الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب إنما الولاء لمن أعتق
[1571]
عَن عَائِشَةَ قَالَت: دَخَلَت عَلَيَّ بَرِيرَةُ فَقَالَت: إِنَّ أَهلِي كَاتَبُونِي عَلَى تِسعِ أَوَاقٍ فِي تِسعِ سِنِينَ كُلِّ سَنَةٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقالت:
ــ
(2)
ومن باب: إنما الولاء لمن أعتق
حديث بريرة: حديث مشهور، كثرت رواياته، فاختلفت ألفاظه، وكثرت أحكامه. وقد جمع ما فيه من الفوائد في أجزاء كتب فيه الطبري ستة أجزاء، واستخرج غيره منه مائة فائدة. والتطويل ثقيل. فلنقتصر على البحث عن مضمون ألفاظه، ومشكل معانيه على ما شرطناه من الإيجاز.
(قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، كل سنة أوقية) دليلٌ على جواز كتابة المرأة المأمون عليها أن تكسب بفرجها (1)، وعلى أن مشروعية الكتابة أن تكون مُنَجَّمة أو مُؤَجَّلة. وهو مشهور المذهب. ومن الأصحاب من أجاز الكتابة الحالَّة، وسَمَّاها قطاعةً، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنَّما هو فسحةٌ للعبد في التكسب، ألا ترى: أنَّه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل المكاتب عتقه؟ !
والمكاتبة: مفاعلةٌ مِمَّا لا يكون إلا بين اثنين؛ لأنها معاقدة بين السيد وعبده. يقال: كاتب يكاتب، كتابًا، وكتابةً، ومكاتبة. كما يقال: قاتل، قتالًا، ومقاتلة. فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبتَغُونَ الكِتَابَ} ؛ يعني به: المكاتبة. وهي عند جمهور العلماء مستحبة؛ لأن الله سبحانه أمر بها، وجعلها طريقًا
(1) أي: ألا تكسب بفرجها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لتخليص الرقاب من الرِّق، والأمر بها على جهة الندب عند الجمهور خلافًا لعطاء، وعكرمة، وأهل الظاهر، تمسُّكا بأن ظاهر الأمر المطلق: الوجوب، لكن الجمهور وإن سلموا ذلك الأصل الكلِّي، لكنهم قالوا: لا يصحُّ حمل هذا الأمر على الوجوب لأمور:
أحدها: أنَّه ظاهرٌ تُخالِفُه الأصول، فيُترك لها، وذلك: أن الإجماع منعقدٌ على أن السيد لا يجبر على بيع عبده، وإن ضُوعف له في الثمن. وإذا كان كذلك كان أحرى وأولى ألا يخرج عن ملكه بغير عوض. لا يقال: الكتابة طريقٌ للعتق. والشَّرع قد تشوَّف للعتق، فخالف البيع. فلا يقاس عليه؛ لأنا نمنع أن يكون للشرع تشوُّف للعتق مطلقا بل في محل مخصوص. وهو: ما إذا ابتدأ عتق الشقص، وألزمه نفسه، فتشوّف الشرع لتكميل الباقي. ولو اعتبرنا مطلق تشوّف الشرع للعتق للزم عتق العبد إذا طلبه مجانًا، ولا قائل به.
الثاني: أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده، فإذا قال العبد لسيده: خُذ كسبي وأعتقني. كان بمنزلة قوله: أعتقني بلا شيء، وذلك غير لازم. فالكتابة غير لازمة.
(بريرة) بفتح الباء بواحدة من تحتها، وكسر الراء المهملة، على وزن فعيلة، من البِرِّ. ويحتمل أن تكون بمعنى: مفعولة؛ أي: مبرورة، كأكيلة السبع؛ أي: مأكولة. ويحتمل أن تكون بمعنى: فاعلة؛ كرحيمة بمعنى: راحمة.
