الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(37) باب غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختلف في الطريق
[1701]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمنَع أَحَدُكُم جَارَهُ أَن يَغرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ
ــ
(37)
ومن باب: غرز الخشب في جدار الغير، وإذا اختلف في الطريق
(قوله: لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره) اختلف العلماء في تمكين رب الحائط من هذا عند السؤال. فصار مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة: إلى أن ذلك من باب الندب، والرفق بالجار، والإحسان إليه، ما لم يضر ذلك بصاحب الحائط. ولا يجبر عليه من أباه، متمسكين في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)(1) ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة: أن المالك لا يجبر على إخراج ملك عن يده بعوض، كان أحرى وأولى ألا يخرج عن يده بغير عوض. وصار آخرون: إلى أن ذلك على الوجوب، ويجبر من أباه عليه. وممن ذهب إلى ذلك: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وداود بن علي، وأبو ثور، وجماعة من أهل الحديث، وهو مذهب عمر. وحكي ذلك عن المُطَّلب - قاضٍ كان بالمدينة - يقضي (2) به، متمسكين بظاهر النهي المذكور، ولأنه قد روي من طريق آخر عن أبي هريرة في هذا الحديث:(لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره أن يغرز خشبات في جداره)(3). وبقضاء عمر
(1) رواه أحمد (5/ 425)، والبيهقي (6/ 100 و 8/ 182)، والدارقطني (3/ 26). وانظر مجمع الزوائد (4/ 172)، وتلخيص الحبير (3/ 45)، والتمهيد (10/ 222)، ومسند الفردوس رقم (7635).
(2)
في (ع) يفتي به.
(3)
ذكره الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 154)، وابن عبد البر في التمهيد (10/ 229).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رضي الله عنه على محمد بن مسلمة وعلى يحيى المازني بمثل ذلك من المرور بالربيع (1)، وتحويله في أرضهما، على ما رواه مالك في الموطأ (2). ولم يسمع بمخالف له في ذلك من الصحابة غير محمد بن مسلمة. وهو المحكوم عليه.
قلت: وقد دفعت كل طائفة ما احتجت به الأخرى بوجوه من التأويلات لا تبعد على من تأملها، تركناها لطولها. والأولى: القول الأول؛ لأنه الذي تشهد له الأصول.
فرع على القول بالندب: إذا أذن له في ذلك إذنًا مطلقا لم يكن له أن يطالبه بقلعها إلا إن دعت إلى ذلك ضرورة، كبناء الجدار، أو شيء لا بدّ منه؛ لأن الإذن المطلق يقتضي التأبيد، فإن أذن له إلى مدَّة معينة فله ذلك عند انقضائها.
و(قوله: أن يغرز خشبة) روي بتوحيد (خشبة) وبجمعها، قال الطحاوي عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى عنه. فقالوا:(خشبة) بالنصب والتنوين واحدة. قال عبد الغني: كل الناس يقولون بالجمع إلا الطحاوي.
قلت: وإنما اعتنى هؤلاء الأئمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف؛ لأن أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة به. وأما إذا قال: خُشُبَهُ؛ فقد لا يتسامح في الكثير منها، ويثقل ذلك للحوق الضرر بذلك. حكي: أن يونس بن عبد الأعلى الصُّدفي سأل عبد الله بن وهب: كيف تروي الحديث: (خشبة) على الإفراد؛ فقال: الذي سمعناه من جماعة: (خشبة) على لفظ الواحد. وقال عبد الغني بن سعيد الحافظ: كل الناس يقوله على الجمع إلا الطحاوي. ورجَّح بعض الأشياخ ما قاله عبد الغني بن سعيد بالألفاظ الواردة في طرق الحديث منها:
(1)"الربيع": النهر الصغير.
(2)
رواه مالك في الموطأ (2/ 746).
قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ: مَا لِي أَرَاكُم عَنهَا مُعرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرمِيَنَّ بِهَا بَينَ أَكتَافِكُم.
