الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَد فَعَلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُم فَاقضِهِ.
رواه أحمد (3/ 390)، والبخاري (457)، ومسلم (1558)(20)، والنسائي (8/ 244)، وابن ماجه (2429).
* * *
(18) باب من أدرك ماله عند مُفلس
[1649]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَفلَسَ الرَّجُلُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ عِندَهُ سِلعَتَهُ بِعَينِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.
ــ
الكلام إذا فُهِمَت؛ لأنها دلالة على الكلام كالحروف والأصوات، فتصح شهادة الأخرس، ويمينه، ولعانه، وعقوده إذا فهم ذلك عنه، وهذا منه صلى الله عليه وسلم أمر على جهة الإرشاد إلى الصلح. وهذا صُلح على الإقرار؛ لأن نزاعهما لم يكن في أصل الدَّين، وإنما كان في التقاضي. وهو متفق عليه. وأما الصُّلح على الإنكار، فهو الذي أجازه مالك، وأبو حنيفة والشعبي، والحسن البصري. وقال الشافعي: الصلح على الإنكار باطل. وبه قال ابن أبي ليلى.
و(قوله: قم فاقضه) أمرٌ على جهة الوجوب؛ لأن ربَّ الدَّين لَمَّا أطاع بوضع ما وضع تعيَّن على المِديان أن يقوم بما بقي عليه، لئلا يُجمع على ربِّ الدَّين وضيعة ومُطل. وهكذا ينبغي أن يبتَّ الأمر بين المتصالحين، فلا يترك بينهما علقة ما أمكن.
(18)
ومن باب: من أدرك ماله عند مُفلس
(قوله: إذا أفلس الرَّجل فوجد الرَّجل عنده سلعته بعينها فهو أحق بها). وقوله: (أفلس الرجل): في اللغة: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دنانير، كما يقال:
وفي رواية: أَيُّمَا امرِئٍ فُلِّسَ.
رواه أحمد (2/ 228)، والبخاري (2402)، ومسلم (1559)(22 و 25)، وأبو داود (3519)، والترمذي (1262)، والنسائي (7/ 311)، وابن ماجه (2358).
ــ
أخبث الرجل، أي: صار أصحابه خبثاء. وأقطف الرَّجل؛ إذا صارت دابته قطوفًا (1). والمفلس في عرف العرب: من لا مال له عينًا، ولا عرضًا، ولا غيره. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:(أتدرون من المفلس؟ ) قالوا: ما هو المعروف عندهم، فأجابوه بقولهم: من لا درهم له، ولا متاع (2). وهو في عرف الشرع: عبارة عن مِديان (3) قصر ما بيده عن وفاء ما عليه من الديون، فطلب الغرماء أخذ ما بيده. وإذا كان كذلك، فللحاكم أن يحجر عليه، ويمنعه من التصرف فيما بيده، ويُحَصِّله، ويجمع الغرماء، فيقسمه عليهم. وهذا هو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم، كعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعروة بن الزبير، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد. وقال النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، ولا يمنعه من التصرف في ماله، لكن يحبسه ليوفي ما عليه، وهو يبيع ما عنده. والحجة للجمهور على هؤلاء حديث تفليس معاذ المتقدم. وقد قال فيه الزهري: ادَّانَ معاذٌ فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قضى دينه (4). وكذلك فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجهني الذي قال فيه: ألا إن أُسَيفَعَ جُهينة رضي لدينه وأمانته أن يقال: سَبَقَ الحَاجَّ، ثم
(1) أي: تسيء السير وتبطئ.
(2)
رواه أحمد (2/ 303)، ومسلم (2581)، والترمذي (2418).
(3)
إذا كانت عادته أن يأخذ بالدَّين، ويستقرض.
(4)
رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 231)، والحاكم (3/ 273) وانظر: سير أعلام النبلاء (1/ 453).
[1650]
وعنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُعدِمُ إِذَا وُجِدَ عِندَهُ المَتَاعُ وَلَم يُفَرِّقهُ، إنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ.
رواه مسلم (1559)(23).
