الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(36) باب الشفعة
[1700]
عَن جَابِرٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفعَةِ فِي كُلِّ شِركَ
ــ
منه لمن لم يتب. وسبب هذا كلِّه: أن اليمين الكاذبة يمين غموس، يؤكل بها مال المسلم بالباطل.
و(قوله: إيَّاكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق)(إياكم) معناه: الزَّجر، والتحذير. و (كثرة) منصوب على الإغراء، كما تقول: إياك والأسد؛ أي: احذره واتقه. وإنما حذر من كثرة الحلف؛ لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور، وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث، أو النَّدم؛ لأن اليمين حنث أو مندمة. وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها، والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري، مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم، بل على جهة مدح السِّلعة، فاليمين على ذلك تعظيم للسِّلع، لا تعظيم لله تعالى. وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد.
(36)
ومن باب: الشفعة
(قوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشُّفعة في كل شرك لم يُقسَم) أي: حكم، وألزم.
والشُّفعة في اللغة: هي الضم، والجمع، كما قدمناه في الإيمان. وهي في عرف الشرع: أخذ الشريك الجزء الذي باعه شريكه من المشتري بما اشتراه به، وهي حق للشريك على المشتري، فيجب عليه أن يُشفِعَهُ، ولا يحل له الامتناع من ذلك.
و(الشرك): النصيب المشترك. وقد يقال على الشريك، كقوله تعالى:{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} ؛ أي: شريكًا. ويدل على أن الشفعة إنما
لَم يُقسَم رَبعَةٍ أَو حَائِطٍ
ــ
تستحق بالاشتراك في رقبة الملك، لا باستحقاق منفعة في الملك، كممر طريق، ومسيل ماء، واستحقاق سكنى؛ لأن كل ذلك ليس بشرك.
و(قوله: لم يقسم) يفيد أن الشفعة لا تجب إلا بالجزء المشاع؛ الذي يتأتى إفرازه بالقسمة، فلا تجب فيما لا ينقسم، كالحمَّام، والرَّحا، وفحل النخل، والبئر، وما أشبه ذلك مما لا ينقسم. وأعني بكونه لا ينقسم: أنه لو قسم لبطلت المنفعة المقصودة منه قبل القسم. كالحمَّام إذا قسم بطل كونه حمامًا، وكذلك الرَّحا. وهذا هو مشهور المذهب. وقيل: تجري الشفعة في ذلك لأنه وإن بطل كونه حمامًا فيصح أن ينقسم بيوتًا مثلًا، أو دكاكين. والظاهر الأول، وهو قول ابن القاسم؛ لأنه يلزم من قسمه إفساد مالية عظيمة، وذلك ضرر عظيم فيدفع.
و(قوله: رَبعَة، أو حائط، أو أرض) الرواية الصحيحة فيه بخفض ربعة وما بعده على البدل من: (كل شرك) فهو تفسير له، وتقييد. والرَّبعة: تأنيث الرَّبع. وهو: المنزل. ويجمع ربوعًا، وإنما قيل للمنزل ربع؛ لأن الإنسان يربع فيه؛ أي: يقيم. يقال: هذه ربع، وهذه ربعة. كما يقال: دار، ودارة (1). والحائط: بستان النخل. والأرض يعني بها: البراح الذي لا سكن فيها ولا شجر، وإنما هي معدَّة للزراعة.
وقد دلَّ هذا الحديث: على أن الشفعة إنما تستحق في العقار المشترك الذي يقبل القسمة. وهذا هو المحل المتفق على وجوب الشفعة فيه. واختلف فيما عدا ذلك. فذهب بعض المكيين (2) إلى وجوبها في كل شيء من العقار، والحيوان، والعروض، والأطعمة. وإليه ذهب عطاء في إحدى الروايتين عنه معتمدًا في ذلك
(1) ما بين حاصرتين مستدرك من (م).
