المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٤

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(14) كِتَاب الإِمَارَةِ وَالبَيعَةِ

- ‌(1) بَاب اشتِرَاطِ نَسَبِ قُرَيشٍ في الخِلافَةِ

- ‌(2) باب في جواز ترك الاستخلاف

- ‌(3) باب النهي عن سؤال الإمارة والحرص عليها وأن من كان منه ذلك لا يولاها

- ‌(4) باب فضل الإمام المقسط وإثم القاسط وقوله كلكم راع

- ‌(5) باب تغليظ أمر الغلول

- ‌(6) باب ما جاء في هدايا الأمراء

- ‌(7) باب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم}

- ‌(8) باب إنما الطاعة ما لم يأمر بمعصية

- ‌(9) باب في البيعة على ماذا تكون

- ‌(10) باب الأمر بالوفاء ببيعة الأول ويضرب عنق الآخر

- ‌(11) باب يصبر على أذاهم وتؤدَّى حقوقهم

- ‌(12) باب فيمن خلع يدا من طاعة وفارق الجماعة

- ‌(13) باب في حكم من فرَّق أمر هذه الأمة وهي جميع

- ‌(14) باب في الإنكار على الأمراء وبيان خيارهم وشرارهم

- ‌(15) باب مبايعة الإمام على عدم الفرار وعلى الموت

- ‌(16) باب لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وعمل صالح

- ‌(17) باب في بيعة النساء والمجذوم وكيفيتها

- ‌(18) باب وفاء الإمام بما عقده غيره إذا كان العقد جائزا ومتابعة سيد القوم عنهم

- ‌(19) باب جواز أمان المرأة

- ‌(15) كتاب النكاح

- ‌(1) باب الترغيب في النكاح وكراهية التبتل

- ‌(2) باب ردّ ما يقع في النفس بمواقعة الزوجة

- ‌(3) باب ما كان أبيح في أول الإسلام من نكاح المتعة

- ‌(4) باب نسخ نكاح المتعة

- ‌(5) باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وما جاء في نكاح المحرم

- ‌(6) باب النهي عن خِطبَةِ الرجل على خِطبَةِ أخيه وعن الشغار وعن الشرط في النكاح

- ‌(7) باب استئمار الثيب واستئذان البكر والصغيرة يزوجها أبوها

- ‌(8) باب النّظر إلى المخطوبة

- ‌(9) باب في اشتراط الصَّداق في النكاح وجواز كونه منافع

- ‌(10) باب كم أصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟ وجواز الأكثر من ذلك والأقل والأمر بالوليمة

- ‌(11) باب عِتق الأمةِ وتزويجها وهل يصح أن يجعل العتق صداقا

- ‌(12) باب تزويج زينب ونزول الحجاب

- ‌(13) باب الهدية للعروس في حال خلوته

- ‌(14) باب إجابة دعوة النكاح

- ‌(15) باب في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم) الآية وما يقال عند الجماع

- ‌(16) باب تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها، ونشر أحدهما سر الآخر

- ‌(17) باب في العزل عن المرأة

- ‌(18) باب تحريم وطء الحامل من غيره حتى تضع، وذكر الغيل

- ‌أبواب الرضاع

- ‌(19) باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة

- ‌(20) باب التحريم من قِبَل الفحل

- ‌(21) باب تحريم الأخت وبنت الأخ من الرضاعة

- ‌(22) باب لا تُحرِّم المَصَّةُ ولا المَصَّتان

- ‌(23) باب نسخ عشر رضعات بخمس، ورضاعة الكبير

- ‌(24) باب إنما الرَّضاعة من المَجَاعة

- ‌(25) باب في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)

- ‌(26) باب الولد للفراش

- ‌(27) باب قبول قول القافة في الولد

- ‌(28) باب المقام عند البكر والثيب

- ‌(29) باب في القَسم بين النساء وفي جواز هبة المرأة يومها لضرتها

- ‌(30) باب في قوله تعالى: {تُرجِي مَن تَشَاءُ مِنهُنَّ وَتُؤوِي إِلَيكَ مَن تَشَاءُ}

- ‌(31) باب الحث على نكاح الأبكار وذوات الدين

- ‌(32) باب مَن قَدم من سفر فلا يعجل بالدخول على أهله فإذا دخل فالكيس الكيس

- ‌(33) باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، ومداراة النساء

- ‌(16) كتاب الطلاق

- ‌(1) باب في طلاق السنة

- ‌(2) باب ما يُحِلُّ المطلقة ثلاثًا

- ‌(3) باب إمضاء الطلاق الثلاث من كلمة

- ‌(4) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا} الآية

- ‌(6) باب إيلاء الرَّجل من نسائه وتأديبهن باعتزالهن مدة

- ‌(7) باب فيمن قال: إن المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى

- ‌(8) باب فيمن قال: لها السكنى والنفقة

- ‌(9) باب لا تخرج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا إن اضطرت إلى ذلك

- ‌(10) باب ما جاء أن الحامل إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها

- ‌(11) باب في الإحداد على المَيِّت في العدة

- ‌(12) باب ما جاء في اللِّعَان

- ‌(13) باب كيفية اللِّعان ووعظ المتلاعنين

- ‌(14) باب ما يتبع اللِّعان إذا كمل من الأحكام

- ‌(15) باب لا ينفى الولد لمخالفة لون أو شبه

- ‌(17) كتاب العتق

- ‌(1) باب فيمن أعتق شركًا له في عبد وذكر الاستسعاء

- ‌(2) باب إنما الولاء لمن أعتق

- ‌(3) باب كان في بريرة ثلاث سنن

- ‌(4) باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته وفي إثم من تولى غير مواليه

- ‌(5) باب ما جاء في فضل عتق الرِّقبة المؤمنة وفي عتق الوالد

- ‌(6) باب تحسين صحبة ملك اليمين، والتغليظ على سيده في لطمه، أو ضربه في غير حد ولا أدب، أو قذفه بالزنا

- ‌(7) باب إطعام المملوك مما يأكل ولباسه مما يلبس، ولا يكلف ما يغلبه

- ‌(8) باب في مضاعفة أجر العبد الصالح

- ‌(9) باب فيمن أعتق عبيده عند موته وهم كل ماله

- ‌(10) باب ما جاء في التدبير وبيع المُدَبَّر

- ‌(18) كتاب البيوع

- ‌(1) باب النهي عن الملامسة، والمنابذة، وبيع الحصاة، والغرر

- ‌(2) باب النهي عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن تلقي الجلب، وعن التصرية، وعن النجش

- ‌(3) باب لا يبع حاضر لباد

- ‌(4) باب ما جاء: أن التصرية عيب يوجب الخيار

- ‌(5) باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض أو ينقل

- ‌(6) باب بيع الخيار، والصدق في البيع، وترك الخديعة

- ‌(7) باب النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها

- ‌(8) باب النَّهي عن المزابنة

- ‌(9) باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ بخرصها تمرا

- ‌(10) باب فيمن باع نخلًا فيه تمر، أو عبدا وله مال

- ‌(11) باب النَّهي عن المحاقلة والمخابرة والمعاومة

- ‌(12) باب ما جاء في كراء الأرض

- ‌(13) باب فيمن رأى أن النهي عن كراء الأرض إنما هو من باب الإرشاد إلى الأفضل

- ‌(14) باب المساقاة على جزء من الثمر والزرع

- ‌(15) باب في فضل من غرس غرسًا

- ‌(16) باب في وضع الجائحة

- ‌(17) باب قسم مال المفلس، والحث على وضع بعض الدين

- ‌(18) باب من أدرك ماله عند مُفلس

- ‌(19) باب في إنظار المُعسِر والتجاوز عنه ومطل الغني ظلم، والحوالة

- ‌(20) باب النَّهي عن بيع فضل الماء، وإثم منعه

- ‌(21) باب النهي عن ثمن الكلب، والسنور، وحلوان الكاهن، وكسب الحجام

- ‌(22) باب ما جاء في قتل الكلاب واقتنائها

- ‌(23) باب في إباحة أجرة الحجَّام

- ‌(24) باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام

- ‌أبواب الصرف والربا

- ‌(25) باب تحريم التفاضل والنساء في الذهب بالذهب والورق بالورق

- ‌(26) باب تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير والتمر والملح

