الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْكِتَابُ الْخَامِسُ فِي الرَّهْنِ] [
الْمُقَدِّمَةُ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ]
شَرْحُ كِتَابِ الرَّهْنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِالْإِيقَانِ ذِي اللُّطْفِ وَالْجُودِ وَالْكَرْمِ وَالْإِحْسَانِ رَاهِنِ النَّفْسِ بِمَا كَسَبَتْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْمِيزَانِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى مِنْ أَشْرَفِ الْأَنْسَابِ مِنْ نَسْلِ عَدْنَانَ الشَّفِيعِ الْمُشَفَّعِ لِأَهْلِ الْعِصْيَانِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْحَابِسِينَ أَنْفُسَهُمْ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ.
الْكِتَابُ الْخَامِسُ فِي الرَّهْنِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: الْمُقَدِّمَةُ:
مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَهُوَ أَمْرٌ وَارِدٌ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ وَمَعْنَاهُ مَعَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي قَبْلَهُ كَمَا فَسَّرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، أَيْ: وَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَارْتَهِنُوا رَهْنًا مَقْبُوضَةً وَثِيقَةً بِأَمْوَالِكُمْ، وَالسُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الرَّسُولِ وَتَقْرِيرِهِ، أَمَّا فِعْلُ الرَّسُولِ فَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْيَهُودِيِّ الْمُسَمَّى أَبُو الشَّحْمِ وَسْقَ شَعِيرٍ وَرَهَنَ فِي مُقَابِلِ ثَمَنِهِ عِنْدَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ دِرْعَهُ الَّذِي كَانَ يَتَقَلَّدُهُ وَقْتَ الْجِهَادِ وَقَدْ تُوُفِّيَ الرَّسُولُ الْأَكْرَمُ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَفُكُّهَا بِهِ وَقَدْ اسْتَخْلَصَ ذَلِكَ الدِّرْعَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِإِعْطَاءِ مُقَابِلِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَهَذِهِ السَّنَةُ الشَّرِيفَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَوَاضُعِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ وَعَلَى إعْرَاضِهِ عَنْ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً عِنْدَ النَّبِيِّ بَلْ كَانَ جُلُّ مَقْصِدِهِ إرْضَاءَ الْبَارِي عز وجل. وَقَدْ اخْتَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَامَلَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْيَهُودِيِّ وَلَمْ يَتَعَامَلْ مَعَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ يُضَحُّونَ أَرْوَاحَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَقَدْ قَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ عَدَمَ إزْعَاجِ
الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَوْفُونَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّسُولُ مِنْهُمْ (شَرْحُ الشَّمَائِلِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ)(الزَّيْلَعِيُّ الْكِفَايَةُ شَرْحُ الْهِدَايَةِ) .
وَقَدْ اسْتَخْرَجَ مَشَايِخُ الْإِسْلَامِ رحمهم الله مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ بِضْعَةَ أَحْكَامٍ: أَوَّلًا - رَهْنُ كُلِّ مَالٍ مُتَقَوِّمٌ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدِّرْعَ الَّذِي رَهَنَهُ النَّبِيُّ كَانَ مُعَدًّا لِلْجِهَادِ فَلِذَلِكَ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ، وَلَا يُقَالُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَعَسِّفِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ رَهْنِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَدَّةِ لِلطَّاعَةِ. ثَانِيًا - يَجُوزُ الرَّهْنُ فِي حَالٍ السَّفَرِ كَمَا يَجُوزُ أَيْضًا فِي حَالِ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ قَدْ رَهَنَ الرَّهْنَ الْمَذْكُورَ حَالَ إقَامَتِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَإِنْ يَكُنْ قَدْ وَرَدَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِبَارَةُ {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ بَيَانَ جَوَازِ الرَّهْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي حَالِ السَّفَرِ فَقَطْ بَلْ الْمَقْصِدُ ذِكْرُ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ حَيْثُ كَانَ النَّاسُ يَمِيلُونَ فِي الْغَالِبِ إلَى تَوْفِيقِ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ حِينَمَا يَتَعَذَّرُ تَأْمِينُهُ بِالسَّنَدِ وَالشُّهُودِ، وَقَدْ كَانَ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْأَكْثَرِ فِي حَالِ السَّفَرِ. ثَالِثًا - يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالْمَرْهُونِ مِنْ الرَّاهِنِ سَوَاءٌ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّ دِرْعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَقِيَ مَرْهُونًا بَعْدَ وَفَاتِهِ (الْكِفَايَةُ شَرْحُ الْهِدَايَةِ) وَقَدْ صُرِّحَ بِالْأَحَقِّيَّةِ فِي الْمَادَّةِ (729) . رَابِعًا - لَا بَأْسَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ شِرَاءَ النَّبِيِّ كَانَ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ. خَامِسًا - لَا بَأْسَ مِنْ الِاسْتِدَانَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ نَسِيئَةُ اسْتِدَانَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ اللَّائِقُ بِالْإِنْسَانِ الْإِسْرَاعُ بِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى لَا يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ فَيَمُوتَ مَدِينًا. وَتَقْرِيرُ الرَّسُولِ هُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِالرَّهْنِ وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ بَعْدَ أَنْ بُعِثَ بِالرِّسَالَةِ لَمْ يَمْنَعْ النَّاسَ مِنْ الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ. وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ: قَدْ حَصَلَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ.
