤلي إيلاءً؛ أي: حلف. ويقال: تألَّى، تألِّيًا. و: ائتلى، يأتلي، ائتلاءً. وهو في الشرع: الحلف على الامتناع من وطء الزوجة بيمين يلزم بها حكم أكثر من أربعة أشهرٍ بمدَّة مؤثِّرة. وتفصيلُ ذلك في كتب الفقه.
و(قول عمر: واعجبا لك يا بن عباس! ) فهم الزهري من هذا التعجب الإنكار لما سأله عنه، وفيه بُعدٌ. ويمكن أن يقال: إنَّ تعجبه إنما كان لأنه استبعد أن يخفى مثل هذا على مثل ابن عباس مع مداخلته لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وشُهرة هذه القصة، وشدّة حرصه هو على سماع الأحاديث، وكثرة حفظه، وغزارة علمه، ولما كان في نفس عمر من ابن عباس، فإنه كان يُعظِّمه، ويقدِّمُهُ على كثير من مشايخ الصحابة، كما اتفق له معه؛ إذ سأله عن قوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ} والقصة مشهورة (1).
(1) انظر: فتح الباري، الحديث رقم (4970) وشرحه.
قَالَ الزُّهرِيُّ: كَرِهَ وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنهُ، وَلَم يَكتُمهُ. قَالَ: هِيَ حَفصَةُ وَعَائِشَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الحَدِيثَ. قَالَ: كُنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ قَومًا نَغلِبُ نساءنا، فَلَمَّا قَدِمنَا المَدِينَةَ وَجَدنَا قَومًا تَغلِبُهُم نِسَاؤُهُم. فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمنَ مِن نِسَائِهِم. قَالَ: وَكَانَ مَنزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيدٍ بِالعَوَالِي، فَتَغَضَّبتُ يَومًا عَلَى امرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنكَرتُ أَن تُرَاجِعَنِي. فَقَالَت: مَا تُنكِرُ أَن أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعنَهُ، وَتَهجُرُهُ إِحدَاهُنَّ اليَومَ إِلَى اللَّيلِ، فَانطَلَقتُ فَدَخَلتُ عَلَى حَفصَةَ فَقُلتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَت: نَعَم. فَقُلتُ: أَتَهجُرُهُ إِحدَاكُنَّ اليَومَ إِلَى اللَّيلِ؟ قَالَت: نَعَم. فقُلتُ: قَد خَابَ مَن فَعَلَ ذَلِكَ مِنكُنَّ، وَخَسِرَ أَفَتَأمَنُ إِحدَاكُنَّ أَن يَغضَبَ اللَّهُ عَلَيهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ قَد هَلَكَت؟ لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَسأَلِيهِ شَيئًا وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَن كَانَت جَارَتُكِ هِيَ أَوسَمَ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنكِ (يُرِيدُ عَائِشَةَ) قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِن الأَنصَارِ فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَنزِلُ يَومًا وَأَنزِلُ يَومًا، فَيَأتِينِي
ــ
و(قوله: فلا يغرَّنك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ وأحب) أراد بالجارة: الضَّرَّة، وكنَّى بها عنها مراعاةً للأدب، واجتنابًا للفظِ الضرر أن يُضاف لمثل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن، ويعني بذلك عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم.
و(أوسم): أجمل، والوسيم: الجميل، فكأنًّ الحُسنَ وَسَمَه؛ أي: علَّمه بعلامة يُعرف بها.
و(المشربة): الغرفة. يقال بضم الراء وفتحها، لغتان.
و(أُسكُفة المشربة) - بضم الهمزة والكاف: عتبة الباب السفلى.
و(الفقير) - بتقديم الفاء - فسَّره في الحديث بجذع يُرقى عليه، وهو الذي جُعِلَت فيه فِقَرٌ كالدرج يُصعَدُ عليها. أُخذ من فقار الظهر. وفي الأم:(يرتقي إليها بعجلة). كذا صحيح الرواية.