- ‌(27) باب بيع القلادة فيها خرز وذهب بذهب

- ‌(28) باب من قال: إن البُرَّ والشعير صنف واحد

- ‌(29) باب فسخ صفقة الربا

- ‌(30) باب ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة

- ‌(31) باب اتِّقاء الشبهات ولعن المقدم على الربا

- ‌(32) باب بيع البعير واستثناء حملانه

- ‌(33) باب الاستقراض وحسن القضاء فيه

- ‌(34) باب في السلم والرهن في البيع

- ‌(35) باب النَّهي عن الحكرة، وعن الحلف في البيع

- ‌(36) باب الشفعة

- ‌(37) باب غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختلف في الطريق

- ‌(38) باب إثم من غصب شيئًا من الأرض

- ‌(19) كتاب الوصايا والفرائض

- ‌(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز

- ‌(2) باب الصدقة عمَّن لم يوص، وما ينتفع به الإنسان بعد موته

- ‌(3) باب ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند موته

- ‌(4) باب ألحقوا الفرائض بأهلها، ولا يرث المسلم الكافر

- ‌(5) باب ميراث الكلالة

- ‌(6) باب من ترك مالًا فلورثته وعصبته

- ‌(7) باب قوله عليه الصلاة والسلام: لا نورث

- ‌(20) كتاب الصَّدقة والهِبَة والحَبس

- ‌(1) باب النهي عن العود في الصدقة

- ‌(2) باب فيمن نحل بعض ولده دون بعض

- ‌(3) باب المنحة مردودة

- ‌(4) باب ما جاء في العمرى

- ‌(5) باب فيما جاء في الحُبس

- ‌(21) كتاب النذور والأيمان

- ‌(1) باب الوفاء بالنذر، وأنه لا يرد من قدر الله شيئا

- ‌(2) باب لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا فيما لا يملك العبد

- ‌(3) باب فيمن نذر أن يمشي إلى الكعبة

- ‌(4) باب كفارة النذر غير المسمى كفارة يمين، والنهي عن الحلف بغير الله تعالى

- ‌(5) باب النهي عن الحلف بالطواغي، ومن حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله

- ‌(6) باب من حلف على يمين فرأى خيرًا منها فليكفر

- ‌(7) باب اليمين على نية المستحلف والاستثناء فيه

- ‌(8) باب ما يخاف من اللجاج في اليمين، وفيمن نذر قربة في الجاهلية

الفصل: ‌(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز

(19) كتاب الوصايا والفرائض

(1) باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز

[1706]

عَن ابنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا حَقُّ امرِئٍ مُسلِمٍ لَهُ شَيءٌ يُرِيدُ أَن يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيلَتَينِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكتُوبَةٌ عِندَهُ.

ــ

(19)

كتاب الوصايا والفرائض

(1)

باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز (1)

الوصايا: جمع وصية؛ كالقضايا: جمع قضية، وهي في الأصل: عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله، ويعهد به في الحياة، وبعد الموت. وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت.

و(قوله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) الحق في اللغة هو: الثابت مطلقا. فإذا أطلق في الشرع، فالمراد به: ثبوت الحكم فيه. ثم الحكم الثابت في الشريعة يكون: واجبا، ومندوبًا، ومباحًا؛ إذ كل واحد منها ثابت وموجود فيها، لكن إطلاق الحق على

(1) هذا العنوان للباب ليس في الأصل، واستدرك من التلخيص.

ص: 539

وفي رواية: يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وفيها: قَالَ عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ:

ــ

المباح قل ما يقع في الشريعة، وإنما يوجد فيها بمعنى الواجب، والندب. فإن اقترن به (على) أو ما في معناها؛ ظهر فيه قصد الوجوب. وإن لم يقترن به ذلك؛ كان محتملًا للأمرين، كما قد جاء في هذا الحديث. وعلى هذا: فلا حجة لداود في التمسك بحق الذي في هذا الحديث على وجوب الوصية؛ لأنه لم يقترن به قرينة تزيل إجماله، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحق: إنه قد اقترن به ما يدلّ على الندب. وهو إضافته للمسلم، وتعليق الوصية على الإرادة في قوله:(ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه). واقتران مثل هذا يقوِّي إرادة الندب. ثم لو سلمنا: أن ظاهره الوجوب فنقول بموجبه، فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، أو كانت له حقوق عند أناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا تجب عليه الوصية. ولا يختلف فيه إذا خاف ضياعها بسبب الموت.

وإذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} وهي بمجموع قرائنها نصٌّ في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم: إنها بعد ذلك نسخت. واختلف في ناسخها. فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال؛ إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصيه لوارث)(1). فإذًا آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمةٍ أخرى، وهي السُّنَّة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسُّنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.

(1) رواه أحمد (4/ 238 و 5/ 267)، وأبو داود (2870 و 3565)، والترمذي (2120 و 2121)، والنسائي (6/ 247)، وابن ماجه (2713 و 2714).

ص: 540

مَا مَرَّت عَلَيَّ لَيلَةٌ مُنذُ سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِندِي وَصِيَّتِي.

رواه أحمد (2/ 57 و 80)، والبخاري (2728)، ومسلم (1627)، وأبو داود (2862)، والترمذي (974)، والنسائي (6/ 238)، وابن ماجه (2699).