وَالْقِيَاسُ: مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ ثَابِتَةٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَيْ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَهُ طَرَفَانِ: طَرَفُ وُجُوبٍ، وَطَرَفُ اسْتِيفَاءٍ حَيْثُ يَثْبُتُ الدَّيْنُ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ طَرَفُ الْوُجُوبِ، وَثَانِيًا يُسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَالُ وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ طَرَفُ الِاسْتِيفَاءِ (الْعِنَايَةُ) ، فَكَمَا أَنَّهُ يَتَوَثَّقُ الطَّرَفُ الْمُخْتَصُّ بِالذِّمَّةِ بِالْكَفَالَةِ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَتَوَثَّقَ طَرَفُ الْمَالِ بِالرَّهْنِ حَتَّى إنَّ جَوَازَ ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَوُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ إلَّا وَسِيلَةً (الْهِدَايَةُ وَشُرُوحُهَا) وَفِي الرَّهْنِ فَائِدَةٌ لِلدَّائِنِ وَالْمَدِينِ مَعًا وَهُوَ كَمَا بَيَّنَّا فِي أَوَائِلِ شَرْحِ الْكَفَالَةِ أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ نَفْعًا لِلدَّائِنِ وَالْمَدِينِ مَعًا كَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الرَّهْنِ نَفْعٌ لِلدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ حَيْثُ إنَّ الْمُسْتَدِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَجِدُ مَنْ يُدَايِنُهُ بِلَا رَهْنٍ فَيَتَضَرَّرُ مِنْ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدَانَةِ كَمَا أَنَّ الدَّائِنَ يَكُونُ
أَمِينًا بِالرَّهْنِ مِنْ الْخَوْفِ مِنْ تَلَفِ حَقِّهِ كَامِلًا أَوْ قِسْمًا بِأَنْ يُنْكِرَ الْمَدْيُونُ دَيْنَهُ أَوْ أَنْ لَا يَتْرُكَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهَا أَوْ أَنْ يُسْرِفَ الْمَدْيُونُ فِي أَمْوَالِهِ أَوْ أَنْ يَأْخُذَ الدَّائِنُونَ الْآخَرُونَ حِصَّتَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمَدْيُونِ وَيَضِيعُ حَقُّ الدَّائِنِ كَامِلًا أَوْ قِسْمًا، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَائِدَةٌ وَنَفْعٌ لِلدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ مَعًا وَإِذَا جُرِيَ مُقَايَسَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَنْفَعَتَيْنِ يُرَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الرَّاهِنِ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ فَلِذَلِكَ تَعُودُ الْمَصَارِفُ الْوَارِدُ ذِكْرُهَا فِي الْمَادَّةِ (724) عَلَى الرَّاهِنِ (لِسَانُ الْحُكَّامِ) . كَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَرْهُونِ بَعْدَ تَلَفِهِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَتَضْمِينِهِ لِلْمُرْتَهِنِ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ الْآتِيَةِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ حَسْبَمَا جَاءَ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (658) .