وظاهر قولها: (إن أهلي كاتبوني على تسع أواق): أن الكتابة قد كانت انعقدت، وصحَّت. وأن ذلك ليس بمراوضة على الكتابة. وعند هذا يكون مع ما وقع من شراء عائشة لها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرًا في جواز فسخ الكتابة، وبيع المكاتب للعتق، كما قد صار إليه طائفة من أهل العلم. وأما من لم يجز ذلك، وهم الجمهور، فأشكل عليهم الحديث، وتحزّبوا في تأويله؛ فمنهم من قال: إن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وإن قولها:(كاتبت أهلي) معناه: أنها راوضتهم عليها. وقدروا مبلغها وأجلها، ولم يعقدوها. وقد بيَّنَّا: أن الظاهر خلافه. بل إذا تُؤمِّل مساقُ الحديث (1) مع قولها: (فأعينيني) وجواب عائشة؛ قطع بأنها قد كانت عقدتها، وأن هذا التأويل فاسد.
ومنهم من قال: إن المبيع الكتابة، لا الرقبة. وهذا فاسدٌ (2)؛ لأن من أجاز بيع الكتابة لم يجعل بيع الولاء لمشتري الكتابة، بل لعاقدها.
وأشبه ما قيل في ذلك: أن بريرة عجزت عن الأداء، فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة. وحينئذ صحَّ البيع، إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق السيد والعبد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بدَّ من السلطان. وهذا: إنما خاف أن يتواطآ على ترك حق الله تعالى. وهذه التهمة فيها بَعُدَ، فلا يلتفت إليها. ويدلُّ على أنها عجزت: ما وقع في الأصل من رواية ابن شهاب، حيث قال: إن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك؛ فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت (3). فظاهر هذا: أن جميع كتابتها أو بعضها استحقت عليها؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم.
الولاء: نسبةٌ ثابتةٌ بين المعتِق والمعتَق، تشبه النسب، وليس منه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(الولاء لحمة كلحمة النسب)(4). ووجه ذلك ما قد نبهنا عليه فيما تقدَّم.
(1) في (م): اللفظ.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من (م).
(3)
انظر: صحيح مسلم (1504/ 6).
(4)
رواه الحاكم (4/ 341)، والبيهقي (10/ 292)، وابن حبان (4950).
إِن شَاءَ أَهلُكِ أَن أَعُدَّهَا لَهُم عَدَّةً وَاحِدَةً، وَأُعتِقَكِ وَيَكُونَ الوَلَاءُ لِي، فَعَلتُ فَذَكَرَت ذَلِكَ لِأَهلِهَا، فَأَبَوا إِلَّا أَن يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُم، فَأَتَتنِي فَذَكَرَت
ــ
ولبابه: أن العبد في حكم المفقود لنفسه، والمُعتِق يُصَيِّره موجودًا لنفسه، فأشبه حال الولد مع الوالد. ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه، فيعتقه)(1). فإذا ثبتت هذه النسبة ترتب عليها من الأحكام الشرعية ما يترتب على النَّسب، لكنه متأخر عنه، فمهما وُجد نسب كان هو المتقدِّم على الولاء.
ثم إن الأحكام لا تثبت بينهما من الطرفين، بل من طرف المعتق؛ لأنه المنعم بالعتق، والمُعتَق مُنعَم عليه، فلا جرم: يَرِثُ المعتِق المعتَق، ولا ينعكس اتفاقًا فيما أعلم. وعلى هذا: فيلي المعتق على بنات مُعتَقِه، ولا ينعكس في المشهور الصحيح. وقيل: ينعكس.
و(قولها: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين) هكذا صحَّ في رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقد ذكر البخاري تعليقًا من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن عروة: قالت عائشة: (إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نُجِّمت عليها في خمس سنين)(2). وظاهره تعارض، غير أن حديث هشام أولى؛ لاتصاله وانقطاع حديث يونس؛ ولأن هشامًا أثبت في حديث أبيه وجدَّته من غيره. ويحتمل أن تكون هذه الخمس الأواقي هي التي استُحِقَّت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام. وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم مقدار الأوقية.
و(قول عائشة لبريرة في حديث هشام: إن شاء أهلك أن أَعُدَّها لهم عَدَّةً واحدةَ، وأُعتِقَك، ويكون ولاؤكِ لِي فَعَلتُ). وفي حديث يونس عن ابن شهاب:
(1) رواه أحمد (2/ 230)، ومسلم (1510)، وأبو داود (5137)، والترمذي (1906)، وابن ماجه (3659).
