الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا} الآية
.
[1547]
وعَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكرٍ يَستَأذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَم يُؤذَن لِأَحَدٍ مِنهُم. قَالَ: فَأُذِنَ لِأَبِي بَكرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقبَلَ عُمَرُ فَاستَأذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا حَولَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا، قَالَ: فَقَالَ: والله لَأَقُولَنَّ شَيئًا أُضحِكُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَو رَأَيتَ بِنتَ خَارِجَةَ سَأَلَتنِي النَّفَقَةَ، فَقُمتُ إِلَيهَا، فَوَجَأتُ عُنُقَهَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: هُنَّ حَولِي كَمَا تَرَى،
ــ
(5)
ومن باب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدُّنيَا} الآية.
(قوله: وَاجِمًا، ساكتًا) أي: مُطرِقًا إِطراقَ المغضب.
و(قوله: وَجَأتُ عنقها) أي: طعنت فيه ودققت. وأصل الوَجءِ: الدَّقُّ، والطَّعن؛ يقال: وجأتُ البعير: إذا طعنتُ في مَنحَرِهِ. ووجأت الوتد: ضربتُه. ووجأته بالسكين: طعنته بها.
وهذا الفعل من أبي بكر وعمر بابنتيهما مبالغة في تأديبهما، وكذلك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن، وهجرانه لهن إنما كان مبالغة في أدبهن، فإنهن كن كثَّرنَ عليه، وتبسَّطن (1) عليه تبسُّطًا (2) تعدين فيه ما يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من احترامه، وإعظامه. وكان ذلك منهن بسبب حسن معاشرته، ولين خلقه، وربما امتدت أعين
(1) في (م): تسلَّطْن.
(2)
في (م): تسلُّطًا.
يَسأَلنَنِي النَّفَقَةَ. فَقَامَ أَبُو بَكرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسأَلنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَيسَ عِندَهُ فَقُلنَ: وَاللَّهِ لَا نَسأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيئًا أَبَدًا لَيسَ عِندَهُ. ثُمَّ اعتَزَلَهُنَّ شَهرًا أَو تِسعًا وَعِشرِينَ، ثُمَّ نَزَلَت عَلَيهِ هَذِهِ الآيَةُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ حَتَّى بَلَغَ: لِلمُحسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجرًا عَظِيمًا قَالَ: فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَن أَعرِضَ عَلَيكِ أَمرًا أُحِبُّ ألَا تَعجَلِي فِيهِ حَتَّى تَستَشِيرِي أَبَوَيكِ؟ قَالَت: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَتَلَا عَلَيهَا الآيَةَ قَالَت: أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَستَشِيرُ أَبَوَيَّ؟ بَل أَختَارُ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَأَسأَلُكَ أَلَا تُخبِرَ امرَأَةً مِن نِسَائِكَ بِالَّذِي قُلتُ. قَالَ: لَا تَسأَلُنِي امرَأَةٌ
ــ
بعضهن إلى شيء من متاع الدنيا. ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخيرهنَّ بين إرادة زينة الدنيا، وإرادة الله تعالى، وما عنده، فاخترن الله ورسوله، والدار الآخرة. ولم يكن فيهن من توقف في شيء من ذلك، ولا تردد فيه، لأنهن مختارات لمختار، وطيبات لطيب، سلام الله تعالى عليهم أجمعين.
و(قوله في هذه الرواية: اعتزلهن شهرًا، أو تسعًا وعشرين) ظاهره شك من الراوي (1)، وسيأتي حديث ابن عباس: أنَّه إنما اعتزلهن تسعًا وعشرين، وهو الصحيح.
وقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت) هو قول أخرجته غيرتُها، وحرصها على انفرادها بالنبي صلى الله عليه وسلم.
و(قوله لها: (إن الله لم يبعثني معنتًا، ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا، وميسرًا) أصل العنت: المشقة. والمُعَنِّتُ: هو الذي يوقع العنت بغيره. والمتعنِّت: هو الذي يحمل غيره على العمل بها. ويحتمل أن يقال: المعنت: هو
(1) زاد في (ج 2): وكأنه إنما سُمِّي شهرًا بثلاثين.
