الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(16) باب لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وعمل صالح
[1438]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَومَ الفَتحِ فَتحِ مَكَّةَ: لَا هِجرَةَ،
ــ
(16)
ومن باب: لا هجرة بعد الفتح
قوله لا هجرة؛ أي لا وجوب هجرة بعد فتح مكة، وإنما سقط فرضها إذ ذاك لقوة المسلمين وظهورهم على عدوهم، ولعدم فتنة أهل مكة لمن كان بها من المسلمين بخلاف ما كان قبل الفتح، فإنَّ الهجرة كانت واجبةً لأمور: سلامة دين المهاجرين من الفتنة، ونُصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلُّم الدين وإظهاره. وقد تقدّم أنه لم يختلف في وجوب الهجرة على أهل مكة من المسلمين. واختلف في وجوبها على من كان بغيرها؛ فقيل: كانت (1) واجبة على كل من أسلم تمسُّكًا بمطلق الأمر بالهجرة وذم من لم يهاجر، وببيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة كما جاء في حديث مجاشع. وقيل: بل كانت مندوبًا إليها في حق غير أهل مكة - حكاه أبو عبيد. ويُستدلُّ لهذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ الذي استشاره في الهجرة إن شأنها لشديد ولم يأمره بها، بل أَذِنَ له في ملازمة مكانه كما يأتي، وبدليل أنَّه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة. وقيل: إنما كانت واجبة على من لم يسلم جميعُ أهلِ بلده لئلا يبقى تحت أحكام الشرك ويخاف الفتنة على دينه.
قلت: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبَّد إلى يوم القيامة، وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر
(1) في (ج 2): هي.
وَلَكِن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا استُنفِرتُم فَانفِرُوا.
رواه أحمد (1/ 226)، والبخاريُّ (1834)، ومسلم (1353) في الإمارة (85)، وأبو داود (2480)، والترمذي (1590)، والنسائي (7/ 146).
[1439]
وعن مُجَاشِعُ بنُ مَسعُودٍ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُبَايِعُهُ عَلَى الهِجرَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الهِجرَةَ قَد مَضَت لِأَهلِهَا، وَلَكِن عَلَى الإِسلَامِ وَالجِهَادِ وَالخَيرِ.
ــ
لتجارة (1) أو غيرها مما لا يكون ضروريًّا في الدِّين كالرُّسل وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك رحمه الله تعالى شهادة من دخل بلاد الهند (2) للتجارة.
وقوله ولكن جهاد ونية؛ أي: ولكن يبقى جهاد ونية، أو جهاد ونية (3) باقيان - أي نية في الجهاد أو في فعل الخيرات، وهذا يدلّ على أن استمرار حكم الجهاد إلى يوم القيامة وأنه لم ينسخ، لكنه يجب على الكفاية، وإنما يتعين إذا دَهَمَ العدوُّ بلدًا من بلاد المسلمين فيتعين على كلِّ مَن تمكن من نصرتهم، وإذا استنفرهم الإمام تعين على كل من استنفره لنصِّ هذا الحديث على ذلك، وهو أمرٌ مُجمَعٌ عليه.
وقوله إن الهجرة قد مضت لأهلها؛ أي ثبتت لمن هاجر قبل الفتح وفازوا بها، وسقطت عن غيرهم لرفع وجوبها عنهم.
وقوله ولكن على الإسلام والجهاد والخير؛ أي ولكن بايع على ملازمة الإسلام والجهاد وفعل الخير أبدًا دائمًا.
(1) هذا الكلام فيه نظر، ومن المعلوم أن أكثر بلاد المسلمين دخلها الإسلام عن طريق التجار المسلمين.
(2)
في إكمال إكمال المعلم: الحرب.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (ع).
رواه أحمد (3/ 438)، والبخاري (4305 و 4306)، ومسلم (1863)(83).