(2)
رواه البخاري (2560).
ذَلِكَ قَالَت: فَانتَهَرتُهَا فَقَالَت: لَا هَا اللَّهِ إِذن قَالَت فَسَمِعَ
ــ
أنها قالت لها: (أرأيت إن عددت لهم عدَّة واحدة، أيبيعك أهلك فأعتِقَكِ، ويكون ولاؤكِ لِي)(1) ليس بتعارض بين الروايتين، وإنما هو نقل بالمعنى على عادتهم الأكثرية في ذلك. وفيه دليل على صحَّة ما قلناه: أنها إنما اشترتها للعتق مع إمكان أن يكون ذلك عند عجزها عن أداء ما تَعَيَّن عليها من الكتابة.
و(قول عائشة: فانتهرتها) يعني: أنها عظم عليها أن تشتريها بمالها لتعتقها، ثم يكون ولاؤها لمن باعها، وأخذ ثمنها. فبأي طريق يستحق الولاء، ولا طريق له يستحقه به!
ثم وقع بعد قول عائشة: (فانتهرتها) فقالت: (لا ها الله إذًا). كذا لأكثر الرواة: (فقالت) وظاهره: أن هذا قول بريرة أجابت به عائشة لما انتهرتها مستلطفة لها، ومُسكّنة. فكأنها قالت: فإذا كان ذلك، يعني: موجدة عائشة. فلا أستعينك على شيء. ويحتمل أن يكون الراوي أخبر به عن عائشة، ويؤيده ما قد وقع في بعض النسخ:(فقلت) مكان (قالت) وعلى هذا: فيكون من قول عائشة، ويكون معناه: أن أهل بريرة لما أبوا إلا اشتراط الولاء لهم امتنعت من الشراء والعتق؛ لأجل الشرط، وأقسمت على ذلك بقولها:(لا ها الله إذًا). والرواية المشهورة في هذا اللفظ: (هاء) بالمد والهمز، و (إذًا) بالهمز والتنوين، التي هي حرف جواب. وقد قيّده العذري، والهوزني بقصرها، وبإسقاط الألف من (إذًا) فيكون:(ذا). واستصوب ذلك جماعة من العلماء، منهم: القاضي إسماعيل، والمازري، وغيرهما. قالوا: وغيره خطأ. قالوا: ومعناه: ذا يميني. وصوَّب أبو زيد وغيره المدّ والقصر. قال: و (ذا) صلة في الكلام. وليس في كلامهم: (لا ها الله إذًا). وفي البارع (2): قال أبو حاتم: يقال: (لا ها الله ذا) في القسم،
(1) رواه البخاري (2560).
(2)
"البارع في غريب الحديث" للشيخ أبي علي إسماعيل بن القاسم اللغوي القالي (توفي سنة 356 هـ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والعرب تقوله بالهمز، والقياس تَركُه. والمعنى: لا والله، هذا ما أقسم به. فأدخل اسم الله بين (ها) و (ذا). انتهى كلامهم.
قلت: ويظهر لي: أن الرواية المشهورة صوابٌ، وليست بخطأ. ووجه ذلك: أن هذا الكلام قسم على جواب إحداهما للأخرى على ما قررناه آنفًا. والهاء هنا: هي التي يعوَّض بها عن تاء القسم، فإن العرب تقول: آلله لأفعلنَّ - ممدودة الهمزة، ومقصورتها -، ثم إنهم عوَّضوا من الهمزة (هاء) فقالوا: ها الله؛ لتقارب مخرجيهما، كما قد أبدلوها منها في قولهم:
ألا يا سَنَا بَرقٍ على قللِ الحِمَى
…
لِهَنَّك مِن بَرقٍ عليَّ كريم
وقالوا: فهيَّاك والأمر فهياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره (1) ولَمَّا كانت الهاءُ بدلًا من الهمزة، وفيها المدُّ والقصر، فالهاء تمدُّ وتقصر، كما قد حكاها أبو زيد. وتحقيقه أن الذي مدَّ مع الهاء كأنَّه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفًا استثقالًا لاجتماعهما، كما تقول: آلله. والذي قصر كأنَّه نطق بهمزةٍ واحدةٍ، فلم يحتج إلى المدِّ، كما تقول: الله.