و(العجلة): درج من النخل، قاله القتبي. وفي الأم: قالت عائشة لعمر: ما لي ولك يا بن الخطاب! عليك بعيبتك؛ أي: بخاصتك، وموضع سرِّك؛ ومنه
بِخَبَرِ الوَحيِ وَغَيرِهِ وَآتِيهِ بِمِثلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَحَدَّثُ: أَنَّ غَسَّانَ تُنعِلُ الخَيلَ لِتَغزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي فَخَرَجتُ إِلَيهِ فَقَالَ: حَدَثَ أَمرٌ عَظِيمٌ قُلتُ: مَاذَا؟ أَجَاءَت غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا. بَل أَعظَمُ مِن ذَلِكَ وَأَطوَلُ؛ طَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ. فَقُلتُ: قَد خَابَت حَفصَةُ وَخَسِرَت - وقَد كُنتُ أَظُنُّ أن هَذَا كَائِن - حَتَّى إِذَا صَلَّيتُ الصُّبحَ شَدَدتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلتُ فَدَخَلتُ عَلَى حَفصَةَ وَهِيَ تَبكِي. فَقُلتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَت: لَا أَدرِي هَا هُوَ ذَا يعتَزِلٌ فِي هَذِهِ المَشرُبَةِ فَأَتَيتُ غُلَامًا أَسوَدَ.
وفي رواية: فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى أُسكُفَّةِ المَشرُبَةِ، مُدَلٍّ رِجلَيهِ عَلَى فَقِيرٍ مِن خَشَبٍ وَهُوَ جِذعٌ يَرقَى عَلَيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنحَدِرُ. فَقُلتُ: استَأذِن لعمر فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَد ذَكَرتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانطَلَقتُ حَتَّى انتَهَيتُ إِلَى المِنبَرِ فَجَلَستُ،
ــ
قوله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار كرشي، وعيبتي)(1). قال ابن الأنباري: معنى كرشي: أصحابي، وجماعتي الذين أعتمدهم. وأصل الكرش في اللغة: الجماعة. وقال غيره: ومعنى عيبتي: خاصتي، وموضع سرِّي. وأصل العيبة: الوعاء الذي يُجعل فيه الشيء النفيس الرفيع (2). وتعني بذلك: ابنته حفصة.
و(رباح) هذا هو بباء بواحدة من تحتها. و (رمل الحصير): نَسجُه. وقال ابن القوطية: رملت الحصير رملًا، وأرملتُه: نَسَجتُهُ.
و(متكئ): قال القاضي عياض: أي متمكِّنًا في قعوده كالمتربِّع ونحوه.
(1) رواه أحمد (3/ 188 و 201)، وابن حبان (7268)، وابن أبي شيبة (12/ 160)، والنسائي في فضائل الصحابة (221).
(2)
قال في النهاية: "الأنصار كرشي وعيبتي" أراد بطانته وموضع سرّه وأمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأنَّ المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته.
فَإِذَا عِندَهُ رَهطٌ جُلُوسٌ يَبكِي بَعضُهُم فَجَلَستُ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ. ثُمَّ أَتَيتُ الغُلَامَ فَقُلتُ: استَأذِن لِعُمَرَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَد ذَكَرتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيتُ مُدبِرًا فَإِذَا الغُلَامُ يَدعُونِي فَقَالَ: ادخُل فَقَد أَذِنَ لَكَ. فَدَخَلتُ، فَسَلَّمتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَملِ حَصِيرٍ قَد أَثَّرَ فِي جَنبِهِ. فَقُلتُ: أَطَلَّقتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: لَا. فَقُلتُ: اللَّهُ أَكبَرُ لَو رَأَيتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ قَومًا نَغلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمنَا المَدِينَةَ وَجَدنَا قَومًا تَغلِبُهُم نِسَاؤُهُم، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمنَ مِن نِسَائِهِم، فَتَغَضَّبتُ عَلَى امرَأَتِي يَومًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنكَرتُ أَن تُرَاجِعَنِي فَقَالَت: مَا تُنكِرُ أَن أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعنَهُ، وَتَهجُرُهُ إِحدَاهُنَّ اليَومَ إِلَى اللَّيلِ. فَقُلتُ: قَد خَابَ مَن فَعَلَ ذَلِكِ مِنهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأمَنُ إِحدَاهُنَّ أَن يَغضَبَ اللَّهُ عَلَيهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَد هَلَكَت؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَد دَخَلتُ عَلَى حَفصَةَ فَقُلتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَن كَانَت جَارَتُكِ
ــ
قلت: وهذه غفلة منه عن قوله: قد أثر في جنبه. والذي ينبغي أن يقال: إن الاتكاء هو: التمكُّن، والتثبُّت. فيكون ميلًا على جنب، ويكون ترَبُّعًا (1)؛ إذ كل واحدٍ منهما متمكِّنٌ ومتثبِّتٌ. ويعني به هاهنا: التمكّن على أحد جنبيه على كل حال.