[1440]
وعَن سَلَمَةَ بنِ الأَكوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الحَجَّاجِ فَقَالَ: يَا ابنَ الأَكوَعِ، ارتَدَدتَ عَلَى عَقِبَيكَ؟ تَعَرَّبتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِي فِي البَدوِ.
رواه البخاريُّ (7087)، ومسلم (1862).
ــ
وقول الحَجَّاج لسلمة بن الأكوع أرتددتَ؟ تَعَرَّبت؟ استفهامٌ على جهة الإنكار عليه؛ لأنه خرج من محل هجرته التي هي المدينة إلى البادية التي هي موطن الأعراب، لما كان المعلوم من حال المهاجر أنه يحرم عليه الانتقال منها إلى غيرها لا سيما إن رجع إلى وطنه، فإنّ ذلك محرم بإجماع الأمة على ما حكاه القاضي عياض، وربما أطلق على ذلك رِدَّة كما أطلقه الحجاج هنا، فأجابه سلمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في ذلك، فكان ذلك خصوصًا في حقه.
وتَعَرَّبت أي سكنت مع أعراب البادية، والبدو البادية، وسُمَّيت بذلك لأنها يبدو ما فيها ومن فيها؛ أي: يظهر. أو لأن من خرج إليها من الحاضرة بدا؛ أي: ظهر. والحاضر أصله: النازل على الماء، كما قال (1):
مِن سَبَأَ الحاضرين مَأرِبَ إذ
…
يَبنُونَ مِن دون سيلِهِ (2) العَرِمَا
وسُمِّي به أهل القرى والحصون؛ لأنهم لا يرحلون (3) عن ماءٍ يجتمعون عليها.
وسؤال الأعرابيّ عن الهجرة إنما كان عن وجوبها عليه، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم
(1) هو الجعدي.
(2)
في اللسان: سيلها.
(3)
في الأصول: لا يخلون، والمثبت من اللسان مادة:(حضر).
[1441]
وعن أَبُي سَعِيدٍ الخدري أَنَّ أَعرَابِيًّا سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَن الهِجرَةِ، فَقَالَ: وَيحَكَ! إِنَّ شَأنَ الهِجرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَل لَكَ مِن إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَهَل تُؤدِي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَاعمَل مِن وَرَاءِ البِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَن يَتِرَكَ مِن عَمَلِكَ شَيئًا.
زاد في رواية: فقَالَ: هَل تَحلُبُهَا يَومَ وِردِهَا؟ قَالَ: نَعَم.
رواه أحمد (3/ 14)، والبخاريُّ (1452)، ومسلم (1865)، وأبو داود (2477)، والنسائي (7/ 143).
* * *
ــ
بقوله إن شأنها لشديد؛ أي: إن أمرها صعبٌ وشروطها عظيمة - ثم أخبره بعد ذلك بما يدلّ على أنها ليست واجبة عليه.
قلت: ويحتمل أن يكون ذلك خاصًّا بذلك الأعرابيِّ لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة، فأشفق عليه ورحمه؛ {وَكَانَ بِالمُؤمِنِينَ رَحِيمًا}
وصدقة الإبل: زكاتُها.
وقوله هل تحلبها يوم وِردِهَا؟ يعني أنهم كانوا إذا اجتمعوا عند ورود المياه حَلَبُوا مواشيهم فسقوا المحتاجين والفقراء المجتمعين على المياه - وقد تقدَّم في كتاب الزكاة.
والبحار هنا يُراد بها القُرى، وقد تقدَّم ذِكرُ ذلك.
وقوله لن يَتِرَكَ أي ينقصك، ومعنى ذلك أنَّه إذا قام بما يتعيّن عليه من الحقوق وبما يفعله من الخير فإن الله تعالى يثيبه على ذلك ولا يضيع شيئًا من عمله أينما كان من الأرض، ولا بُعدَ في أن يُحصِّل الله له ثواب مهاجرٍ بِحُسنِ نِيّته وفعلِهِ الخير، والله تعالى أعلم.