وأما (إذا) فهي بلا شك حرف جواب، وتعليل. وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال:(أينقص الرطب إذا يبس؟ )(2) فقالوا: نعم. قال: (فلا إذًا)(3). فلو قال: فلا والله إذًا، لكان مساويًا لهذه من كل وجهٍ، لكنَّه لم يحتج إلى القسم، فلم يذكره. وقد بيَّنَّا تقدير المعنى، ومناسبته، واستقامته معنى ووضعًا
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م).
(2)
في (م): جفَّ.
(3)
رواه أحمد (2/ 175)، وأبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (7/ 269)، وابن ماجه (2246).
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَنِي فَأَخبَرتُهُ فَقَالَ: اشتَرِيهَا، وَأَعتِقِيهَا، وَاشتَرِطِي لَهُم الوَلَاءَ فَإِنَّ الوَلَاءَ لِمَن أَعتَقَ فَفَعَلتُ. قَالَت: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعدُ فَمَا بَالُ أَقوَامٍ يَشتَرِطُونَ
ــ
من غير حاجة إلى ما تكلُّفه من سبقت حكاية كلامه من النحويين من التقدير البعيد المخرج للكلام عن البلاغة (1). وأبعدُ من هذا كلِّه وأفسد: أن جعلوا (الهاء) للتنبيه و (ذا) للإشارة، وفصلوا بينهما بالمقسم به. وهذا ليس قياسًا فيطرد، ولا فصيحًا فيحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مرويًا برواية ثابتة. وما وجد للعذري من ذلك فإصلاح منه، أو من غيره، ممن اغترّ بما حكي عمَّن سبق ذكرهم من اللغويين. والحق أول مطلوب. والتمسُّك بالقياس المنقول أجل مصحوب. والصحيح رواية المحدثين والله خير معين.
وقول أبي زيد: ليس في كلامهم: (لا ها الله إذًا) شهادةٌ على نفي فلا تسمع. ثَمَّ تعارضه بنقل أبي حاتم: أنه يقال: (لا ها الله)(2) وليس كل ما يقتضيه القياس نوعًا يجب وجودُ جميع أشخاصه وضعًا.
و(قولها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء) هذه اللفظة التي هي: (واشترطي لهم الولاء) لفظة انفرد بها هشام. والرواة كلهم لا يذكرونها. وهي مشكلة. ووجه إشكالها: أن ظاهره: أنه أمرها باشتراط ما لا يجوز، ولا يصحّ، ولا يلزم لمن لا يعلم ذلك ليتم البيع، وذلك حَمل على ما لا يجوز، وغشٌّ، وغرر لمن لا يعلم ذلك. وكل ذلك محال على النبي صلى الله عليه وسلم. ولَمَّا وقع هذا الإشكال العظيم تحزَّب العلماء في التخلص منه أحزابًا. فمنهم من أنكر هذه الرواية عن هشام من حيث انفرد بها عن الحفاظ. وهو: يحيى بن أكثم. والجمهور على القول بصحَّة الحديث؛ لأن هشامًا ثقة، حافظ، إمام. ثم قد روى هذا الحديث الأئمة منه، وقبلوه، كمالك وغيره مع تَحَّرزهم، ونقدهم، وعلمهم
(1) في (ج 2): المبالغة.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من (م). وجملة: (فهَيَّاك والأمرَ) الثانية سقطت من (ج 2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بما يُقبَلُ وبما يُرَدُّ، وخصوصًا أمير المؤمنين بالحديث مالك بن أنس (1). فقد أخذه عنه، ورواه عُمُرَه لجماهير الناس، ولا إنكار منه، ولا نكير عليه. فصار الحديث مُجمَعًا على صحته. ولَمَّا ثبت ذلك رام العلماء القابلون للحديث التخلُّص من ذلك الإشكال بإبداء تأويلاتٍ، أقربها أربعة:
الأول: أن قوله: (واشترطي لهم) أي: عليهم. كما قال تعالى: {إِن أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَهَا} ؛ أي: عليها. ومنه قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ} ؛ أي: عليهم.