ــ

والجواب عنه: إنَّ ذلك قد كان معمولًا به في الصحابة كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز؛ فلم يكن ذلك الخبر آحادًا، بل كان متواترًا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة، وأخبرهم بنسخ ذلك بسنَّته. وأهل عرفة عدد (1) كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواترًا، فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا؛ لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنَّه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسُّنة، وأنها مستند المجمعين، غير أنه قد ذهبت طائفة؛ وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك، وطاوس: إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة. واختاره الطبري.

قلت: وعلى هذا فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى: {وَالأَقرَبِينَ} بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)(2) وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله: (لا وصية لوارث) متواترًا؛ لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر. وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.

و(قوله: له شيء يوصي فيه) عامٌّ في الأموال والبنين الصغار، والحقوق التي له وعليه كلها، من ديون، وكفارات، وزكوات فرَّط فيها، فإذا وصَّى بذلك؛ أخرجت الديون من رأس المال. والكفارات، والزكوات من ثلثه، على تفصيل يعرف في الفقه.

(1) في (ل 1): جمع.

(2)

سبق تخريجه قبل قليل.

ص: 541

[1707]

وعَن عَامِرِ بنِ سَعدٍ، عَن أَبِيهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ مِن وَجَعٍ أَشفَيتُ مِنهُ عَلَى المَوتِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

ــ

و(قوله: يبيت ليل ين) المقصود بذكر الليلتين، أو الثلاث: التقريب، وتقليل مدَّة ترك كتب الوصية. ولذلك لَمَّا سمعه ابن عمر لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيته. والحزم المبادرة إلى كتبها أول أوقات الإمكان، لإمكان بغتة الموت التي لا يأمنها العاقل ساعة. ويحتمل أن يكون إنما خصَّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى أن ينظر فيما له وما عليه، فيتحقق بذلك، ويروي (1) فيها ما يوصي به، ولمن يوصي، إلى غير ذلك.

و(قوله: إلا ووصيته مكتوبة عنده) ذِكرُ الكتابة مبالغة في زيادة الاستيثاق؛ لأنه إنما يعني: بكونها مكتوبة، مشهودًا بها. وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد بها العدول، وقاموا بتلك الشهادة لفظًا لعُمِل بها، وإن لم تكتب خطًا، فلو كتبها بيده، ولم يشهد بها؛ فلم يختلف قول مالك: أنه لا يُعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه، فيلزم تنفيذه. واختلف عن مالك فيما إذا كتبها، وأشهد عليها، فقال فيها: إن مت في سفري هذا، أو في مرضي هذا، فسلم من الموت في ذلك السَّفر والمرض، ولم يخرجها من يده حتى مات بعد ذلك. فهل تنفذ أو لا؟ قولان. فلو وضعها على يد غيره نُفِّذَت. ولو لم يقيدها بذلك المرض ولا بذلك السَّفر، وأمسكها عنده إلى أن مات نُفِّذت قولًا واحدًا. وتفصيل مسائل الوصايا في الأمهات.

و(قوله في حديث سعد: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجع أشفيت منه على الموت) عادني: زارني. ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض. فأما الزيارة فأكثرها للصحيح. وقد تقال للمريض. فأمَّا قوله تعالى: {حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ}

(1) روَّى في الأمر: نظر فيه، وتعقبه، وتفكر.

ص: 542

بَلَغَنِي مَا تَرَى مِن الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا بنَت لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَي مَالِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُلتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطرِهِ؟ قَالَ:

ــ

فكناية (1) عن الموت.

و(الوجع) اسم لكل مرض. قاله الحربي. و (أشفيت): أشرفت. يقال: أشفى وأشاف بمعنى واحد. قاله الهروي. وقال القتبي: لا يقال: أشفى إلا على شرّ.

وفيه: عيادة الفضلاء والكبراء للمرضى، وتفقد الرَّجل الفاضل أصحابه وإخوانه.

و(قوله: بلغني من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي) فيه ما يدلُّ على أن إخبار المريض بحاله لا على جهة التشكّي والتَّسخُّط جائز، وغير منقص لثوابه. ألا ترى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه إنكار، ولا تنبيه على تنقيص أجر ولا غيره (2).

و(ذو مال): وإن صلح للكثير والقليل الذي ليس بتافه؛ فالمراد به ها هنا: المال الكثير بقرينة الحال.