مِنهُنَّ إِلَّا أَخبَرتُهَا، إِنَّ اللَّهَ لَم يَبعَثنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِن بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا.
رواه مسلم (1478).
[1548]
وعَنها (1) قَالَت: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فَلَم يَعُدَّهُ علينا طَلَاقًا.
رواه أحمد (6/ 202)، والبخاريُّ (5263)، ومسلم (1477)(27)، والترمذيُّ (1179)، والنسائيُّ (6/ 56)، وابن ماجه (2052).
* * *
ــ
المجبول على ذلك. والمتعنت: هو الذي يتعاطى ذلك وإن لم يكن في جبلَّته.
وكأن عائشة رضي الله عنها توقعت: أنَّه إذا لم يخبر أحدًا من زوجاته يكون فيهن من يختار الدنيا، فيفارقها النبي صلى الله عليه وسلم وأنهن إذا سَمِعنَ باختيارها هي له اقتدين بها فَيَختَرنَهُ، وكذلك فعلنَّ.
ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه إن سألته واحدة منهن عن فِعل عائشة فلم يخبرها كان ذلك نوعًا من العنت، وإدخال الضرر عليهن بسبب إخفاء ما يُسأل عنه، فقال مجيبًا:(إن الله لم يبعثني معنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسِّرًا). ووجه التيسير في هذا: أنه إذا أخبر بذلك اقتدى بها غيرها من أزواجه، وسهل عليها اختيار الله ورسوله، والدار الآخرة.
و(قولها: خيَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعدّه علينا طلاقا) حجة لجمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: على أن المخيرة إذا اختارت زوجها أنَّه لا يلزمه طلاق، لا واحدة، ولا أكثر. وحكي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما روايتان:
إحداهما كما قال جماعة السلف وأئمة الفتوى: إنه لا يقع بذلك طلقة رجعية (2). وروي عن عليّ، وزيد بن ثابت، والحسن،
(1) أي: عن عائشة، وقول المؤلف رحمه الله: وعنها؛ لورود اسمها في حديث جابر السابق.
(2)
ما بين حاصرتين مستدرك من (ج 2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والليث: أن نفس الخيار طلقة واحدة بائنة؛ وإن اختارت زوجها. وحكاه الخطابي، والنقَّاش عن مالك، ولا يصح عنه. وروي عن ربيعة نحوه في التمليك (1)، وهذا الحديث حجة عليهم.
وأمَّا إذا اختارت نفسها، فاختلف العلماء فيها قديمًا وحديثًا على أقوال:
فقالت فِرقَة: ليس للمُخيِّرة ولا للمملَّكة شيء من الطلاق.
وقالت فرقة أخرى: هو ما قضت به من واحدة أو أكثر.
وقيل: هو على ما نواه الزوج، وله مناكرتها في الخيار، والتمليك. وهو قول ابن جهم من أصحابنا وغيره.
وقال بعضهم: تكون رجعية. وهو قول عبد العزيز، والشافعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف. وحكى ابن سحنون عن أبيه نحوه. وروي عن عمر، وابن مسعود (2).
وقيل: إنه واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة، وحكي عن مالك، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والمشهور من مذهب مالك: أن المخيرة إذا اختارت نفسها كان ثلاثًا، وليس له المناكرة، بخلاف التمليك؛ فإن له المناكرة إذا قضت بالثلاث، إذا نوى أقل من ذلك، ولم يكن عن عوض.
ثم اختلف عندنا في المخيَّرة إذا قضت بأقل من ثلاث. فقال مالك مرة: لا يلزمه، وسقط ما بيدها. وقال أشهب: ترجع على خيارها. وقال عبد الملك: هي ثلاث بكل حال.
وفي قول عائشة هذا دليلٌ على أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الخيار يكون طلاقا، من غير احتياج إلى النطق بلفظ (3) يدل على الطلاق سوى الخيار، ويُقتَبَسُ ذلك من مفهوم لفظها، فتأمَّله.
(1) أي: جَعْل أمر طلاق المرأة بيدها.
(2)
ليس في (ع).
(3)
سقط من (ع).