الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب فيمن نحل بعض ولده دون بعض
[1729]
عَن النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي قد نَحَلتُ ابنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلتَهُ مِثلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَارجِعهُ.
وفي رواية: فرده.
ــ
(2)
ومن باب: من نحل بعض ولده دون بعض
حديث النعمان بن بشير في هذا الباب كثرت طرقه فاختلفت (1) ألفاظه، حتَّى لقد قال بعض الناس: إنَّه مضطرب - وليس كذلك؛ لأنه ليس في ألفاظه تناقض، بل يمكن الجمع بينها على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
وقوله إني نَحَلتُ ابني هذا غلامًا، كان هذا النُّحل منه بعد أن سألته أمُّه - وهي عمرة بنت رواحة - بعض الموهبة من ماله، كما قال قد جاء في الرواية الأخرى.
ونحلت: أعطيت. والنحلة: العطية بغير عوض. والنحل: الشيء المنحول. والموهبة رواية أبي عيسى، وهي مصدرٌ مزيدٌ من وهب يهب هبة وموهبة، وهي هنا بمعنى الشيء الموهوب، وعند كافة الرواة: الموهوبة - أي: بعض الأشياء الموهوبة. وجاء في الرواية الأخرى وهبت بدل نحلت، وهو بمعناه. وفي رواية: قال النعمان: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فسمَّي ذلك صدقة تجوزا، فأمَّا أبوه بشير فسمَّاها نحلة وهبة حقيقة، وهو أعلم بنيَّته وأثبت في قضيَّته؛ لأن النعمان إذ ذاك كان غلامًا.
وقوله أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ تنبيه على أن الإنسان إذا أعطى بنيه
(1) في (م): باختلاف.
وفي رواية: أَفَعَلتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعدِلُوا فِي أَولَادِكُم - فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلكَ الصَّدَقَةَ.
رواه البخاري (2586)، ومسلم (1623)(9 و 12 و 13)، والنسائي (6/ 258).
ــ
سوَّى بينهم ذكرهم وأنثاهم، وأن ذلك الأفضل، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن بن القصار من أصحابنا وجماعة من المتقدِّمين، وذهب آخرون منهم عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وابن شعبان من أصحابنا - إلى أن الأفضل للذكر مثل حظ الأنثيين على قسمة الله تعالى المواريث.
وقوله في الرِّواية الأخرى أفعلت هذا بولدك كلهم؟ ، هذه الرواية بمعنى اللفظ الأول، فهو نقل بالمعنى. وكان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله فقال له ألك ولدٌ غيره؟ كما جاء في الرواية الأخرى، فلما أجابه عن قوله أفعلت هذا بولدك كلهم؟ بقوله لا قال اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، وحينئذ قال: لا تشهدني لا يصلح هذا، أشهد غيري فإني لا أشهد على جَور، وفي الرواية الأخرى فإني لا أشهد إلا على حق، وهي بمعنى لا أشهد على جَور. وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم لما سأله بشير أن يشهد على الهبة، كما قال: إن ابنة رواحة أعجبها أن أشهدك على ما وهبت لابنها، ثم نبهه صلى الله عليه وسلم على علَّة أمره بالتسوية بينهم بقوله أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ قال: نعم. قال: فلا إذًا. وإذا تأملت هذا تبيَّنتَ ألا اضطراب في الروايات وانتظام ما يظهر في بادئ الأمر من الشَّتات، ولما تبيَّن هذا تعيَّن أن نبحث عمَّا فيه من الأحكام، والله المستعان.
فأول ذلك أنَّه لا يجوز أن يخصَّ بعض ولده بعطاء ابتداء، وهل ذلك على جهة التحريم أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم، وإلى التحريم ذهب طاووس،
[1730]
وعنه أَنَّ أُمَّهُ ابنة رَوَاحَةَ سَأَلَت أَبَاهُ بَعضَ المَوهِبَةِ مِن مَالِهِ لِابنِهَا، فَالتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَت: لَا أَرضَى حَتَّى تُشهِدَ
ــ
ومجاهد والثوري وأحمد وإسحاق، وأن ذلك يُفسَخُ إن وقع. وذهب الجمهور - مالك في المشهور عنه، والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم - إلى أن ذلك لا يُفسَخ إذا وقع، وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك ولو أعطاه ماله كله. وحكى غيره عن مالك أنَّه إن أعطاه ماله كله ارتجعه. قال سحنون: من أعطى ماله كله ولدًا أو غيره ولم يبق له ما يقوم به لم يجز فِعله. فمن قال بالتحريم تمسَّك بظاهر النهي وأيده بقوله: لا يصلح هذا، ولا أشهد على جور، وبقوله: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم وبأمره بردّ ذلك. ومن قال بالكراهة انصرف عن ذلك الظاهر بقوله أشهد على هذا غيري. قال: ولو كان حرامًا لما قال هذا. وأنه إنما كان يذمُّ من فَعَلَه ومن يشهد فيه ويغلِّظ عليه كعادته في العقود المحرَّمة، وبقوله أيسرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ ؛ فإنه نبَّه على مراعاة الأحسن. وبأن أبا بكر رضي الله عنه نحل عائشة رضي الله عنها جادَّ (1) عشرين وسقًا من ماله بالغابة ولم ينحل غيرها من ولده شيئًا من ذلك، ولأن الأصل جواز تصرُّف الإنسان في ماله مطلقا. وتأول هؤلاء ما احتجَّ به المتقدِّمون من قوله صلى الله عليه وسلم لا يصلح هذا وأن ذلك جَور على أن ذلك على الكراهة؛ لأن من عدل عن الأولى والأصلح يصدق عليه مثل ذلك الإطلاق، لأنه مما لا ينبغي أن يُقدِم عليه، ولذلك لم يشهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أمره بالارتجاع بذلك لأنه يجوز للأب أن يرجع فيما وهب ولده كما تقدَّم، وهو يدل على صحَّة الهبة المتقدمة كما قال صلى الله عليه وسلم: مُره فليراجعها (2)، وكان ذلك دليلًا على صحة الطلاق الواقع في الحيض. وللطائفة الأولى أن تنفصل عن ذلك المنع: أن قوله
(1) أي: نحلها نخلًا كان يجُدُّ (يقطف) منها كل سنةٍ عشرين وسقًا.