الثاني: أن قوله: (اشترطي) لم يكن على جهة الإباحة، لكن على جهة التنبيه على أن ذلك الشرط لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء. فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم. وقد قوَّى هذا الوجه ما جاء من رواية أيمن المكي عن عائشة: (اشتريها ودعيهم يشترطون)(2).
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أعلم بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك، بحيث لا يخفى على هؤلاء، فلمَّا أرادوا أن يشترطوا لما علموا بطلانه أطلق صيغة الأمر مريدًا بها التهديد على مآل الحال، كما قال تعالى:{وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ} فكأنه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون: أن ذلك لا يفيد. ويؤيِّده قوله صلى الله عليه وسلم حين خطبهم: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق)(3). فتوبيخهم بمثل هذا القول يدلُّ على أنه كان
(1) انظر الموطأ (2/ 780).
(2)
رواه البخاري (2565) بلفظ: "اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطوا ما شاؤوا".
(3)
انظره في أحاديث الباب.
شُرُوطًا لَيسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَا كَانَ مِن شَرطٍ لَيسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ،
ــ
قد تقدَّم بيانه لحكم الله تعالى بإبطاله، إذ لو لم يتقدَّم بيان ذلك لبدأ الآن ببيان الحكم لا بتوبيخ الفاعل، لأنه باق على البراءة الأصلية. وهذه التأويلات الثلاث لعلمائنا.
الرابع: ما قاله الطحاوي: أن الشافعي روى هذه اللفظة عن مالك عن هشام بن عروة بإسناده، ولفظه، وقال فيها:(واشرطي لهم الولاء) - بغير تاء -، وقال: معناه: أظهري لهم حكم الولاء؛ لأن الإشراط هو: الإظهار في كلام العرب. قال أوس بن حُجر:
فأشرط فيها نفسه وهو معلم
…
وألقى بأسباب له وتوكلًا
يعني: أظهر نفسه لما حاول أن يفعل.
قلت: وهذه الرواية مما انفرد بها الشافعي عن مالك، والجمهور من الأئمة الحفاظ على ما تقدم من ذلك.
و(قوله: من شرط شرطًا ليس في كتاب الله، فهو باطل) أي: ليس مشروعًا في كتاب الله لا تأصيلًا ولا تفصيلًا. ومعنى هذا: أن من الأحكام والشروط ما يوجد تفصيلها في كتاب الله تعالى؛ كالوضوء، وكونه شرطًا في صحة الصلاة. ومنها: ما يوجد فيه أصله، كالصلاة، والزكاة، فإنهما فيه مجملتان. ومنها: ما أصل أصله. وهو كدلالة الكتاب على أصلية السُّنة والإجماع والقياس. فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلًا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلًا، كما قد بيَّناه في أصول الفقه.
وعلى هذا فمعنى الحديث: أن ما كان من الشروط مما لم يدل على صحته
وَإِن كَانَ مِائَةَ شَرطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرطُ اللَّهِ أَوثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنكُم يَقُولُ أَحَدُهُم: أَعتِق فُلَانًا وَالوَلَاءُ لِي
ــ
دليلٌ شرعيٌ كان باطلًا؛ أي: فاسدا مردّودًا. وهذا كما قاله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ)(1). وفي هذا من الفقه ما يدلُّ على أن العقود الشرعية إذا قارنها شرط فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصة، وصحَّ العقد. لكن هذا إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد، الولاء في الكتابة، واشتراط السَّلف في البيع. فلو كان ذلك الشرط مخلاًّ بركن من أركان العقد، أو مقصودًا؛ فسخ العقد والشرط. وسيأتي لهذا مزيد بيان في حديث جابر، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: ولو كان مائة شرط) خرج مخرج التكثير؛ يعني: أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو كثرت. ويفيد دليل خطابه: أن الشروط المشروعة صحيحة، كما قد نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالًا)(2) خرَّجه الترمذي من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن.
