الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب في جواز ترك الاستخلاف
[1399]
عَن ابنِ عُمَرَ قال: دَخَلتُ عَلَى حَفصَةَ - ونوساتها تنطف - فَقالت: أَعَلِمتَ أَنَّ أَبَاكَ غير مُستَخلِفٍ؟ قال: قلتُ: مَا كَانَ لِيَفعَلَ! قالت: إِنَّهُ فَاعِلٌ! قال: فَحَلَفتُ أَنّ أُكَلِّمُهُ فِي ذلك، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوتُ فَلَم أُكَلِّمهُ. قال: فَكُنتُ كَأَنَّمَا أَحمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا، حَتَّى رَجَعتُ فَدَخَلتُ عَلَيهِ، فَسَأَلَنِي عَن حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخبِرُهُ. قال: ثُمَّ قلتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعتُ النَّاسَ يَقولونَ مَقالةً فَآلَيتُ أَن أَقولهَا لَكَ؛ زَعَمُوا أَنَّكَ غير مُستَخلِفٍ وَأنَّهُ لَو كَانَ لَكَ رَاعِي غَنَمٍ أَو رَاعِي إِبِلٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيتَ أَنه قَد ضَيَّعَ،
ــ
(2)
ومن باب: جواز ترك الاستخلاف
قوله ونوساتها تنطف، النّوسات: ما تحرك من شعر أو غيره متدليًا. والنَّوسُ: تحرُّك الشيء متذبذبًا - يقال منه: ناس، ينوس، نوسًا، ونوسانًا. ومنه: ذو نواس، سُمِّي بذلك لذؤابته؛ كانت تنوس على ظهره.
ونطف الشَّعرُ وغيره ينطِف وينطُف: إذا قطر. وليلةٌ نَطُوف: دائمةُ القطر. وكأنَّه دخل عليها وقد اغتسلت.
وقول ابن عمر كأنما أحمل بيميني جبلًا؛ يعني (1) أنه وجد من الثقل بسبب اليمين التي حلفها كثقل مَن يحمل جبلًا، هو تشبيه واستعارة.
وقوله زعموا أنك غير مستخلف، هذا إنما قاله الناس حين طعن عمر وسقوه لبنًا فخرج من طعنته رضي الله عنه فيئسوا منه، وعلموا أنه هالك، فجرى ذلك.
وقوله لو كان راعي غنم. . . إلى آخر الكلام - فيه من الفقه استعمال
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع) و (ج).
فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ! قال: فَوَافَقَهُ قولي، فَوَضَعَ رَأسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ فَقال: إِنَّ اللَّهَ يَحفَظُ دِينَهُ، وَإِنِّي إن لَا أَستَخلِف فَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يَستَخلِف،
ــ
القياس، فإنه قَرَّرَ على الأصل المعلوم، وهي رعاية الغنم والإبل، ثم حمل عليه رعاية الناس ورأى أنها أولى، فكانَّ ذلك إلحاق مسكوتٍ عنه بمنطوقٍ به على طريق الأَولى، وهو نوع من أنواع الإلحاق كما يعرف في موضعه.
وقوله فوافقه قولي؛ يعني أنه مال إليه ونظر فيه، ولذلك وضع عمر رأسه يفكر في المسألة، ثم لَمَّا لاح له نَظَرٌ آخر أخذ يُبدِيه، فرفع رأسه وقال: إن الله يحفظ دينه، وإنما قال ذلك للذي قد علمه من قوله تعالى:{لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ومن قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ، ولغير ذلك مما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم من استيلاء المسلمين وما يفتح الله تعالى عليهم من المشارق والمغارب، ومن قوله إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أُمَّتِي سيبلغ ما زوى لي منها (1)، وغير ذلك.
وقوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف؛ أي: لم ينصّ على خليفة، لا على أبي بكر ولا على غيره، وهذا هو مذهب جماعة من أهل السُّنة والصحابة ومن بعدهم.
وقد ذهب بكر ابن أخت عبد الواحد إلى أن تقديم أبي بكر كان بالنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب ابن الراوندي إلى أنه نصّ على العباس، وذهب الشيعة والرافضة (2) إلى أنه نصّ على عليّ، وكل ذلك أقوال باطلة قطعًا؛ إذ لو كان ذلك لكان المهاجرون والأنصار أعرف بذلك، فإنهم اختلفوا في ذلك يوم السَّقيفة، وقال كل واحد منهم ما عنده في ذلك من النظر، ولم ينقل منهم أحدٌ نصًّا على
(1) رواه مسلم (2889)، وابن ماجه (3952).