الْوَثِيقَةُ أَرْبَعَةٌ: الرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلَكِنَّهُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَهَا إذْ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ أَمَّا الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ فَهُمَا عَقْدَا وَثِيقَةٍ بِذِمَّةٍ، وَأَمَّا الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ وَثِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوَثَّقُ وَيُؤَكَّدُ بِهِ شَيْءٌ وَثِيقَةٌ (الشِّبْلِيُّ) . الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ حَبْسُ وَوَقْفُ شَيْءٍ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ دَيْنًا أَوْ أَيَّ سَبَبٍ آخَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّيْءُ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مَحْبُوسَةٌ بِمَا نَالَتْ وَكَسَبَتْ مِنْ الْمَعَاصِي (شَرْحُ الْهِدَايَةِ) فَعَلَيْهِ يَكُونُ نَقْلُ وَاسْتِعْمَالُ الرَّهْنِ فِي مَعْنَى الْمَادَّةِ الْآتِيَةِ مِنْ قَبِيلِ نَقْلِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ.
الْكِتَابُ الْخَامِسُ فِي الرَّهْنِ:
وَهُوَ يَحْتَوِي عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ الْمُقَدِّمَةُ (الْمَادَّةُ 701) الرَّهْنُ جَعْلُ مَالٍ مَحْبُوسٍ وَمَوْقُوفٍ مُقَابِلَ حَقٍّ مُمْكِنِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَالِ (الْمَادَّةُ 701) الرَّهْنُ جَعْلُ مَالٍ مَحْبُوسٍ وَمَوْقُوفٍ مُقَابِلَ حَقٍّ مُمْكِنِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَالِ وَكَمَا يُقَالُ لَهُ مَرْهُونٌ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا رَهْنٌ. الرَّهْنُ لُغَةً جَعْلُ شَيْءٍ مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا لِسَبَبٍ مَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبَبُ دَيْنًا أَوْ خِلَافَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ، فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يَكُونُ نَقْلُ وَاسْتِعْمَالُ الرَّهْنِ لِلْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مِنْ قَبِيلِ نَقْلِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ الْهِدَايَةِ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الرَّهْنُ جَعْلُ مَالٍ مَحْبُوسٍ وَمَوْقُوفٍ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ بِيَدِ الْعَدْلِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ لِقَاءَ حَقٍّ مَعْلُومٍ وَعَلَى رِوَايَةِ مَجْهُولٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ تَرْكُ الرَّاهِنِ مَالًا مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ وَيُعَبَّرُ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ بِالْمَرْهُونِ وَبِالرَّهْنِ. مِنْ قَبِيلِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ (مَجْمَعُ الْأَنْهُرِ وَالْهِدَايَةُ) . وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِهِ جَعْلُ مَالٍ مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا بَدَلًا مِنْ حَبْسِ وَتَوْقِيفِ مَالٍ إلَخْ هُوَ لِأَنَّ الْحَبْسَ وَالتَّوْقِيفَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ مِنْ الرَّاهِنِ وَأَمَّا جَعْلُ الْمَالِ مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا فَهُوَ مِنْ الرَّاهِنِ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) وَحَيْثُ إنَّ جَعْلَ الْمَالِ مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا هُوَ نَقْلٌ اخْتِيَارِيٌّ عَائِدٌ إلَى الرَّاهِنِ فَيُمْكِنُ الْقَوْلُ إنَّهُ لَمْ يُرَ لُزُومًا لِتَصْرِيحِ قَيْدٍ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فِي تَعْرِيفِ الرَّهْنِ، وَعَطْفُ مَوْقُوفٍ عَلَى مَحْبُوسٍ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ وَالِاسْتِيفَاءُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي التَّعْرِيفِ بِصُورَةٍ مُطْلَقَةٍ شَامِلٌ لِلْكُلِّ وَالْبَعْضِ فَمَتَى كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ مُسَاوِيَةً لِلدَّيْنِ أَوْ زَائِدَةً عَنْهُ يَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ كُلِّيًّا وَإِذَا نَقَصَتْ عَنْهُ يَكُونُ جُزَيْئًا، رَاجِعْ الْمَوَادَّ (399 و 400 و 401) ، فَبِنَاءً عَلَى هَذَا عِنْدَمَا يَكُونُ مِقْدَارُ الدَّيْنِ زَائِدًا عَنْ الرَّهْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ غَيْرَ قَابِلٍ مِنْهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِرَاضُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الرَّهْنِ الْوَارِدَ فِي الْمَادَّةِ غَيْرُ شَامِلٍ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرُ جَامِعٍ لِأَفْرَادِهِ (الدُّرُّ الْمُخْتَارُ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ) .
الِاسْتِيفَاءُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ - الِاسْتِيفَاءُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَادَّتَيْنِ (760 وَ 761) ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ
بِبَيْعِ الرَّهْنِ بِالْوَكَالَةِ وَإِجْرَاءِ حِسَابِهِ بِالدَّيْنِ يَكُونُ أَيْضًا بِبَيْعِهِ بِدُونِ وَكَالَةٍ وَحِسَابِهِ بِالدَّيْنِ كَمَا وَرَدَ فِي الْمَادَّتَيْنِ (757 وَ 758) .
الْوَجْهُ الثَّانِي - الِاسْتِيفَاءُ الْحُكْمِيُّ وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ كَمَا سَيُوَضَّحُ فِي لَاحِقَةِ شَرْحِ الْمَادَّةِ (741) ، وَكَمَا أَنَّ الرَّهْنَ مُقَابِلُ حَقٍّ مَعْلُومٍ كَمَا لَوْ رَهَنَ شَخْصٌ مَالًا مَعْلُومًا عِنْدَ آخَرَ لِقَاءَ أَلْفِ قِرْشٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ مُقَابِلِ حَقٍّ مَجْهُولٍ وَسَيَرِدُ بَيَانُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (710) . وَكَلِمَةُ الرَّهْنِ الْوَارِدَةُ فِي قَوْلِهِ (وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا رَهْنٌ) هِيَ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ لَا الرَّهْنِ الْوَاقِعَةِ فِي صَدْرِ الْمَادَّةِ فَيُسْتَنْتَجُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ خُلَاصَةَ تَعْرِيفِ الرَّهْنِ هِيَ جَعْلُ مَالٍ مَحْبُوسًا وَمَوْقُوفًا لِقَاءَ حَقٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ الْحَقِّ مُمْكِنًا مِنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ (هِدَايَةٌ) ، فَكَلِمَةُ الرَّهْنِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَوَادِّ الْآتِي بَيَانُهَا كَمَا أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ تَارَةً بِمَعْنَى (مَالٌ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ) تُسْتَعْمَلُ تَارَةً بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ فَعَلَيْهِ يَجِبُ تَفْسِيرُ مَعْنَاهَا بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَالْقَرِينَةِ فَالْمَوَادُّ 702 وَ 703 وَ 704 وَ 705 وَارِدَةٌ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالْمَادَّتَانِ 706 وَ 707 مُسْتَعْمَلَتَانِ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَلْيَكُنْ مَعْلُومًا أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ كَافِيَانِ لِانْعِقَادِ الرَّهْنِ فَلَا لُزُومَ لِقَبْضِ الْمَرْهُونِ، وَلَكِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِإِتْمَامِ الرَّهْنِ فَبِذِكْرِ قَيْدِ (مَحْبُوسٍ وَمَوْقُوفٍ) يَكُونُ تَعْرِيفُ الرَّهْنِ الْوَارِدُ فِي الْمَادَّةِ قَدْ انْصَرَفَ لِلرَّهْنِ اللَّازِمِ التَّامِّ، إذْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَحْصُلُ حَبْسُ وَتَوْقِيفُ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ لِلْمَرْهُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنْ الرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْمُرْتَهِنُ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) وَقَيْدُ (مَحْبُوسٍ وَمَوْقُوفٍ) جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ الرَّهْنِ الْمُطْلَقِ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ الرَّهْنِ اللَّازِمِ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) .
