الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(20) كتاب الصَّدقة والهِبَة والحَبس
(1) باب النهي عن العود في الصدقة
[1727]
عَن زَيدِ بنِ أَسلَمَ، عَن أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قَالَ: حَمَلتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ،
ــ
(20)
كتاب الصَّدقة والهِبَة والحَبس
(1)
ومن باب: النهي عن العود في الصدقة
قول عمر رضي الله عنه حملت على فرس عتيق في سبيل الله يعني أنه تصدَّق به على رجل ليجاهد عليه ويتملَّكه، لا (1) على وجه الحبس؛ إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه، وقد وجده عمر رضي الله عنه في السوق يباع، وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تبتعه، ولا تَعُد في صدقتك، فدلَّ على أنه ملكه إيَّاه على جهة الصَّدقة ليجاهد عليه في سبيل الله.
والعتيق من الخيل: الكريم الأبوين. وسبيل الله: الجهاد هنا - وهو العُرف فيه.
وقوله فأضاعه صاحبه؛ أي: فرَّط فيه، ولم يحسن القيام عليه. وهذا
(1) ليست في (ج 2).
فَظَنَنتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخصٍ، فَسَأَلتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ فَقَالَ: لَا تَبتَعهُ، وَلَا تَعُد فِي صَدَقَتِكَ؛ فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلبِ يَعُودُ فِي قَيئِهِ.
ــ
الذي قلناه أولى من قول من قال إنه حبسٌ في سبيل الله وبيعه إنما كان لما أضاعه صاحبه صار بحيث لا يصلح للجهاد، وهذا هو الذي صار إليه مالك تفريعًا على القول بجواز تحبيس الحيوان أنه يباع إذا هرم ويُستبدل بثمنه في ذلك الوجه المحبس فيه أو يعين بثمنه فيه. والقول الأول أظهر لما ذكرناه، ولأنه لو كان ذلك لسأل عن هذا الفرس هل تغير عن حاله أم لا، ولنظر في أمره.
وقوله فظننت أنه بائعُه بِرُخصٍ، إنَّما ظن ذلك لأنه هو الذي كان أعطاه إيَّاه، فتعلَّق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن، وحينئذ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدَّق به في سبيل الله. ولَمَّا فهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا نهاه عن ابتياعه وسمَّى ذلك عودًا، فقال: لا تبتعه، ولا تَعُد في صدقتك.
واختلف في هذا النَّهي هل يحمل على ظاهره من التحريم؟ ولأنه يفهم من تشبيهه بالكلب التحريم؛ كما قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ} أو على الكراهة لأن تشبيهه بالقيء إنما يدلُّ على الاستقذار والعيافة للنَّفرة الموجودة من ذلك لا أنه يحرم العود في القيء إلا أن يتغير للنجاسة، فحينئذ يحرم لكونه نجاسة (1) لا لكونه قيئًا - والأول في كتاب ابن المواز (2) وقال به الداودي، والثاني عليه أكثر النَّاس.
قلت: ويحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح، فنقول: أما الصَّدقة في السَّبيل أو على المسكين أو على ذي الرَّحم إذا وصلت للمتصدِّق عليه فلا يحل له
(1) في (ع): نجسًا.
(2)
هو محمد بن إبراهيم الإسكندري المالكي: فقيه. من آثاره: مصنف في الفقه. توفي سنة (269 هـ).
وفي رواية أَنَّه حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ - وذكر نحوه.
رواه أحمد (2/ 55)، والبخاري (2971)، ومسلم (1621)، (1 - 3)، وأبو داود (1593)، والترمذي (668)، والنسائي (5/ 109).
ــ
الرُّجوع فيها بغير عوض قولا واحدًا؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالى واستحقها المتصدق عليه وملكها بالصدقة والحوز، فالرجوع فيها أو في بعضها حرام. وأما الرُّجوع فيها بالشراء الذي لا يُحَطُّ عنه من ثمنها شيءٌ فمكروه؛ لأنه قد استرد عينًا أخرجها لله تعالى.
والأولى حمل النهي الواقع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فهم عن عمر ما كان وقع له من أنَّه يبيعه منه بحطيطة من الثمن، وهذا رجوع في بعض عين الصَّدقة، إلا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة، وكأنَّهم رأوا أن هذه عطية مبتدأة من المتصَدَّق عليه أو الموهوب له لأنها عن طيب نفس منه، فكان ذلك للمتصدق أو الواهب مِلكًا جديدًا بطريق آخر. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لمن وهب أمةً لأمِّه فماتت أمُّه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وجب أجرك، وردَّها عليك الميراث (1)، غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء خرج عنه على وجه المعروف، ولا بأهل الدِّين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه، فكان مكروها من هذا الوجه. وهذا نحو مما قررناه في قضيَّة تحرّج المهاجرين من المقام بمكة.
قلت: والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم، فاجمع ألفاظه وتدبر معانيها يلح لك ذلك إن شاء الله تعالى!
(1) رواه مسلم (1149)، والترمذي (667). وذكره الحافظ في فتح الباري (4/ 65) وعزاه لمسلم.
[1728]
وعَن ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَرجِعُ فِي صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الكَلبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيئِهِ فَيَأكُلُهُ.
رواه أحمد (1/ 217 و 349)، والبخاري (2589)، ومسلم (1622)(5)، والترمذي (1298)، والنسائي (6/ 266).