و(قوله: طفق) معناه: جعل وأخذ، و (تَغَضَّبتُ): استعملتُ الغضب؛ أي: أسبابه. و (تبسَّم) أي: بدأ يضحك. وفي الأم: (كشر) في رواية. قال ابن السكيت: كَشَرَ، وتبسَّم، وابتسم، وافترَّ كلها بمعنى واحد. فإن زاد قيل: قهقه، وزمدق، وكركر. فإن أفرط؛ قيل: استغرب ضحكًا. وقال صاحب
(1) ساقط من (ج 2).
هِيَ أَوسَمُ مِنكِ، وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنكِ، فَتَبَسَّمَ أُخرَى، فَقُلتُ: آَستَأنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَم، فَجَلَستُ، فَرَفَعتُ رَأسِي فِي البَيتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيتُ فِيهِ شَيئًا يَرُدُّ البَصَرَ إِلَّا أُهَبًا ثَلَاثَةً. فَقُلتُ: ادعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَن يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَد وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُم لَا يَعبُدُونَ اللَّهَ، فَاستَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنتَ يَا بنَ الخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَومٌ عُجِّلَت لَهُم طَيِّبَاتُهُم فِي حَيَاتهم الدُّنيَا.
وفي رواية: فقال: أَمَا تَرضَى أَن تَكُونَ لَهُم الدُّنيَا، وَلَنَا الآخِرَةُ. ولم
ــ
الأفعال: كَشَرَ: أبدى أسنانه تبسُّمًا، أو غضبًا.
و(قوله: فقلت: آستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم) هو على الاستفهام، فيكون بهمزتين: همزة الاستفهام دخلت على همزة المتكلم. فإن شئت حققتهما، وإن شئت حققت الأولى وسَهَّلت الثانية، ومعناه: آنبسط في الحديث انبساط المتأنس؟ الذي لا يخاف عتبًا، ولا لومًا. استأذنه في ذلك. ومنه قوله تعالى:{وَلا مُستَأنِسِينَ لِحَدِيثٍ}
و(الأهب): جمع إهاب. وهو: الجلد غير مدبوغ. ويقال له أيضًا: أَفِيقٌ. فإذا جعل في الدِّباغ سُمِّي: منيئة. فإذا دبغ، فهو: أديم. ورُوي: (أُهُبٌ) - بضم الهاء -: جمع إهاب؛ كحمار، وحُمُر. ويروى بفتح الهاء والهمزة، كأنَّه جمع: أَهَبَة وأهب؛ كثمرة وثمر، وشجرة وشجر.
و(قوله: حين استوى جالسًا: (أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ ! ) إنكار منه على عمر لما وقع له من الالتفات إلى الدنيا، ومدِّ عينيه إليها. وقد بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب والردع بقوله:(أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم) وبقوله: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ ). وفيه حجة على تفضيل الفقر.
يذكر: أولئك قوم. فقلت: استَغفِر لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ أَقسَمَ أَلَا يَدخُلَ عَلَيهِنَّ شَهرًا مِن شِدَّةِ مَوجِدَتِهِ عَلَيهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ. قالت عَائِشَةَ: لَمَّا مَضَى تِسعٌ وَعِشرُونَ لَيلَةً، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِي. فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ أَقسَمتَ أَن لَا تَدخُلَ عَلَينَا شَهرًا، وَإِنَّكَ دَخَلتَ مِن تِسعٍ
ــ
و(قوله: وكان أقسم: ألا يدخل عليهن شهرًا من أجل موجدته عليهن) هذا يدلُّ: على أن المُؤلِي لا يُلزم إيقافه إذا حلف على أقل من أربعة أشهر، كما قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤلُونَ مِن نِسَائِهِم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشهُرٍ} فإن حلف على زيادة عليها لزم إيقافه، فإما حنَّثَ نَفسَهُ ووطِئ، وإما طلق؛ هذا مذهب جمهور الصحابة، والتابعين وأئمة الفتيا (1).