و(قوله: ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة) ظاهر هذا: أنه ليس له وارث إلا ابنة واحدة. وليس كذلك. فإنَّه كان له ورثة وعصبة. وإنما معنى ذلك: لا يرثني بالسَّهم إلا ابنة واحدة. وقيل: لا يرثني من النساء إلا ابنة واحدة. وكلاهما محتمل. ثم أفاق من مرضه، وكان له بعده ثلاثة من الولد ذكور؛ أحدهم: اسمه عامر، وهو راوي هذا الحديث عن أبيه كما ذكرناه.

و(قوله: أفاتصدَّق بثلثي مالي؛ قال: لا) ظاهر هذا السؤال: أنه إنما سأل عن الوصية بثلثي ماله لتنفذ بعد الموت. يدل على ذلك: قرائن المرض، وذكر الورثة، وغير ذلك. ويحتمل: أن يكون عن صدقة بتلة (3)، يخرجها في الحال. وفيه بُعدٌ. وكيف ما كان فقد أجيب: بأن ذلك لا يجوز إلا في الثلث خاصة.

قال

(1) في (ل 1): فكنَّى به.

(2)

ما بين حاصرتين سقط من (ع).

(3)

صدقة بَتْلَةٌ: منقطعة من مال المتصدِّق بها، خارجة إلى سبيل الله.

ص: 543

لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ،

ــ

القاضي عياض: أجمع العلماء: على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله إلا شيئًا روي عن بعض السَّلف، أجمع الناس بعده على خلافه. والجمهور: على أنه لا يوصي بجميع ماله (1)، وإن لم يكن له وارث. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وأحمد، ومالك - في أحد قوليهما - إلى جواز ذلك. وروي عن علي، وابن مسعود. وسبب هذا الخلاف: الخلاف في بيت المال هل هو وارث، أو حافظ لما يجعل فيه.

وفيه دليل: على أن المريض محجور عليه في ماله (1). وهو مذهب الجمهور. وشذَّ أهل الظاهر، فقالوا: لا يحجر عليه في ماله وهو كالصحيح. وظاهر هذا: الحديث، والنظر، والمعنى: حجة عليهم.

ومنع أهل الظاهر الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة. وهو الصحيح؛ لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة) فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزًا وصحيحًا.

و(قوله: الثلث، والثلث كثير) وروي: (الثلث) الأول بالرفع على الابتداء، وإضمار الخبر؛ أي: الثلث كافيك. وقيل: يجوز على أن يكون فاعلًا لفعل مضمر.

قلت: وفيه ضعف؛ لأنه لا يكون ذلك إلا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة، كقوله تعالى:{وَإِن أَحَدٌ مِنَ المُشرِكِينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّى يَسمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، على خلاف بين الكوفيين والبصريين. فالبصريون يرفعونه بالفعل. والكوفيون بالابتداء. وروي بالنصب على أن يكون

(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).

ص: 544

إِنَّكَ أَن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِيَاءَ خَيرٌ مِن أَن تَذَرَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَستَ تُنفِقُ نَفَقَةً تَبتَغِي بِهَا وَجهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرتَ بِهَا،

ــ

مفعولًا بفعل مضمر تقديره: نفذ الثلث. أو: أمض الثلث. وما أشبهه، وقيل: على الإغراء. وفيه بُعدٌ.

وهو حجة للجمهور على جواز الوصية بالثلث على من شذّ، وخالفهم، وقال: لا يجوز إلا بالربع، لكن لما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم الثلث؛ قال ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع حَضًّا على ذلك. وكل ذلك رفق بالورثة، وترجيح لجانبهم على الصدقة للأجانب.

قلت: وعلى هذا فمن حسنت نيَّته فيما يبقيه لورثته كان أجره في ذلك أعظم من الصدقة به، لا سيما إذا كانوا ضعافًا، والله تعالى أعلم.

و(قوله: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة) روايتنا في (أن تذر) بفتح الهمزة، و (أن) مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره (خير) المذكور بعده، والمبتدأ وخبره خبر (إنك) تقديره: إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء. وقد وهم من كسر الهمزة من (أن) وجعلها شرطًا؛ إذ لا جواب له ويبقى (خير) لا رافع له. فتأمله.

و(العالة): الفقراء. و (يتكففون الناس): يسألون الصدقة من أكف الناس: أو يسألونهم بأكفهم. وهذا يدلُّ على أنَّه كان له ورثة غير الابنة التي ذكرها، ويصحح ذلك التأويل الذي ذكرناه.

وفيه دليل: على صحة ميراث ذي السهم مع العصبة. ولا خلاف فيه.