* * *
ــ
وقوله مثل الذي يرجع في هبته (1) كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه، إن كان المراد بالهبة الصدقة كما قد جاء في الرواية الأخرى فقد تكلّمنا عليها، وإن كان المراد مطلق الهبة فهي مخصوصة؛ إذ يخرج منها الهبة للثواب وهبة أحد الأبوين، فأما هبة الثواب فقد قال بها مالك وإسحاق والطبري والشافعي - في أحد قوليه - إذا علم أنه قصد الثواب إما بالتصريح به وإما بالعادة والقرائن كهبة الفقير للغني والرَّجل للأمير، وبها قال أبو حنيفة إذا شرط الثواب، وكذلك قال الشافعي في القول الآخر. وقد روي عنهما وعن أبي ثور منعها مطلقا، ورأوا أنَّها من البيع المجهول الثمن والأجل، والأصل في جواز هبة الثواب ما خرَّجه الدارقطني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثَب منها (2)، قال: رواته كلهم ثقات. والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله، وما خرَّجه مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة لصلة الرَّحم أو على وجه الصَّدقة أنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها (3)، وما خرَّجه الترمذي من
(1) في التلخيص والمخطوط: صدقته. والذي أثبته المصنف رحمه الله هو إحدى روايات مسلم (1622)(7 و 8).
(2)
رواه الدارقطني (3/ 43).
(3)
الموطأ (2/ 755).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حديث أبي هريرة قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة فعوضه منها بعض العوض، فتسخَّطه. وفي رواية: أهدى له بكرة فعوَّضه ستَّ بكرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: إن رجالًا من العرب يُهدي أحدُهم الهديَّة فأعوِّضه منها بقدر ما عندي، فيظل يتسخَّطُ عليِّ! وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من رجل من العرب هديَّة إلا من قرشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثقفيٍّ أو دوسيٍّ (1). وهذا الحديث وإن لم يكن إسناده بالقوي فيعضده كل ما تقدم، وما حكاه مالك من أن هبة الثواب مجتمعٌ عليها عندهم، وكيف لا تجوز وهي معاوضةٌ تشبه البيع في جميع وجوهه (2) إلا وجهًا واحدًا! وهو أن العوض فيها غير معلوم حالة العقد، وإنما سامح الشرع في هذا القدر لأنهما دخلا في ذلك على وجه المكارمة لا المشاحَّة، فعفا عن تعيين العوض فيه كما فعل في نكاح التفويض.
وأما هبة الأب لولده فللأب الرجوع فيها، وإلى ذلك (3) ذهب مالك والشافعي وأبو ثور والأوزاعي، وقد اتفق هؤلاء على أن ذلك للأب، وهل يلحق بالأب الأم والجد؟ اختلف في ذلك قول مالك والشافعي؛ ففي قول: يُقصَرُ ذلك على الأب. وفي قول آخر: إلحاقهما به. والمشهور من مذهب مالك إلحاق الأم، ومن مذهب الشافعي إلحاق الأم والأجداد والجدَّات مطلقا، والأصل في هذا الباب ما خرَّجه النسائي من حديث ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يحل لرجل يعطي عطية يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتَّى إذا شبع قاء ثم عاد في قيئه (4)، وهذا حديث صحيح. وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا
(1) رواه الترمذي (3945).
(2)
في (ع): وجوهها.
(3)
في (ع): هذا.
(4)
رواه النسائي (6/ 268).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن من أعطى ولده عطيَّة ليس بصدقة أن له أن يعتصرها (1)، ما لم يستحدث الولد دينًا أو ينكح فليس للأب الاعتصار. وسبب اختلافهم في إلحاق غير الأب بالأب هو أنَّه هل يتناول الملحق اسم الأبوة أو الوالد أم لا؟ وهل هم في معنى الأب أو يُفرَّق بينهم وبينه؟ فإن للأب من الحق في مال الولد ما ليس لغيره، وله من خصوصية (2) القرب ما ليس لهم.
قلت: أما إلحاق الأم فلا إشكال فيه، وقد أوغل الشافعي في استرجاع الأب لما وهب، ولو تعلَّق بالولد من الدين والتزويج كل طلب، وللأب أن يعتصرها من كل من يقع عليه اسم ولد حقيقة أو مجازا مثل ولده لصُلبه وولد ولده من أولاد البنين والبنات.
وحملت طائفة حديث النَّهي عن الارتجاع في الهبة على عمومه، ولم يستثنوا من ذلك ولدًا ولا غيره، وبه قال طاووس وأحمد، والرجوع عندهم في الهبة محرم مطلقا، والحجة عليهم ما تقدَّم من الحديث وعمل أهل المدينة الدَّالّين على استثناء الأب، وقالت طائفة أخرى: إن المراد بذلك النهي من وهب لذي رحم أو زوج فلا يجوز له الرُّجوع، وإن وهب لغيرهم جاز الرُّجوع - وهو قول الثوري والنخعي وإسحاق، وقصره أبو حنيفة والكوفيون على كل ذي رحم محرم فلا رجوع له فيما يهبه لهم، ويرجع فيما وهبه لغيرهم وإن كانوا ذوي رحم.
قلت (3): وهذه تحكُّمات على ذلك العموم، فيا لله من تلك الفهوم! !
(1) في (ع): يرجع. ومعنى يعتصرها: يرتجعها.
(2)
في (ج 2): حقوق.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).