رواه أحمد (4/ 463)، والبخاري (2463)، ومسلم (1609)، وأبو داود (3634)، والترمذي (1353)، وابن ماجه (2335).
ــ
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لجار أن يمنع جاره أن يضع أعواده على جداره). وفي رواية أخرى: (أن يضع جذوعه) وفي أخرى: (أن يغرز خشبًا) وفي أخرى: (أطراف خشب). فهذه الألفاظ جميعها توضح: أنه جمع (1).
و(قوله: ما لي أراكم عنها معرضين) الضمير في (عنها) يعود إلى (2) المقالة التي صدرت منه لهم. وأنثها على المعنى. وهذا القول منه إنكارٌ عليهم، لما رأى منهم من الإعراض واستثقال ما سمعوه منه، وذلك: أنهم لم يقبلوا عليه، بل طأطؤوا رؤوسهم، كما رواه الترمذي (3) في هذا الحديث.
و(قوله: والله لأرمين بها بين أظهركم) وفي أخرى: (لأضربن بها بين أعينكم وإن كرهتم) ذكرها أبو عمر (4)؛ أي: لأحدثنكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة. ولا تقية، وأوقعها بينكم كما يوقع السهم بين الجماعة.
ففيه من الفقه: تبليغ العلم لمن لم يرده، ولا استدعاه؛ إذا كان من الأمور المهمة. ويظهر منه: أن أبا هريرة كان يعتقد وجوب بذل الحائط لغرز الخشب، وأن السامعين له لم يكونوا يعتقدون ذلك. وأما رواية:(لأضربن بها أعينكم): فهي على جهة المثل؛ الذي قصد به الإغياء في الإنكار؛ لأنه فهم عنهم الإعراض عما
(1) ما بين حاصرتين زيادة من حاشية (م).
(2)
في (ج 2): على.
(3)
رواه الترمذي (1353).
(4)
انظر: التمهيد (10/ 216 وما بعدها).
[1702]
وعنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا اختَلَفتُم فِي الطَّرِيقِ، جُعِلَ عَرضُهُ سَبعَ أَذرُعٍ.
رواه أحمد (2/ 228 و 429)، والبخاري (2473)، ومسلم (1613)، وأبو داود (3633)، والترمذي (1355)، وابن ماجه (2238).
* * *
ــ
قال، والكراهة، فقابلهم بذلك. والرواية المشهورة:(أكتافكم) - بالتاء باثنتين من فوقها - جمع: كتف. وقد وقع في الموطأ من رواية يحيى: (أكنافكم) بالنون، جمع: كنف، وهو: الجانب.
و(قوله: إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أذرع) هذا محمول على أمهات الطرق؛ التي هي ممر عامة الخلق بأحمالهم، ومواشيهم. فإذا تشاح من له أرض تتصل بها مع من له فيها حق جعل بينهما سبع أذرع، بالذراع المتعارفة في ذلك طريقًا للناس، وخلي بينهما وبين ما زاد على ذلك. وأما بنيات الطرق فبحسب ما تدل عليه العادة، وتدعو إليه الحاجة، وذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال المتنازعين. فليست طريق من عادته استعمال الدواب والمواشي وأهل البادية كعادة من لا يكون كذلك من أهل الحاضرة، ولا مسكن الجماعة كمسكن الواحد والاثنين، وإنما ذلك بحسب مصلحتهم. وعلى هذا يحتاج أهل البادية من توسيع الطريق إلى ما لا يحتاج إليه أهل الحاضرة. وتحتاج طرق الفيافي والقفار من التوسيع أكثر من سبع أذرع؛ لأنها مجرُّ الجيوش والرِّفاق الكبار. وهذا كله تفصيل أصحابنا، وصحيح مذهب مالك. ولو جعل الطريق في كل محل سبع أذرع لأضر ذلك بأملاك كثير من الناس. ويلزم أن تجعل بنيَّات الطرق من الأزقة وغيرها كالأمهات المسلوكة للناس، وكطرق الفيافي. وذلك محالٌّ عادي، وفساد ضروري.