الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب تغليظ أمر الغلول
[1410]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ فَذَكَرَ الغُلُولَ وَعَظَّمَ أَمرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ من الله
ــ
والأجر الأكبر، وإن كان غير ذلك طالبه كلُّ واحدٍ من رعيته بحقِّه فكثر مُطالبوه وناقشه محاسبوه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: مَا مِن أمير عشرة فما فوقهم إلا ويُؤتى به يوم القيامة مغلولًا؛ فإما أن يفكّه العدلُ، أو يُوبقُه الجور (1)، وقد تقدّم قوله صلى الله عليه وسلم من استرعي رعية فلم يجتهد لهم ولم ينصح لم يدخل معهم الجنّة (2).
(5)
ومن باب: تغليظ أمر الغلول
وهو في الأصل الخيانة مطلقا، ثم صار بحكم العرف عبارة عن الخيانة في المغانم، قال نَفطَوِيه: سِّمي بذلك لأن الأيدي تغل عنه - أي تُحبس، يقال: غل غلولًا، وأغل إغلالًا.
وقوله لا أُلفِيَنَّ أحدَكم يوم القيامة يجيء على رقبته بعير، هكذا صحيح الرواية لا ألفين بالفاء، ومعناه: لا يأخذنَّ أحدٌ شيئًا من المغنم فأجده يوم القيامة على تلك الحال - وهذا مثل قول العرب: لا أرينَّك ها هنا؛ أي: لا تكن ها هنا فأراك. وقد رواه العذري بالقاف من اللقاء، وله وجه، وجاء في الحديث الآخر لا أعرفنَّ (3)، والمعنى متقارب، وبعض الرواة يقوله لأعرفنَّ بغير مدٍّ على أن تكون لام القسم، وفيه بُعدٌ، والأول أوجه وأحسن.
(1) رواه أحمد (2/ 431)، وانظره في المجمع (4/ 192)، والترغيب والترهيب (3249).
(2)
تقدم تخريجه في التلخيص برقم (110).
(3)
رواه ابن ماجه (21) و (1528).
شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ! لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ! لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ! لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ! لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخفِقُ فَيَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ
ــ
والرُّغَاء للإبل، والثُّغاء للغنم، والنُّهيق للحمير، والنُّعاق للغراب، واليُعار للمعز خاصة - ومنه شاة تيعر، والحَمحَمَةُ للفرس، والصِّياح للإنسان؛ كل ذلك أصواتُ مَن أُضيفت إليه.
وقوله ورقاع تخفق؛ أي: تحركها الرياح فتضطرب وتصفق فيها، والصَّامت الذهب والفضة.
وكأنّ هذا الحديث تفصيلُ ما أجمله قوله تعالى: {وَمَن يَغلُل يَأتِ بِمَا غَلَّ يَومَ القِيَامَةِ} ؛ أي: يأت به مُعذَّبًا بحمله وثقله ومرعوبًا بصوته، ومُوَبَّخًا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد، وهذا يدلُّ على أن الغلول كبيرة من الكبائر.
وأجمع العلماء على أن على الغالّ أن يردّ الغلول إلى المقاسم قبل أن يتفرَّق الناس، فأما إذا تفرَّقوا ففات الردُّ فذهب معظمهم إلى أنه يدفع خمس ما أغلَّ للإمام ويتصدق بالباقي، وهو قول الحسن ومالك والأوزاعي والثوري والليث، وروي معناه عن معاوية وابن مسعود وابن عباس وأحمد بن حنبل، وقال الشافعي: ليس له الصدقة بمال غيره.
ثم اختلفوا فيما يُفعل بالغالّ؛ فالجمهور على أنه يعزّر بقدر اجتهاد الإمام
شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ! لَا أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رسول الله أَغِثنِي! فَأَقُولُ: لَا أَملِكُ لَكَ شَيئًا، قَد أَبلَغتُكَ!
رواه أحمد (2/ 426)، والبخاريُّ (3073)، ومسلم (1831)(24).
* * *
ــ
ولا يحرّق رَحلُهُ، ولم يثبت عندهم ما روي عن ابن عمر من أنه يُحرّق رحلُهُ ويُحرم سهمه؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم، وهو ضعيف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحرِّق رَحلَ الذي وجد عنده الخرزة والعباءة. وقال قوم بمقتضى ذلك الحديث: يُحَرَّقُ رحلُه ومتاعُه كله - وهو قول مكحول والحسن والأوزاعي، وقال: إلا سلاحه وثيابه التي عليه. وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف. قال الطحاوي: ولو صحّ حديث ابن عمر لَحُمل على أنه كان ذلك لَمَّا كانت العقوبة في الأموال، وذلك كله منسوخ.
وقوله لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ؛ أي: لا أملك لك مغفرةً ولا شفاعةً إلَاّ إذا أذن الله له في الشفاعة، فكأنَّ هذا القول منه أبرزه غضب وغيظ، ألا ترى قوله قد أبلغتك أي ليس لك عذر بعد الإبلاغ.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما قد جبله الله تعالى عليه من الرأفة والرَّحمة والخلق الكريم لا يزال يدعو الله تعالى ويرغب إليه في الشفاعة حتى يأذن الله تعالى له في الشفاعة، فيشفع في جميع أهل الكبائر من أمته حتى تقول خزنة النار: يا محمد، ما تركت لربك في أمتك من نقمة (1)، كما قد صحّ عنه.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن العقوبات في الآخرة تناسب الذنوب المكتسبة في الدنيا، وقد تكون على المقابلة، كما يحشر المتكبرون أمثال الذر في صور الرجال.
(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الأهوال" كما في النهاية لابن كثير (2/ 204 - 255).