و(قوله: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) أي: حكم الله. كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر - لَمَّا قال له الخصم: اقض بيننا بكتاب الله تعالى- فقال: (لأقضين بينكما بكتاب الله)(3) ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب، وعلى الزانية بالرجم. وليس التغريب والرجم موجودين في كتاب الله تعالى. لكن في حكم الله المسمَّى بالسُّنة، وكذلك اختصاص الولاء بالمعتق ليس موجودًا في كتاب الله، لكن في حكم الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مما يسمَّى سُنَّة.
(1) رواه أحمد (6/ 240)، والبخاري (2697)، ومسلم (1718/ 17).
(2)
رواه الترمذي (1352).
(3)
رواه البخاري (7278)، ومسلم (1697) و (1698).
إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَن أَعتَقَ؟ !
رواه أحمد (6/ 81 - 82)، والبخاري (2155)، ومسلم (1504)(8 و 9)، وأبو داود (2233)، والترمذي (1154)، والنسائي (6/ 164 - 165)، وابن ماجه (2521).
* * *
ــ
و(قوله: إنما الولاء لمن أعتق) هذا حصر للولاء على من باشر العتق بنفسه من كان من رجل أو امرأة ممن يصح منه العتق، ويستقل بتنفيذه. وقوة هذا الكلام قوة النفي والإيجاب. فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق. وإيَّاه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (شرط الله أوثق) في أصحِّ الأقوال وأحسنها. وقال الداودي: هو قوله تعالى: {فَإِخوَانُكُم فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم} ، {وَإِذ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ} وقال:{وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ} وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
وهو حجة على أبي حنيفة وأصحابه القائلين: بأن من أسلم على يديه رجل فولاؤه له. وبه قال الليث، وربيعة، وعلي وإسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط. وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة. ولمن قال: إن من أعتق عبده عن غيره أو عن المسلمين إن ولاءه له أعني للمعتق. وإليه ذهب ابن نافع فيمن أعتق عن المسلمين. ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقا. وخالفه في ذلك مالك، والجمهور، متمسكين بأن مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه بدليل اتفاق المسلمين: على أن الوكيل عن العتق معتق. ومع ذلك فالولاء للمعتق عنه إجماعًا، فكذلك حكم من أعتق عن الغير، وتقدره الشافعية أنه مَلَكَه ثم ناب عنه في العِتق. وأما أصحابنا فإنهم قالوا: لا يحتاج إلى تقدير ذلك؛ لأنه يصح العتق عن الميت، وهو لا يملك. وفيه نظر، فإنه إن لم يُقَدَّر الملك لزم منه هبة الولاء. وقد النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته. وإن قُدَّر الملك لم يصح العتق عن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الميت؛ لأنه لا يملك. ويُتَخَلَّص عن هذا الإشكال ببحث طويل لا يليق بما نحن بصدده.
ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، لكن نذكر منها ما لها تعلُّق قريب بالحديث الذي ذكرناه، وهي ثماني مسائل:
الأولى: جواز كتابة من لا مال له ولا صنعة. فإن بريرة كانت كذلك. وإليه ذهب مالك، والشافعي، والثوري، غير أن مالكا في المشهور كره كتابة الأنثى؛ التي لا صنعة لها. وكرهها أيضًا الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وروي مثله عن ابن عمر.
وهذا كلُّه يدل على أن (الخير) في قوله تعالى: {إِن عَلِمتُم فِيهِم خَيرًا} لم يرد به المال، بل: الدين، والأمانة، والقوة على الكسب. وقد ذهب قوم إلى أنه المال، فمنعوا ما أجازه المتقدمون، والحديث حجة عليهم.
الثانية: إن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء من الكتابة. وهو قول عامَّة العلماء، وفقهاء الأمصار. وحكي عن بعض السلف: إنه بنفس عقد الكتابة حرٌّ، وهو غريم بالكتابة، ولا يرجع إلى الرِّق أبدًا. وحكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه إن عجز عتق منه بقدر ما أدَّى. وحكي عن عمر، وابن مسعود، وشريح: إنه إذا أدَّى الثلث من كتابته، فهو حرٌّ وغريم بالباقي. وعن بعض السَّلف: الشَّطر. وعن عطاء: مثله؛ إذا أدَّى الثلاثة الأرباع. وقد روي عن ابن مسعود، وشريح مثله؛ إذا أدَّى قيمته. وأضعف هذه الأقوال قول من قال: بعقد الكتابة يكون حرًّا، وغريِمًا بالكتابة، فإن حديث بريرة هذا يردُّه، وكذلك كتابة سلمان، وجويرية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لجميعهم بالرِّق حتى ودُّوا (1) الكتابة.