(2)
في (ج): والروافض.
وَإِن أَستَخلِف فَإِنَّ أَبَا بَكرٍ قَد استَخلَفَ. قال: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَن ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكرٍ فَعَلِمتُ أَنَّهُ لَم يَكُن لِيَعدِلَ بِرسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا، وَأَنَّهُ غير مُستَخلِفٍ.
رواه البخاري (4108)، ومسلم (1823)(12)، وأبو داود (2939)، والترمذي (2226).
[1400]
وعَنه قال: حَضَرتُ أبي حِينَ أُصِيبَ، فَأَثنَوا عَلَيهِ وَقالوا: جَزَاكَ اللَّهُ خَيرًا. فَقال: رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ! قالوا: استَخلِف. فَقال:
ــ
رجل بعينه، ولو كان عندهم نصٌّ لاستحال السكوت عليه في مثل ذلك الوقت العظيم والخطب المهم الجسيم والحاجة الفادحة، مع عدم التقية والتواطُؤ من ذلك الجمع على الكتمان. ومدعي النص في ذلك كاذب قطعًا، فلا يُلتَفَتُ إليه.
وكل من ذكر له خلاف في هذه المسألة لا يُعتَدُّ بخلافه، فإنه إما مُكَفِّر وإما مُفَسِّق مُبَدَّع، ومن كان كذلك لا يعتد بخلافه (1)، والمسألة إجماعية قطعية، والله الموفق.
وقوله وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف؛ يعني أن أبا بكر استخلفه ونصّ عليه وعيَّنه، وهذا لا خلاف في أن الأمر كذلك وقع ولا في أنَّ هذا طريق مشروع في الاستخلاف.
ثم إن عمر رضي الله عنه سلك طريقا بين طريقتين جمعت له الاقتداء بهما، فاقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لم ينصّ على واحدٍ بعينه فصدق عليه أنه غير مستخلف، واقتدى بأبي بكر من حيث إنه لم يترك أمر المسلمين مهملًا، فإنه جعل الأمر شورى في ستة ممن يصلح للخلافة وفوّض التعيين لاختيارهم.
وقوله راغب وراهب هذا خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أنتم على هذين
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
أَتَحَمَّلُ أَمرَكُم حَيًّا وَمَيِّتًا! لَوَدِدتُ أَنَّ حَظِّي مِنهَ الكَفَافُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَإِن أَستَخلِف فَقَد استَخلَفَ مَن هُوَ خَيرٌ مِنِّي - يَعنِي أَبَا بَكرٍ - وَإِن أَترُككُم فَقَد تَرَكَكُم مَن هُوَ خَيرٌ مِنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عَبدُ اللَّهِ: فَعَرَفتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مُستَخلِفٍ.
رواه مسلم (1823)(11).
* * *
ــ
الحالين، أو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: منكم راغب، ومنكم راهب. ثم ما الذي رغبوا فيه ورهبوا منه؟ وظاهره أنه الثناء المتقدّم الذي أثنوا عليه؛ أي: منهم من رغب في الثناء لغرض له، ومنهم من رغب عنه لما يخاف منه. وقيل: راغب في الخلافة لنيل منصبها، وراهب منها لعظيم حقوقها وشدّتها. وقيل: تقديره أنا راغب في الاستخلاف لئلا يضيع المسلمون، وراهب منه لئلا يفرّط المستخلَف ويقصر فيما يجب عليه من الحقوق - وكلٌّ محتمل، والله تعالى أعلم.
وقد حصل من هذا الحديث أنَّ نَصبَ الإمام لا بدَّ منه، وأن لنصبه طريقين؛
أحدهما: اجتهاد أهل الحل والعقد.
والآخر: النصُّ؛ إما على واحدٍ بعينه، وإما على جماعة بأعيانها ويفوّض التخيير إليهم في تعيين واحد منهم - وهذا مما أجمع عليه السَّلف الصالح، ولا مبالاة بخلاف أهل البدع في بعض هذه المسائل، فإنهم مسبوقون بإجماع السلف، وأيضًا: فإنهم لا يُعتدُّ بخلافهم على ما تقدَّم.
* * *