الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(18) باب تحريم وطء الحامل من غيره حتى تضع، وذكر الغيل
[1502]
عَن أَبِي الدَّردَاءِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَى بِامرَأَةٍ مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسطَاطٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَن يُلِمَّ بِهَا؟ فَقَالُوا: نَعَم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَد هَمَمتُ أَن أَلعَنَهُ لَعنًا يَدخُلُ مَعَهُ قَبرَهُ،
ــ
(18)
ومن باب: تحريم وطء الحامل المسبيَّة
(قوله: أنَّه صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة، مُجِحٍّ) روايتنا فيه: (أتَى) - بفتح الهمزة والتاء -، على أنَّه فعل ماض؛ بمعنى: جاز، ومرَّ. و (مُجِحٍّ) - بضم الميم، وكسر الجيم، وتشديد الحاء المهملة -، وهي: المرأة (1) التي قربت ولادتها. و (الفسطاط): خِباءٌ صغير. وفيه لغتان: فَسطاط وفُسطاط.
و(قوله: لعلَّه يريد أن يُلِمَّ بها؟ ) كناية عن إصابتها. وأصل الإلمام: النزول، كما قال:
متى تأتنا تُلمم بنا في دِيارنا
…
تجد خير نار عندها خير مُوقِد (2)
و(قوله: لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره) هذا وعيدٌ شديدٌ على وطء الحبالى حتى يضعنَ. وهو دليل على تحريم ذلك مطلقا، سواء كان الحمل من وطء صحيح، أو فاسد، أو زنا. فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل عن سبب الحمل، ولا ذكر أنه يختلف حكمه. وهذا موضع لا يصحُّ فيه تأخير البيان. وإلى الأخذ بظاهر هذا ذهب جماهير العلماء، غير أن القاضي عياضا قال في المرأة تزني
(1) في (ج 2): الحامل.
(2)
البيت في اللسان للحطيئة، وصدره: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره.
كَيفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ كَيفَ يَستَخدِمُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟ .
رواه أحمد (6/ 446)، ومسلم (1441).
ــ
فتحمل، ويتبين حملها: أن أشهب أجاز لزوجها وطأها. قال: وكرهه مالك وغيره من أصحابه. قال: فاتفقوا على كراهته، ومنعه من وطئها في ماء الزنا ما لم يتبين الحمل. وهذا الذي حكاه عن أشهب يردُّه هذا الحديث. ومعناه على ما يأتي. وكراهة مالك لذلك بمعنى: التحريم، والله تعالى أعلم. وإنما لم يُوقِع النبي صلى الله عليه وسلم ما هَمَّ به من اللَّعن؛ لأنه ما كان بَعدُ تقدَّم في ذلك بشيء. وأمَا بَعدَ أن تقدَم هذا الوعيد وما في معناه: ففاعل ذلك متعرِّضٌ للّعن يدخل معه قبره، ويدخله جهنم.
و(قوله: كيف يورثه وهو لا يحل له؟ ! كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ! ) هذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على أن واطئ الحامل له مشاركة في الولد. وبيانه: أن ماء الوطء يُنَمِّي الولد، ويزيد في أجزائه، ويُنعِّمه، فتحصل مشاركة هذا الواطئ للأب؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره)(1). فإذا وطئ الأمة الحامل لم يصحّ أن يحكم لولدها بأنه ابن لهذا الواطئ؛ لأنه من ماء غيره نشأ. وعلى هذا فلا يحلُّ له أن يرثه، ولا يصح أيضًا أن يحكم لذلك الولد بأنه عبدٌ للواطئ؛ لما حصل في الولد من أجزاء مائه، فلا يحلَّ له أن يستخدمه استخدام العبيد؛ إذ ليس له بعبدٍ، لِمَا خالطه من أجزاء الحُرِّ.
وفيه من الفقه: ما يتبيَّن به استحالة اجتماع أحكام الحرية، والرِّق في شخص واحد، وأن مَن فيه شائبة بُنُوَّةٍ لا يُملَك، و (2) أن من فيه شائبة رقٍّ لا يكون حكمه حكم الحرّ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وفيه: أن السِّباء يهدمُ النكاح، وهو مشهورُ مذهبنا، سواء سُبيا مجتمعين أو مفترقين، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
(1) رواه أحمد (4/ 108 - 109)، وأبو داود (2158 و 2159)، والدارمي (2/ 230).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
[1503]
وعَن عَائِشَةَ عَن جُدَامَةَ بِنتِ وَهبٍ الأَسَدِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَقَد هَمَمتُ أَن أَنهَى عَن الغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرتُ أَن الروم وَفَارِسَ يَصنَعُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ أَولَادَهُم.
وفي رواية: ثُمَّ سَأَلُوهُ عَن العَزلِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ الوَأدُ الخَفِيُّ.