وهذه الأحاديث أيضًا حجة للجمهور على أنَّ المكاتَب على حكم الرِّق ما بقي عليه
(1) وَدَوْا: أعطوا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شيء منها؛ مع ما رواه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته درهم)(1). وقد روى نحوه النسائي أيضًا من حديث عطاء الخراساني، عن عبد الله بن عمر (2).
والصحيح موقوف على ابن عمر. وقد رُوي مثله عن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة. ومثل هذا لا يقوله الصحابي من رأيه، فهو إذًا مرفوع.
وأما أقوال السلف؛ فأشبه ما فيها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويشهد له ما خرَّجه النسائي أيضًا عن ابن عباس، وعلي رضي الله عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:(المكاتب يعتق منه بقدر ما أدَّى، ويقام عليه الحد بقدر ما وَدَى (3)، ويرث بقدر ما عتق منه). وإسناده صحيح. ويعتضد بما رواه الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدِّي فلتحتجب منه)(4). قال: حديث حسن صحيح.
قلت: وظاهره أنَّ هذا خطاب مع زوجاته؛ أخذًا بالاحتياط، والورع في حقهنَّ، كما قال لسودة:(احتجبي منه)(5). مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة:(أفعمياوان أنتما؟ ! ألستما تبصرانه؟ ) يعني: ابن أم مكتوم، مع أنه قد قال لفاطمة بنت قيس:(اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده).
الثالثة: حديث بريرة - على اختلاف طرقه، وألفاظه - يتضمن: أن بريرة وقع
(1) رواه النسائي في الكبرى (5026).
(2)
رواه النسائي في الكبرى (5027).
(3)
رواه النسائي في الكبرى (7014).
(4)
رواه الترمذي (1261).
(5)
رواه البخاري (7182)، ومسلم (1457)، وأبو داود (2273).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فيها بيع بعد كتابة تقدَّمت، فاختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. فمنهم من أجازه إذا رضي المكاتب بالبيع، ولو لم يكن عاجزا. وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البرّ. وبه قال ابن شهاب، وأبو الزناد، وربيعة. غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجز منه.
ومنهم من قال: يجوز بيعه على أن يمضي في كتابته؛ فإن أدَّى عتق، وكان ولاؤه للذي ابتاعه. ولو عجز فهو عبدٌ له. وبه قال النخعي، وعطاء، والليث، وأحمد، وأبو ثور.
ومنهم من منع بيع المكاتب إلا أن يعجز. وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم. وأجاز (1) مالك بيع الكتابة، فإن أدَّاها عتق، وإلا كان رقيقًا لمشتري الكتابة. ومنع ذلك أبو حنيفة لأنه بيع غرر. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة. وكل هذا الخلاف سببه اختلاف فُهومهم في حديث بريرة وقواعد الشريعة، وقد قدمنا: أن الأظهر من الحديث جواز بيع المكاتب للمعتق، وهو أحسنها؛ لأنه الأظهر من الحديث، والأنسب لقواعد الشرع؛ لأن الكتابة عقد عتق على شرط عمل أو مال، وقد يحصل ذلك أو لا يحصل. وبيعه للعتق إسقاط لذلك الشرط، وتنجيز للعتق. والله أعلم.
والولاء للمشتري؛ لأن عقد الكتابة قد انفسخ.
المسألة الرابعة: اتفق المسلمون على أن المكاتب إذا حلَّ عليه نجم (2) أو أكثر، فلم يطالبه سيده بذلك، وتركه على حاله؛ أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك. واختلفوا فيما إذا كان العبد قويًا على السعي والأداء. فقال مالك: ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال كان له ذلك. وقال الأوزاعي: لا يُمَكَّن من تعجيز نفسه إذا كان قويًّا على الأداء. وقال الشافعي: له أن يعجز نفسه؛ علم له مال أو قوة، أو لم يعلم. وإذا قال: قد عجزت، وأبطلت الكتابة، فذلك إليه.