و(قوله: ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها) هذا يفيد بمنطوقه: أن الأجر في النفقات لا يحصل إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل وإن كانت واجبة. وبمفهومه: أن من لم يقصد القربة لم يؤجر على شيء منها.

ص: 545

حَتَّى اللُّقمَةُ تَجعَلُهَا فِي فِيِّ امرَأَتِكَ.

ــ

والمعنيان صحيحان. يبقى أن يقال: فهل إذا أنفق نفقةً واجبةً على الزوجة، أو الولد الفقير، ولم يقصد التقرب؛ هل تبرأ ذمته، أم لا؟ فالجواب: أنها تبرأ ذمته من المطالبة؛ لأن وجوب النفقة من العبادات المعقولة المعنى، فتجري بغير نيَّة، كالدِّيون، وأداء الأمانات، وغيرها من العبادات المصلحية، لكن إذا لم ينو لم يحصل له أجر. وقد قرَّرنا هذا في أصول الفقه. ويفهم منه بحكم عمومه: أن من أنفق نفقة مباحة، وصحَّت له فيها نيَّةُ التَّقرب أثيب عليها، كمن يطعم ولده لذيذ الأطعمة ولطيفها ليردَّ (1) شهوته، ويمنعه من التشوُّف لما يراه بيد الغير من ذلك النوع، وليرق طبعه، فيحسن فهمه، ويقوى حفظه، إلى غير ذلك مما يقصده الفضلاء.

و(قوله: حتى اللقمة تضعها (2) في فِي امرأتك) يجوز في (اللقمة) النصب على عطفها على (نفقة). وأظهر من ذلك أن تنصبها بإضمار فعل؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضميره. وهذا كقول العرب: أكلتُ السمكةَ حتى رأسها أكلته. وقد أجاز في (رأسها) الرفع، والنصب، والجر، وأوضح هذه الأوجه: النصب. وأبعدها الخفض. وكل ذلك جائز في (حتى اللقمة) ها هنا فَنَزِّلهُ عليه. والذي به قرأت هذا الحرف: النصب لا غير. وإنما خصَّ الزوجة بالذِّكر لأن نفقتها دائمة، تعودُ منفعتُها إلى المنفق، فإنها تحسنها في بدنها، ولباسها، وغير ذلك. فالغالب من الناس: أنه ينفق على زوجته لقضاء وطره، وتحصيل شهوته، وليس كذلك النفقة على الأبوين، فإنها تخرج بمحض الكلفة، والمشقة غالبًا، فكانت نية التقرُّب فيها أقرب وأظهر. والنفقة على الولد فيها شبه من نفقة الزوجة، ومن نفقة الأبوين، من حيث المحبة الطبيعية، والكلفة الوجودية.

(1) في (ع): ليبرِّدَ.

(2)

كذا في جميع النسخ، وفي التلخيص:"تجعلُها".

ص: 546

قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أأُخَلَّفُ بَعدَ أَصحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَن تُخَلَّفَ فَتَعمَلَ عَمَلًا تَبتَغِي بِهِ وَجهَ اللَّهِ إِلَّا ازدَدتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنتفَعَ بِكَ أَقوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمضِ لِأَصحَابِي هِجرَتَهُم، وَلَا تَرُدَّهُم عَلَى أَعقَابِهِم،

ــ

وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لسعد هذا الكلام في هذا الموطن تنبيها على الفوائد التي تحصلُ بسبب المال، فإنه إن مات أُثيب على ترك ورثته أغنياء من حيث إنه وصل رحمهم، وأعانهم بماله على طاعة الله تعالى، كما قال:(إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة) أي: ذلك أفضل من صدقتك بمالك، وإن لم تمت حصل لك أجر النفقات الواجبة والمندوب إليها. ويخرج من هذا الحديث: أن كسب المال وصرفه على هذه الوجوه أفضل من ترك الكسب، أو من الخروج عنه جملة واحدة. وكل هذا: إذا كان الكسب من الحلال الخلي عن الشبهات؛ الذي قد تعذَّر الوصول إليه في هذه الأوقات.

و(قوله: أَأُخلَّفُ بعد أصحابي؟ ) هذا الاستفهام إنما صدر عن سعد مخافة أن يكون مقامه بمكة بعد أصحابه إلى أن يموت بها قادحًا في هجرته، كما قد نصَّ عليه في الرواية الأخرى؛ إذ قال فيها:(لقد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها). فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي: أن ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره إلى أن ينتفع به قومٌ، ويستضرُّ به آخرون. وقد كان ذلك. فإنه عاش بعد ذلك نيفًا وأربعين سنة، وولي بالعراق أميرًا، وفتحها الله تعالى على يديه، فأسلم على يديه بشرٌ كثير، فانتفعوا به، وقتل وأسر من الكفار خلقًا كثيرًا، فاستضروا به، فكان ذلك القول من أعلام نبوَّته، وأدلَّة صدق رسالته.

