الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(35) باب النَّهي عن الحكرة، وعن الحلف في البيع
[1697]
عَن يَحيَى، - وَهُوَ ابنُ سَعِيدٍ - قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ يُحَدِّثُ: أَنَّ مَعمَرًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن احتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ. فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: فَإِنَّكَ تَحتَكِرُ؟ قَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ مَعمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ هَذَا الحَدِيثَ كَانَ يَحتَكِرُ.
وفي لفظ آخر: لَا يَحتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ.
رواه مسلم (1605)، وأبو داود (3447)، والترمذيُّ (1267).
ــ
(35)
ومن باب: النَّهي عن الحكرة
(قوله: لا يحتكر إلا خاطئ). الاحتكار في اللغة: الادِّخار و (خاطئ): اسم فاعل من: خطئ - بكسر العين، وهمز اللام - يخطأ -بفتح العين - خطئًا في المصدر - بكسر الفاء، وسكون العين -؛ إذا أثم في فعله، على وزن: علم، يعلم، علمًا، والاسم منه: الخطأ - بفتح الخاء، والطاء -. وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأ عامدًا، أو غير عامد. قاله أبو عبيد. وقال: سمعت الأزهري يقول: خطئ: إذا تعمَّد، وأخطأ: إذا لم يتعمَّد، إخطاء، وخطئًا. والخطأ: الاسم.
قلت: وهذا الحديث بحكم إطلاقه، أو عمومه يدل: على منع الاحتكار في كل شيء. غير أن هذا الإطلاق قد تقيّد، أو العموم قد تخصص بما قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّه قد ادَّخر لأهله قوت سنتهم. ولا خلاف في أن ما يدخره الإنسان لنفسه وعياله من قوت، وما يحتاجون إليه جائز لا باس به. فإذًا مقصود هذا منع التجار من الادخار. وإذا ظهر ذلك. فهل يمنعون من ادِّخار كل شيء من الأقوات، والحيوان، والعلوفة، والسَّمن، واللَّبن، والعسل، وغير ذلك - أضر
[1698]
وعَن أَبي هُرَيرَةَ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
ــ
بالناس أو لم يضر - إذا اشتري في أسواقهم، كما قاله ابن حبيب أخذًا بعموم الخبر أو بإطلاقه؟ أو: إنما يمنعون من ادِّخار ما يضر بالناس ادِّخاره عند الحاجة إليه من الأقوات؟ وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو مشهور مذهب مالك. وحملوا النهي على ذلك.
قلت: وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى. لأن ما لا يضر بالناس شراؤه، واحتكاره لا يخطأ مشتريه بالاتفاق. ثم إذا اشتراه وصار ملكه فله أن يحتكره، أو لا يحتكره. ثم قد يكون احتكاره لذلك مصلحة ينتفع بها في وقت آخر. فلعل ذلك الشيء ينعدم، أو يقل، فتدعو الحاجة إليه، فيوجد، فترتفع المضرة، والحاجة بوجوده، فيكون احتكاره مصلحة، وترك احتكاره مفسدة. وأما الذي ينبغي أن يمنع ما يكون احتكاره مضرة بالمسلمين. وأشدُّ ذلك في الأقوات لعموم الحاجة، ودعاء الضرورة إليها؛ إذ لا يتصور الاستغناء عنها، ولا يتنزل غيرها منزلتها. فإن أبيح للمحتكرين شراؤها ارتفعت أسعارها، وعز وجودها، وشحت النفوس بها، وحرصت على تحصيلها، فظهرت الفاقات، والشدائد، وعمت المضار، والمفاسد، فحينئذ يظهر: أن الاحتكار من الذنوب الكبار. وكل هذا فيمن اشترى من الأسواق. فأمَّا من جلب طعامًا؛ فإن شاء باع، وإن شاء احتكر، ولا يعرض له إلا إن نزلت حاجة فادحة، وأمر ضروري بالمسلمين، فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته، فإن لم يفعل جبر على ذلك، إحياء للمهج، وإبقاء للرَّمق. وأما إن كان اشتراه من الأسواق، واحتكره، وأضر بالناس؛ فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به.
و(قول يحيى بن سعيدٍ لسعيد: إنك تحتكر) يدل على أنهم كانوا لا يتسامحون في ترك العمل بما يروُونه من الحديث. وجواب سعيد أن معمرًا كان
الحَلِفُ مَنفَقَةٌ لِلسِّلعَةِ، مَمحَقَةٌ لِلرِّبحِ.
رواه أحمد (2/ 235)، والبخاري (2087)، ومسلم (1607)، وأبو داود (3335)، والنسائي (7/ 246).
[1699]
وعَن أَبِي قَتَادَةَ الأَنصَارِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِيَّاكُم وَكَثرَةَ الحَلِفِ فِي البَيعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمحَقُ.
رواه مسلم (1607)، والنسائي (7/ 246)، وابن ماجه (2209).
* * *
ــ
يحتكر دليل على أن العموم يخصص بمذهب الرَّاوي. وقد أوضحنا هذه الطريقة في الأصول. وذلك منهم محمول على أنهم كانوا يحتكرون ما لا يضر بالناس؛ كالزيت، والأدم، والثياب، ونحو ذلك.
و(قوله: الحَلِفُ مَنفَقَةٌ للسلعة مَمحَقَةٌ للربح) الرواية: مَنفَقَةٌ، مَمحَقَةٌ -بفتح الميم، وسكون ما بعدها، وفتح ما بعدها- وهما في الأصل: مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق؛ أي: الحلف الفاجرة، تنفق السِّلعة، وتمحق بسببها البركة، فهي ذات نفاق، وذات مَحق (1)؛ ومعنى تمحق البركة: أي تذهبها. وقد تذهب رأس المال والربح، كما قال الله تعالى:{يَمحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُربِي الصَّدَقَاتِ} وقد يتعدى المحق إلى الحالف، فيعاقب بإهلاكه، وبتوالي المصائب عليه. وقد يتعدَّى ذلك إلى خراب بيته وبلده، كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذر الدِّيار بلاقع)(2) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما مَحق الحسنات في الآخرة: فلا بدّ
(1) في (ج 2) أي: الحَلِف الكاذبة تنفق السلعة، ثم تمحق البركة، أي: تذهبها.
(2)
رواه البيهقي في شعب الإيمان (4842). وانظر: التركيب والترهيب رقم (2740).