(1) في (ج 2): اختار.
(2)
أي: القِسْط المترتب على المكاتب حسب ما ينصّ عليه عقد المكاتبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: والصحيح: أن الكتابة لا سبيل إلى إبطال حكمها ما أمكن ذلك؛ لأنها إما أن تكون عقدًا بين السيد وعبده، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود (1)، وإما وعدًا بالعتق وعهدًا، فقد قال الله تعالى:{وَأَوفُوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كَانَ مَسئُولا} وإما عتقًا على شرط يمكن تحصيله؛ فيجب الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون على شروطهم)(2) ولأنه لو علَّق عتقه على أجل يأتي، أو على أمرٍ يحصل لزمه العقد، وحصل العتق عند حصول ذلك الشرط، فكذلك عقد الكتابة. ويستثنى من هذا بيعه للعتق، كما بيَّناه. وإذا كان كذلك، فلا يقبل من السيد، ولا من العبد دعوى العجز حتى يتبين بالطرق المعتبرة في ذلك.
المسألة الخامسة: إذا عجز العبد وكان السيد قبض منه بعض نجوم الكتابة حلَّ ذلك للسيد، سواء كان ذلك من صدقة على المكاتب أو غيرها، ولا رجوع للمكاتب بذلك، ولا لمن أعطاه على وجه فكاك الرقبة. هذا قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح، ومالك، غير أنه قال: إن ما أُعني به - على جهة فك رقبته -: لا يحل للسيد، ويرد على ربه. وقال إسحاق: ما أعطي بحال الكتابة ردَّ على أربابه (3). وقال الثوري: يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب. وهو قول مسروق، والنخعي، ورواية عن شريح.
قلت: وما قاله مالك ظاهر، لا إشكال فيه.
المسألة السادسة: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج لا يوجب طلاقها. وعليه فقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس، وابن مسعود: أنه طلاق لها.
(1) في هذا إشارة إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
(2)
رواه أبو داود (3594)، والترمذي (1352).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (م).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والعجب من ابن عباس أنه أحد رواة حديث بريرة، ومع ذلك: لم يقل بما روى من ذلك.
المسألة السابعة: الولاء - وإن لم يوهب ولم يبع- يصح فيه الجرُّ في صورتين:
إحداهما: وهي التي قال فيها مالك: الأمر المجمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حُرَّة، ووالد العبد حر: أن الجدَّ - أبا العبد - يجرُّ ولاءَ ولد ابنه الأحرار من امرأةٍ حرَّة، ويرثهم ما دام أبوهم عبدًا، فإن أعتِقَ أبوهم رجع الولاء إلى مواليه، وإن مات وهو عبد كان الولاء والميراث للجد.
وأما الصورة الثانية: فاختلف أهل العلم في انتقال الولاء الذي قد ثبت لموالي الأمة المعتقة في بنيها من الزوج العبد إن أعتق. فروي عن جماعة من العلماء: أن ولاءهم لموالي أمهم (1)، ولا يجره الأب إن أُعتق. وروي ذلك عن عمر، وعطاء، وعكرمة بن خالد ومجاهد، وابن شهاب وقبيصة بن ذؤيب، وقضى به عبد الملك بن مروان في آخر خلافته، لما بلغه قضاء عمر به، وكان قبلُ يقضي بقضاء مروان: أن الولاء يعود إلى موالي أبيهم، وبهذا القول قال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
المسألة الثامنة: ولاء السائبة - وهو: الذي بقول له معتقه: أنت عتيق سائبة، أو أنت مسيب، أو ما أشبهه -: للمسلمين عند مالك، وجُلّ أصحابه. لا للذي أعتقه. وليس للمعتق أن يوالي من شاء. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر.
وقال ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، والأوزاعي، والليث: له أن يوالي من شاء،
(1) في (ع): الأمة.