* * *
ــ
ادَّان مُعرضًا (1). فمن كان له عليه دين فليحضر، فإنا نبيع ماله (2). ولم يخالفه أحدٌ، ثم يباع عليه كل ماله وعقاره. وقال أبو حنيفة: لا يباع عليه عقاره. وقوله مخالف (3) للأدلة التي ذكرناها، فإنها عامة لجميع الأموال، ولأن الدَّين حق مالي في ذمَّته، فيباع عليه فيه عقاره، كما يباع في نفقة الزوجات، ولأن الفلس معنى طارئ يوجب قسمة المال، فيباع فيه لعقار كالموت.
وقد اختلف العلماء في مشتري السِّلعة إذا أفلس أو مات، ولا وفاء عنده بثمنها ووُجِدت. فقال الشافعي: صاحبها أحق بها في الفَلَس والموت. وقال أبو حنيفة: صاحبها أسوة الغرماء فيها. وقال مالك: هو أحق بها في الفَلَس دون الموت. وسبب الخلاف: معارضة الأصل الكلِّي للأحاديث. وذلك: أن الأصل أن الدَّين في ذمَّة المفلس والمَيِّت وما بأيديهما محل للوفاء، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في هذا من أن تكون أعيان السلع موجودة، أو لا؛ إذ قد خرجت عن مالك بائعها، ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلا أثمانها إن وجدت، أو ما وُجِد منها. فتمسَّك أبو حنيفة بهذا، وردَّ الأخبار بناءً على أصله في ردِّ أخبار الآحاد عند معارضة القياس. وأما الشافعي ومالك:
(1) يريد بالمعرض: المعترض، أي: اعترض لكل من يُقرضه، وقيل: أراد معرضًا عن الأداء. (النهاية في غريب الحديث 3/ 215 وانظر (غريب الحديث) لابن الجوزي (6/ 86).
(2)
رواه مالك في الموطأ (2/ 770).
(3)
في (م): فاسد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فتمسكا بالأخبار الواردة في الباب، وخصَّصَا بها تلك القاعدة. غير أن الشافعي تمسَّك في التسوية بين الموت والفَلَس بما رواه أبو داود من حديث أبي المعتمر، عن عمر بن خَلدة قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا أفلس. فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات، فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به (1). وبإلحاق الموت بالفلس؛ لأنه في معناه، ولم ينقدح بينهما فرق مؤثر عنده. وأما مالك: فإنه فرَّق بينهما، لما رواه عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيُّما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه، فهو أحق به، فإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء)(2).
قلت: وهذا مرسل صحيح. وقد أسنده أبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة (3)، وهو طريق صحيح، وفيه زيادة ألفاظ نذكرها بعد إن شاء الله تعالى، ومذهب مالك أولى؛ لأن حديثه أصح من حديث الشافعي؛ لأن أبا المعتمر مجهول على ما ذكره أبو داود، وللفرق بين الفلس والموت، وذلك: أن ذمَّة المفلس باقية، غير أنها انعابت، ويمكن أن يزول ذلك العيب بالإيسار، فيجد الغرماء الذين لم يأخذوا من السلعة شيئًا ما يرجعون عليه، وليس كذلك في الموت، فإن ذمَّة الميت قد انعدمت، فلا يرتجعون (4) شيئًا؛ فافترقا، والله تعالى أعلم.
وقد تعسَّف بعض الحنفية في تأويل أحاديث الإفلاس تأويلات لا تقوم على أساس، ولا تتمشى على لغةٍ، ولا قياسٍ. فلنُضرب عن ذكرها، لوضوح فسادها.
(1) رواه أبو داود (3523).
(2)
رواه مالك في الموطأ (2/ 678).
(3)
رواه أبو داود (3519).
(4)
في (ع): فلا يرجعون. وفي (ل 1): فلا يرتجون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
و(قوله: فوجد الرَّجل سلعته بعينها، فهو أحق بها) مقتضى دليل خطابه: أنَّه لو وجدها قد تغيرت عن حالها، أو وجد بعضها، لم يكن له أن يأخذها. وهذا يليق بمذهب أهل الظاهر. لكن علماؤنا فصلوا التغير إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تغير انتقال، كالعبد المتغير بزمانة، أو بعتق، أو عقد من عقوده. وكالثوب المتغير بقطعه قُمُصًا، أو غيرها، وكالحنطة المتغيرة بخلط مُسوِّس بها أو بغير نوعها، أو بطحنها، أو خبزها. وكالخشبة المتغيرة بجعلها بابًا، أو غيره. فهذا النوع مفوِّت، ليس له الرُّجوع معه.