رواه مسلم (1442)(140) و (141)، وأبو داود (3882)، والترمذي (2078)، والنسائي (6/ 106 - 107).
ــ
وقد ذكر أبو داود في المنع من وطء الحامل حديثًا نصًّا، هو أصلٌ في هذا الباب؛ من حديث أبي الودَّاك: جبر بن نوف، عن أبي سعيد الخدري، رفعه، قال في سبايا أوطاس:(لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة)(1). تفرد أبو الودَّاك بقوله: (حتى تحيض حيضة)(2). وأبو الودَّاك وثّقه ابن معين. وقد خرَّج عنه مسلم في صحيحه.
و(جُدامة الأسديَّة) رويناه بالدال المهملة. وهكذا قاله مالك، وهو الصواب. قال أبو حاتم: الجُدامة: ما لم يندق من السُّنبل. قال غيره: هو ما يبقى في الغِربال من نَصية (3). وقال غير مالك بالذال المنقوطة. وهو من: الجذم؟ الذي هو القطع. وهي: جُدامة بنت وهب بن محصن الأسديَّة، تكنى: أم قيس؛ وهي ابنة أخي عكَّاشة بن محصن. أسلمت عام الفتح.
و(قوله: لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة) - بكسر الغين لا غير- وهي
(1) رواه أبو داود (2157).
(2)
ساقط من (م).
(3)
"النصية": البقية.
[1504]
وعَن سَعدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعزِلُ عَن امرَأَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِمَ تَفعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ
ــ
الاسم من الغَيل. وإذا دخلت عليه الهاء فليس إلا الكسر، وإذا حُذفت الهاء فليس إلا الفتح في الغين. وقال بعضهم: يقال: الغَيلة - بالفتح - للمرة الواحدة من الغَيل. وللغويين في تفسيرها قولان:
أحدهما: أن الغِيلة هي: أن يجامع الرَّجل امرأته وهي تُرضع. حُكي معناه عن الأصمعي. يقال منه: غال الرَّجل المرأةَ، وأغالها، وأغيلها.
وثانيهما: أنَّها أن تُرضع المرأة وهي حامل. يقال منه: غالت، وأغالت، وأغيلت؛ قاله ابن السِّكِّيت.
قلت: والحاصل: أن كل واحد منهما (1) يقال عليه: (غيلة) في اللغة، وذلك: أن هذا اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر، والهلاك؛ ومنه تقول العرب: غالني أمرُ كذا؛ أي: أضرَّ بي. وغالته الغول؛ أي: أهلكته. وكلُّ واحدة من الحالتين المذكورتين مضرَّة بالولد. ولذلك يصح أن تحمل الغيلة في الحديث على كل واحد منهما.
فأمَّا ضرر المعنى الأول: فقالوا: إن الماء - يعني: المني - يغيلُ اللَّبن؛ أي: يفسده. ويُسأل عن تعليله أهل الطبِّ.
وأمَّا الثاني: فضرره بيِّنٌ محسوسٌ. فإن لبن الحامل داءٌ وعلَّة في جوف الصبي، يظهر أثره عليه. ومراده صلى الله عليه وسلم بالحديث: المعنى الأول، دون الثاني؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضرُّ الولد؛ حتى احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب؛ الذين يصنعون ذلك. فلمَّا رأى أنَّه لا يضرُّ أولادهم لم يَنه عنه.
وأمَّا الثاني: فضرره معلومٌ للعرب وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر، ولا فكر.
وإنما هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الغيلة لما أكثرت العرب من اتقاء ذلك،
(1) ساقط من (ع).
الرَّجُلُ: إني أُشفِقُ عَلَى وَلَدِهَا أَو عَلَى أَولَادِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَو كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ.
رواه مسلم (1443).
* * *
ــ
والتحدُّث بضرره، حتى قالوا: إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه.
وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أسماء ابنة يزيد، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه)(1). ذكره ابن أبي شيبة. ثم لما حصل عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يضرّ أولاد العجم؛ سوى بينهم وبين العرب في هذا المعنى، فسوَّغه. فيكون حجة لمن قال من الأصوليين: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالرأي والاجتهاد. وقد تقدم ذلك.
وقول السائل عن العزل: (أشفق على ولدها) يعني: أخاف إن لم أعزل أن تَحمِل فيضرَّ ذلك ولدها، على ما تقدَّم. ويحتمل: أنَّه يخاف فساد اللَّبن بالوطء. على ما ذكرناه آنفًا.
و(قوله: لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارس والرُّوم) دليل على أنَّ الأصل في نوع الإنسان المساواة في الجبلَاّت والخَلق، وإن جاز اختلاف العادات والمناشئ. وفيه حجة على إباحة العزل، كما تقدَّم، والله تعالى أعلم.
* * *
(1) رواه أحمد (6/ 458)، وأبو داود (3881)، وابن ماجه (2012).