و(قوله: اللهم! أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم وأحكامها. ويفيد: أن استصحاب أحكامها كان واجبا على من هاجر، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه، وترك المدينة إلى أن

ص: 547

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يموت بها، وإن كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عمن لم يهاجر يوم الفتح، حيث قال:(لا هجرة بعد الفتح)(1) وقال: (إن الهجرة قد مضت لأهلها)(2) أي: من كان هاجر قبل الفتح صحَّت له هجرته، ولزمه البقاء عليها إلى الموت. ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه. ومن نقض الهجرة خاف المهاجرون، حيث تحرَّجوا من مقامهم بمكة في حجة الوداع. وهذا هو الذي خاف منه سعد. فإن قضيته هذه كانت في حجة الوداع. وهذا هو الذي نقمه الحجَّاجُ على ابن الأكوع (3) لما ترك المدينة ولزم الربذة فقال: تغربت يا ابن الأكوع (3)؟ ! فأجابه: بأن قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو. وهذا هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث. وبه قال بعض أهل العلم. وهو الذي يدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لكن البائسُ سعدُ بن خولة) رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة، وسيأتي الكلام عليه.

وقال آخرون: إن وجوب الهجرة؛ ووجوب استدامة حكمها؛ قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرته، ولأخذ شريعته، ومشافهته، وللكون معه اغتنامًا لبركته. ثم لما مات: فمنهم من أقام بالمدينة، وأكثرهم ارتحل عنها. ولما فتحت الأمصار استوطنوها، وتركوا سكنى المدينة. فاستوطن الشام قوم منهم، واستوطن آخرون العراق، وآخرون مصر.

(1) رواه أحمد (1/ 226)، والبخاري (2825)، ومسلم (1353).

(2)

رواه البخاري (4307)، ومسلم (1863)(83).

(3)

في (ع) و (ل 1): يا أبا ذر، والمثبت من (ج 2) وجاء في حاشية (ل 1) بخط ابن فرح على نسخته: صوابه: في سلمة بن الأكوع، وقد ذكره الشيخ فبم الصواب فيما تقدم في باب لا هجرة بعد الفتح، وأمَّا أبو ذرّ فلم يدركه الحجَّاج، فإنَّ أبا ذرّ مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، والحجاج قد تولى لعبد الملك جيشه في السبعين، فتأمله تجده سبق خاطرٍ وقلمٍ. انظر باب: لا هجرة بعد الفتح في كتاب الإمارة والبيعة.

ص: 548

لَكِن البَائِسُ سَعدُ بنُ خَولَةَ. قَالَ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن أَن تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ.

رواه أحمد (1/ 179)، والبخاري (6733)، ومسلم (1628)(5)، والترمذي (2116)، والنسائي (6/ 241)، وابن ماجه (2708).

ــ

وتأول أهل هذا القول ما تقدَّم: بأن ذلك إنما كان منهم مخافة أن تنقص أجورهم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بألا يُنقِصَهم شيئًا من ذلك. وللأولين أن ينفصلوا عن هذا، بأن يقولوا: إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد وفتح البلاد، وإظهار الدين، ونشر العلم، حتى أنفذوا في ذلك أعمارهم، ولما يقضوا من ذلك أوطارهم.

و(قوله: لكن البائس سعد بن خولة) البائس: اسم فاعل من بئس، يبأس: إذا أصابه بؤسٌ، وهو الضرر. وسعد بن خولة: هو زوج سبيعة الأسلمية، وهو رجل من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم. وقيل: حليفٌ لهم. وقيل: إنه مولى أبي رُهم بن عبد العزى العامري.

واختلف في أمره؛ فقال ابن مزين، وعيسى بن دينار: إنه لم يهاجر من مكة حتى مات فيها. والأكثر على أنَّه هاجر ثم رجع إلى مكة مختارًا. وعلى هذين القولين يكون بؤسُه ذمًّا له؛ إما لعدم هجرته، وإما لفسخها (1) برجوعه عنها. وقال ابن هشام: إنَّه هاجر الهجرة إلى الحبشة، والهجرة الثانية، وشهد بدرًا، وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع. وعلى هذا فلا يكون بؤسه ذمًّا له، بل توجُّعًا له ورحمة؛ إذ كان منه: أنه هاجر الهجرتين، ثم إنَّه مات بعد ذلك بمكة، فيكون إشعارًا بما قدَّمناه من نقص ثواب من اتفق له ذلك. ومن ذلك تحرَّج سعد، والمهاجرون. والله تعالى أعلم.