(2)
رواه أحمد (2/ 54)، والبخاري (5251)، ومسلم (1471)(2).
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا وَهَبتَ لِابنِي! فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَومَئِذٍ غُلَامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا ابِنة رَوَاحَةَ أَعجَبَهَا أَن
ــ
أشهد على هذا غيري ليس إذنًا في الشهادة وإنَّما هو زجرٌ عنها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد سمَّاه جورًا وامتنع من الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه.
وعن قوله أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ أن ذلك تنبيه على الأحسن، فإن ذلك ممنوع، بل ذلك تنبيه على مدخل المفسدة الناشئة عنه وهو العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وعن نُحلِ أبي بكر رضي الله عنه أن ذلك يحتمل أنَّ كان قد نحل أولاده نحلًا يعادل ذلك ولم ينقل، ثم إن ذلك الفعل منه لا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم. وعن التمسك بالأصل أن ذلك غير قادح (1)؛ لأن الأصل الكلِّيّ والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل في حكمه لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص، وقد تقرر في الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص. وعن التأويل (2) أن ذلك مجاز، وهو على خلاف الأصل. وعن الارتجاع بمنع أن يحمل ذلك على الاعتصار؛ فإن لفظ الردِّ ظاهر في الفسخ، كما قال صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ (3)؛ أي: مفسوخ. ويؤيد ذلك قوله فردَّ أبي تلك الصدقة، والصَّدقة لا يعتصرها الأب بالاتفاق.
وعند هذا الانفصال يتبيَّن للناظر أن القائل بالتحريم هو الذي صال (4)، وأمَّا القول بالجواز فلم يظهر له وجه به يجاز.
(1) في (ج 2): صحيح.
(2)
في (ج 2): الثاني.
(3)
رواه أحمد (6/ 73)، والبخاري (2697)، ومسلم (1718)(18)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14).
(4)
أي: غَلَب.
أُشهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبتُ لِابنِهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا بَشِيرُ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَم. فَقَالَ: أَكُلَّهُم وَهَبتَ لَهُ مِثلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَا تُشهِدنِي إِذًا؛ فَإِنِّي لَا أَشهَدُ عَلَى جَورٍ!
ــ
تنبيه: مِن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال إن النهي فيه إنَّما يتناول من وهب ماله كلَّه لبعض ولده، وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه إن الموهوب كان غلامًا فقط، وإنما وهبه له لمَّا سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله، وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مالٌ غيره.
وفي هذا الحديث ما يدل على الاحتياط في العقود بشهادات الأفضل والأكبر، وعلى حضِّ الأب على سلوك الطرق المفضية بابنه إلى برِّه، ويجتنب ما يفضي إلى نقيض ذلك.
وفيه دليل على أن حَوز الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز، ولا يحتاج إلى أن يحوزه غيره؛ فإن النُّعمان كان صغيرا، وقد جاء به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحمله.
قال عياض: ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف بعينه. واختلف المذهب فيما لا يعرف بعينه - كالمكيل، والموزون، وكالدراهم - هل يجزئ تعيينه والإشهاد عليه والختم عليه في (1) الحوز أم لا يجزئ ذلك حتى يخرجها من يده إلى يد غيره؟ وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده.
وكذلك اختلف في هبته له جزءًا من ماله مشاعًا.
قلت: وهذا الحكم إنما ينتزعه من هذا الحديث من حمل قوله فارجعه على الاعتصار.
واختلف العلماء فيما لم يقبض من الهبات هل تلزم بالقول أم لا حتى تقبض؟ فذهب الحسن البصري وحمَّاد بن أبي سليمان وأبو ثور وأحمد بن حنبل إلى أنَّها تلزم بالقول ولا تحتاج إلى حوزٍ كالبيع، وقال أبو حنيفة
(1) في (ج 2): عن.