ولم يعتبر مالك الزيادة القليلة مثل الأيام اليسيرة، ورأى: أن لها حكم الأربعة الأشهر. واعتبرها غيره؛ لأنها زيادة على ما حدَّده الله تعالى. ولو اقتصر عندهم على الأربعة الأشهر لم يكن موليًا.
وذهب الكوفيون: إلى أنه مول. وشذ ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن في آخرين معهم فقالوا: إن حلف على ألا يجامعها يومًا، أو أقل، ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر فهو مول.
وروي عن ابن عمر (2) عكس هذا: أن كل من وقَّت ليمينه وقتًا، وضرب مدَّةً - وإن طالت - فليس بمولٍ، وإنما المولي من حلف على الأبد.
وسبب خلافهم اختلافُهم في فهم الآية. وحجة الجمهور منها واضحة. ولا خلاف بينهم أنَّه لا يقع عليه طلاق قبل الأربعة الأشهر، وأنه لو أحنث نفسه قبل تمامها سقط الإيلاء عنه.
ثم اختلفوا: هل بانقضاء الأربعة الأشهر يقع الطلاق؟ وهو قول الكوفيين، ويقدرون الآية؛ فإن فاءوا فيهنَّ، أو حتى يوقف الزوج، فإمَّا فَاءَ، وإمَّا طلق، أو طلق عليه السلطان؟ وهو قول الجماهير، وهو ظاهر قوله تعالى:{وَإِن عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ولو وقع الطلاق بمضيِّ المُدَّة؛
(1) في (ع) و (ج 2): الفقهاء، والمثبت من (ل 1).
(2)
في (ع): ابن عباس.
وَعِشرِينَ أَعُدُّهُنَّ فَقَالَ: إِنَّ الشَّهرَ تِسعٌ وَعِشرُونَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمرًا، فَلَا عَلَيكِ أَلَا تَعجَلِي فِيهِ حَتَّى تَستَأمِرِي أَبَوَيكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الآيَةَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ حَتَّى بَلَغَ أَجرًا عَظِيمًا قَالَت عَائِشَةُ: قَد عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَم يَكُونَا لِيَأمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَت: فَقُلتُ: أَفِي هَذَا أَستَأمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَت عَائِشَةَ: لَا تُخبِر نِسَاءَكَ أَنِّي اختَرتُكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ
ــ
لما كان لعزمهم على الطلاق بعدها معنى. ومشهور مذهب مالك كقول الجماهير. وحُكي عنه مثل قول الكوفيين. وقال أشهب: إن قال: أنا أفيء، أمهل حتى تنقضي عدتها. فإن لم يفِئ بانت منه، ولا خلاف بين الجماهير: أن الطلاق فيه رجعيُّ، غير أن مالكا يقول: رجعته موقوفة على الوطء.
واختلف الكوفيون في ذلك الطلاق: هل هو بائن أو رجعيٌّ؟
ثم ظاهر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤلُونَ مِن نِسَائِهِم} ؛ العموم في كل مول على أكثر من أربعة أشهر، فسواء كان إيلاؤه على وجه الغضب، أو الرضا، أو لمصلحة، أو غيرها. لكن اختلفوا في هذه المسائل. فذهب مالك، والأوزاعي: إلى أنَّه إذا أدَّى إلى مصلحة الولد أنَّه لا يكون مُوليًا، ولا يوقف، وهو قياس قولهم في شبه هذا مما لا يقصد به الضرر. فأمَّا لو قصد الضرر بحلفه: فلا يختلفون في أنَّه موجب لحكم الإيلاء، وهو المفهوم (1) من قوله:{فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ فإنَّ المغفرة مشعرة بالذنب، وذلك يكون بإضراره بها أو بقصده إلى ذلك.
وروي عن عليٍّ، وابن عباس رضي الله عنهم: أنه إنما يكون مُوليًا إذا حلف على وجه الغضب، وأمَّا على وجه الرِّضا: فلا.
و(قوله: إن الشهر تسع وعشرون) ظاهره: أنَّه دخل في أول ذلك الشهر،
(1) في (ج 2): المشهور.