وظاهر هذا القول: أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال المحدِّثون: انتهى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لكن البائس سعد بن خولة) وأما قوله بعد ذلك: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفي بمكة؛

(1) في (ج 2): لسقوطها.

ص: 549

[1708]

وعنه، عَن أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى سَعدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ فَبَكَى، قَالَ: مَا يُبكِيكَ؟ . فَقَالَ: لقَد خَشِيتُ أَن أَمُوتَ بِالأَرضِ الَّتِي هَاجَرتُ مِنهَا كَمَا مَاتَ سَعدُ بنُ خَولَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اشفِ سَعدًا، اللَّهُمَّ اشفِ سَعدًا. ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا، وَإِنَّمَا يَرِثُنِي ابنَتِي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَبِالثُّلُثَينِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالنِّصفُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّ صَدَقَتَكَ مِن مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ،

ــ

فظاهره: أنه من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل: هو قول سعد بن أبي وقاص. وقد جاء ذلك في بعض طرقه. وأكثر الناس على أنَّه من قول الزهري. والله تعالى أعلم.

وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث انقطاع في أصل كتاب مسلم. وهو من المواضع المنقطعة الأربعة عشر، لكن لا يضر ذلك إن صحَّ؛ لأنه قد رواه من طرق أخر متصلة.

و(قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اشف سعدًا - ثلاث مرارٍ (1)) يدلُّ على ندبية تطييب قلب المريض بالدعاء، وعلى إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّه أفاق، وعاش مدة طويلة، وفتح، وملك، كما قدَّمناه.

و(قوله: إن لي مالًا كثيرًا) دليل: على جواز الاستكثار من المال الحلال؛ لحصول الفوائد التي ذكرناها.

و(قوله: إنَّ صدقتك من مالك صدقة) أي: مقبولة عند الله، حاصل لك ثوابها.

و(قوله: وإنَّ نفقتك على أهلك صدقة) أي: يحصل لك عليها من الثواب مثل ما يحصل من ثواب الصَّدقة، واجبها كواجبها، ونفلها كنفلها.

(1) في (ج 2) مرتين، وهو مخالف لبقية النسخ وللتلخيص.

ص: 550

وَإِنَّ مَا تَأكُلُ امرَأَتُكَ مِن مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإِنَّكَ أَن تَدَعَ أَهلَكَ بِخَيرٍ أَو قَالَ بِعَيشٍ خَيرٌ مِن أَن تَدَعَهُم يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَقَالَ بِيَدِهِ.

رواه أحمد (1/ 168)، والبخاري (5659)، ومسلم (1228)(8).

[1709]

وعَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَو أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِن الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ.

وفي رواية: كَثِيرٌ أَو كَبِيرٌ.

رواه مسلم (1629).

* * *

ــ

و(قوله: بخير) أو: (بعيش) شك مِن الرَّاوي في هذه الرِّواية. والخير هنا: هو المال. وكذلك هو في أكثر مواضع القرآن. والعيش هنا: هو ما يعاش به، وهو: المال.

و(قوله: لو أن النَّاس غضوا من الثلث إلى الربع)(لو) هنا: حرف تمن بمعنى: ليت. وقد ذكرنا مواضعها في أول كتاب الإيمان.

و(غضوا) بالغين المعجمة؛ أي: نقصوا. وأصله من غضِّ العين. واختلف في المستحب من الوصية، فالجمهور: على أنَّه الثلث. وذهب بعضهم: إلى أن ذلك إنَّما يستحب لمن لا وارث له، وروي عن بعض السَّلف: النقص منه. فأوصى أبو بكر بالخمس، وقال: إن الله تعالى رضي من عباده به. ونحوه عن علي. وأوصى عمر بالربع. وهو ظاهر قول ابن عباس. وبه قال إسحاق. وقال الحسن: السدس، أو الخمس، أو الربع. وقال النخعي: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. واختار آخرون: العشر؛ لما قد روي في حديث سعدٍ- إن صحَّ -؛ أنه قال: العشر. وروي عن عليّ، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم: لِمَن ماله قليل، وله ورثة، ترك الوصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة).

و(قوله: الثلث، والثلث كثير - أو كبير -) شكٌّ من الرَّاوي. والمعنى

ص: 551