(2)
في (ج 2): المالكيين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على ما خرَّجه الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا: (الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء)(1). وروى الطحاوي نحوه مرفوعًا، ومُتمسِّكًا في ذلك بقياس غير العقار عليه، بعلِّة وجود الاشتراك، ولا حجة في ذلك؛ لأن الحديث ليس بصحيح الإسناد. وإنما صحيحه مرسل، ولو سلمنا صحته، لكنه مقيّد بما ذكرناه من قوله:(ربعة، أو حائط، أو أرض). ومثل هذا التقييد متفق على قبوله عند أهل الأصول؛ لأنه قد اتفق فيه الموجب والموجب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الشفعة فيما لم يقسم: ربعة، أو حائط، أو أرض). فأتى بـ (إنَّما) التي هي للحصر. وهو أيضًا مفهوم من الألف واللام في قوله: (الشفعة فيما لم يقسم) وبدليل: زيادة البخاري في هذا الحديث: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)(2) وهذا نصٌّ في أن الشفعة مخصوصة بما ذكر في ذلك الحديث. وأما ذلك القياس: فليس بصحيح لوجود الفرق بين الفرع والأصل، فإن الأصل الذي هو العقار يعظم الضرر فيه على الشريك بمشاركة الأجنبي له، ومخالطته، فقد يؤذيه، ولا يقدر على التخلص منه لصعوبة بيع العقار، وتعذر ذلك في أكثر الأوقات، وليست كذلك العروض، وما ينقل ويحوَّل، فإن الانفصال عن الشركة فيه يسير لسهولة بيعها، والخروج عنها في كل الأوقات، وأكثر الحالات؛ فانفصلا، فلا يصح القياس. وإذا ثبت: أن الشفعة شرعت لرفع الضرر الكثير اللازم. فهل الوصفان جزءا علَّة، فلا تجري الشفعة إلا فيما اجتمعا فيه، أو يكون كل واحد منهما علّة مستقلة؟ فيه احتمال. وعليه ينبني الخلاف الذي عند أصحابنا في الشفعة في الثمرة، والدِّيون، وكتابة المكاتب، والكراء، والمساقاة. فإن الضرر فيها يعظم، وإن لم يلازم. فمن رأى أنه علَّة مستقلة أوجب الشفعة، ومن رأى أن العلَّة مجموع الوصفين منعها في ذلك
(1) رواه الترمذي (1371).
(2)
رواه البخاري (2213).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كله. وذهب الشعبي: إلى أنه لا شفعة في مشاع لا يسكن. وقال ابن شعبان مثله عن مالك. فلا شفعة على هذا في أرض، ولا عقار يتخذ للغلَّة. وهو مخالف للحديث المتقدم. فإنه قد نص فيه على الحائط. وهذا المتخذ للغلَّة. وعلى الأرض، وهي تراد للزراعة. والصحيح: الأول.
وذهب الجمهور: إلى أن الشفعة لا تجب في الجوار؛ وهو مذهب عمر، وعلي، وعثمان، ومن بعدهم، كسعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب أبو حنيفة والكوفيون: إلى أنه تجب به الشفعة، وبه قال ابن مسعود. وسببهما معارضة حديثين صحيحين:
أحدهما: حديت جابر المتقدم. وقد خرَّجه البخاري. ولفظه فيه: (الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة)(1).
وثانيهما: خرَّجه البخاري عن أبي رافع قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه)(2). وقد خرَّجه الترمذي من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بشفعته، ينتظر إن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا)(3). وقد تأوَّل بعض العلماء (الجار) في حديث البخاري بأنَّه الشريك، كما قد تأول بعضهم: أن (الصقب) المذكور فيه حق الجوار، كما قال في الحديث الآخر: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لي جارين. فإلى أيُّهما أُهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك بابا)(4). وهذان التأويلان فيهما بُعدٌ. فإن حديث الترمذي ينصّ على خلاف ذلك. وأشبه ما
(1) هو الحديث السابق.
(2)
رواه البخاري (6977 - 6981).
(3)
رواه الترمذي (1369).
(4)
رواه البخاري (2259).
لَا يَحِلُّ لَهُ أَن يَبِيعَ حَتَّى يُؤذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِن شَاءَ أَخَذَ، وَإِن شَاءَ تَرَكَ،
ــ
يقال في ذلك - فيما يظهر لي -: إن حديث جابر الأول أرجح، لما قارنه من عمل الخلفاء، وجمهور العلماء، وأهل المدينة، وغيرهم، والله تعالى أعلم.
وأيضًا فإن أحاديث الجمهور مشهورة متفق على صحتها. وأحاديث الكوفيين ليست بمنزلتها في ذلك، فهي أولى.
تفريع: قال سفيان: الشريك أولى بالشفعة، ثمَّ الجار الذي حدُّه إلى حدَّه. وقال أبو حنيفة: الشريك في الملك، ثم الشريك في الطريق، ثم الجار الملاصق، ولا حق للجار الذي بينك وبينه الطريق.
و(قوله: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه) وفي طريق أخرى: (لا يصلح) مكان: (لا يحل). هو محمول على الإرشاد إلى الأولى، بدليل قوله:(فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به). ولو كان ذلك على التحريم لذمَّ البائع، ولفسخ البيع، لكنه أجازه وصحَّحه، ولم يذمّ الفاعل، فدلَّ على ما قلناه. وقد قال بعض شيوخنا: إن ذلك يجب عليه.