الثاني: تغير غير انتقال، كالمتغير بالمرض اليسير، وكخلط القمح بمثله. فهذا له الرُّجوع فيه؛ إذ لا أثر لذلك التغير. ومن هذا النوع وجدان بعض السلعة. فله أن يأخذ ويضرب معهم بسهمه فيما بقي.
الثالث: تغير بإضافة غير السلعة إليها، كالعرصة تُبنى، والغزل يُنسج. فهذا يرجع في سلعته، ويدفع قيمة البناء، والنسج. وله مشاركة الغرماء في تلك القيمة؛ إن بقي له من دينه شيء.
وفي هذا الباب فروع مختلف فيها بسبب تردُّدها بين هذه الأنواع.
و(قوله في حديث الزهري؛ الذي خرَّجه أبو داود: (فإن كان قضاه من ثمنه شيئًا، فما بقي فهو أسوة الغرماء) بمقتضى هذا قال الشافعي، فرأى: أن قبض بعضه مفوِّت. ولم يره مالك مفوِّتًا، مع أنه روي معناه عن الزهري، كما قدَّمناه من حديثه. فقال-أعني مالكا -: إن شاء ربُّ السِّلعة أن يردَّ ما اقتضى، ويأخذ السِّلعة، كان له ذلك. وهذا مخالف لذلك الظاهر. وفيه إشكال، غير أنّ الذي صح عند مالك هو اللفظ الذي في موطئه؛ أعني مرسل أبي بكر بن عبد الرحمن،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ونصَّه ما قد بيَّنَّاه (1). وهو يدل: على هذا الشرط بدليل المفهوم. وحديث أبي هريرة الذي في الأصل يدلُّ على إلغاء ذلك الشرط (2) بدليل العموم. والتمسك به راجح على التمسك بالمفهوم كما ذكرناه في أصول الفقه. فتأمل هذا، فإنَّه حَسنٌ بالغٌ. والشافعي حيث تمسك بما رواه أبو داود من ذلك كان يلزمه أن يفرِّق بين الموت والفَلَس؛ لأن الحديث واحد، فإنه قال فيه:(وأيُّما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئًا، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء)(3). فأخذ ببعضه، وترك بعضه لحديث مجهول، كما قد بيَّنَّاه.
وما تقدَّم من الأحاديث في المفلس تدلُّ على أن جميع ما عليه من الدَّين يدخل في المحاصَّة، ما حل منها، وما لم يحل. وهو قول الجمهور، خلا أن الشافعي قال في أحد قوليه: لا يحل عليه من دين مؤجل. وهذا ليس بصحيح للأحاديث المتقدِّمة؛ ولأنه إذا خربت ذمَّة المفلس فقد لا تنعمر. فلا يحصل لمن تأخر دينه شيء مع أنه يمكن أن يكون عِوَض دينه موجودًا حال الفلس، أو بدله، فيؤخذ شيئه ولا يحصل له شيء، وإذا كان ذلك في الفلس كان الموت بذلك أولى. وهو متفق عليه، إلا ما يحكى عن الحسن أنه قال: لا يحل ما على الميت من دين مؤجل. وهو محجوج بما تقدَّم؛ وبأن الدَّين إما أن يبقى متعلقًا بذمة الميت، وهو محالٌ لذهابها، أو بذمَّة الورثة، وهو محال لعدم الموجب. ثم لا يلزم صاحب الدَّين اتباع ذمَّتهم، وتسليم التركة إليهم. أو يبقى هذا الدَّين لا في ذمَّة؛ فلا يطالب به أحدٌ، وهو محال. فلم يبق إلا ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
* * *
(1) في (ج 2) ما قدمناه.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
(3)
رواه أبو داود (3520).