و(قوله: فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك) يعني: إن شاء أخذ الشقص (1) بما أعطي به من الثمن؛ لأنه أحق به بعد البيع، فيكون له بما أعطي به من الثمن قبله. وفيه دليل: على أن من نزل عن الشفعة قبل وجوبها لزمه ذلك إذا وقع البيع، ولم يكن له أن يرجع فيه. وبه قال الثوري، وأبو عبيد، والحكم. وهي إحدى الروايتين عن مالك، وأحمد بن حنبل. وذهب مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة (2)، وعثمان البتي، وابن أبي ليلى: إلى أن له الرُّجوع في ذلك، وهذا الخلاف جار في كل من أسقط شيئًا قبل وجوبه، كإسقاط الميراث قبل موت
(1)"الشقْص": القطعة من الشيء.
(2)
زاد في (ج 2) والشافعي.
فَإِذَا بَاعَ وَلَم يُؤذِنهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
وفي رواية: مَن كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبعَةٍ أَو نَخلٍ، فَلَيسَ لَهُ أَن يَبِيعَ حَتَّى يُؤذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِن رَضِيَ أَخَذَ، وَإِن كَرِهَ تَرَكَ.
ــ
المورث، وإجازة الوارث الوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة وكسوة في السَّنة القابلة. ففي كل واحدة من تلك المسائل قولان.
و(قوله: وإن باع فهو أحق به) يعني: أن الشريك أحق به بالثمن الذي اشتراه به المشتري من عين أو عرض، نقدا أو إلى أجل. وهو قول مالك وأصحابه. وذهب أبو حنيفة والشافعي: إلى أنَّه لا يشفع إلى الأجل، وأنه إن شاء شفع بالنقد، وإن شاء صبر إلى الأجل، فيشفع عنده. واختلف أصحابنا إذا لم يعلم الشفيع إلا بعد حلول الأجل. هل يضرب له مثل ذلك الأجل، أو يأخذه بالنقد؛ على قولين.
و(قوله: من كان له شرك) عموم في المسلم وفي الذمِّي. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. وحكي عن الشعبي، والثوري: أنه لا شفعة للذمِّي؛ لأنه صاغر. وهو قول أحمد. والصواب: الأول للعموم، ولأنَّه حق جرى بسببه، فيترتب عليه حكمه من استحقاق طلبه وأخذه، كالدَّين، وأرش الجناية.
و(قوله في حديث البخاري: فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) حجة للجمهور على الكوفيين القائلين بوجوب الشفعة لجار الدار. وقد ذهب بعض شيوخنا: إلى أن حديث الترمذي في شفعة الجار محمول على الندب، لا على الوجوب.
قلت: أحاديث الشفعة إنما جاءت في انتقال الملك بالبيع، ويلحق به ما في معناه من المعاوضات، كدفع الشَّقص في صداق، أو أجرة، أو أرش جناية، وما أشبه ذلك. فهذا فيه الشفعة. ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه من أقوى مراتب
وفي أخرى: الشُّفعَةُ فِي كُلِّ شِركٍ فِي أَرضٍ، أَو رَبعٍ، أَو حَائِطٍ. وذكر نحو الأول.
رواه أحمد (3/ 296)، والبخاريُّ (2213)، ومسلم (1608)، وأبو داود (3514)، والترمذيُّ (1370)، والنسائيُّ (7/ 321)، وابن ماجه (2499).
* * *
ــ
الإلحاق. وأما انتقال الملك بالميراث فلا شفعة فيه؛ لأنه لا يصح إلحاقه بالمعاوضات؛ لأنه انتقال في (1) غير عوض؛ ولا اختيار، فلا شفعة فيه بوجه. وقد حكي الاتفاق على ذلك، غير أنه قد انفرد الطابقي (2) فحكى عن مالك: أنه رأى الشفعة في الميراث. وهو قول شاذّ، منكر نقلًا ونظرًا.
واختلف في المنتقل بالهبة، والصدقة. هل فيه شفعة أو لا؟ على قولين مشهورين. سببهما: تردّد الصدقة والهبة بين المعاوضات والميراث. فمن حيث إنه انتقال عن اختيار يشبه البيع، ومن حيث إنه خلي عن العوض أشبه الميراث. والأولى - والله أعلم - إجراء الشفعة فيها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(الشفعة في كل شرك لم يقسم) ولم يفرق بين جهات الأملاك. وللحوق الضرر الشديد الملازم الداخل على الشريك اختيارًا. ولا يُرَدُّ الميراث؛ لأنَّه ملك جبري، لا اختيار فيه للمنتقل إليه، والله تعالى أعلم.
* * *
(1) في (ج 2): عن.
(2)
في (ع) و (ج 2): الطابثيُّ.