وَكَلِمَةُ مَالٍ الْوَارِدَةُ فِي الْمَادَّةِ شَامِلَةٌ لِأَيِّ مَالٍ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ جَمْعًا فَالْمَرْهُونُ يَكُونُ مَثَلًا خَاتَمًا وَاحِدًا كَمَا أَنَّهُ تَعْبِيرُ (مَالٍ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاتَمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَادَّةِ (731) وَتَعْبِيرُ (مَالٍ) هُوَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِثْلِ الْجِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَإِشَارَةٌ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ رَهْنِ مَا هُوَ لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأُشِيرَ أَيْضًا بِلَفْظِ مَالٍ إلَى عَدَمِ جَوَازِ رَهْنِ الْوَقْفِ وَالْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ وَإِنْ يَكُنْ فَرَاغُ الْمُسَقَّفَاتِ وَالْمُسْتَغِلَّات الْمَوْقُوفَةِ الْجَارِي التَّصَرُّفُ بِهَا بِالْإِجَارَتَيْنِ وَالْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ وَفَاءً مُقَابِلَ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي وَإِذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تَخْتَلِفُ عَنْ الرَّهْنِ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ - اسْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ رَهْنًا بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا فَرَاغًا بِالْوَفَاءِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي - حُكْمًا فَكَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (741) عِنْدَ تَلَفِ الرَّهْنِ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِمِقْدَارِ قِيمَةِ الْمَرْهُونِ وَبِتَلَفِ هَذِهِ يَعْنِي مَثَلًا لَوْ احْتَرَقَ الْعَقَارُ الْمُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْإِجَارَتَيْنِ بِيَدِ الْمَفْرُوعِ لَهُ أَوْ لَوْ اسْتَوْلَى السَّيْلُ عَلَى الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ وَلَمْ يَعُدْ الِانْتِفَاعُ مُمْكِنًا بِهَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ - إذَا رُهِنَتْ الْمُسَقَّفَاتُ وَالْمُسْتَغِلَّات الْوَقْفِيَّةُ الْجَارِي التَّصَرُّفُ بِهَا بِالْإِجَارَتَيْنِ
كَالْأَمْلَاكِ الصِّرْفَةِ وَلَمْ تَفْرُغْ وَفَاءً يَسْتَرِدُّ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ بِلَا شَيْءٍ وَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ الطَّلَبِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَكِنْ إذَا رُهِنَ مَالٌ وَسَلِمَ صَحَّ يَعْنِي لَا يَحْتَاجُ لِبَيْعٍ بِالْوَفَاءِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهَا لِلرَّاهِنِ اسْتِرْدَادُ الرَّهْنِ قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ.
الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُعْتَبَرُ أَسْمَاءَ جِنْسٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّعَارِيفِ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مَدْخَلٌ وَمَنْ وَجْهٍ آخَرَ مَخْرَجٌ، مَثَلًا نَظَرًا لِتَعْرِيفِ (مَالٍ) الْوَارِدِ فِي الْمَادَّةِ (126) بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَخْرَجٌ، يَعْنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ التَّعْرِيفِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَيْسَتْ مَعْدُودَةً مِنْ الْمَالِ كَالْأَرَاضِيِ الْأَمِيرِيَّةِ وَالْمُسْتَغِلَّات الْوَقْفِيَّةِ وَأَسَاسًا إخْرَاجُهَا لَازِمٌ وَإِنْ تَكُنْ كَلِمَةُ حَقٍّ قَدْ جَاءَتْ فِي الْمَادَّةِ بَعْدَ تَعْبِيرِ جَعْلِ مَالٍ إلَخْ.
فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقِّ الْحَقُّ الْمَالِيُّ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْمَادَّةِ (710) وَسَيُوَضَّحُ قَرِيبًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُ بِاسْتِيفَاءٍ إلَخْ. يَعْنِي حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ مُقَابِلَ حَقِّ الْقِصَاصِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَغَيْرُ صَحِيحٍ وَأَيْضًا مُقَابِلَ حَقِّ الْيَمِينِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَالْيَمِينَ مَثَلًا لَيْسَا مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ أَيْ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الرَّهْنِ، وَمَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَيْضًا إذَا عَقَدَ شَخْصٌ مُقَاوَلَةً مَعَ خَيَّاطٍ عَلَى أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْخَيَّاطِ رَهْنًا مُقَابِلَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مُعَيَّنَةً كَيْ يُحَمِّلَهَا شَيْئًا أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا مِنْ الْمُؤَجِّرِ مُقَابِلَ الْحُمُولَةِ، إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ نَقْلِ الْحُمُولَةِ مِنْ هَذَا الرَّهْنِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا إذَا نَزَلَ شَخْصٌ فِي خَانٍ، وَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إنْ لَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا لَا أَقْبَلُك عِنْدِي، وَتَرَكَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مَالًا يُنْظَرُ فَإِذَا كَانَ مَا تَرَكَهُ الشَّخْصُ هُوَ مُقَابِلُ إجَارِ الْخَانِ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ وَالشَّيْءُ الْمَتْرُوكُ يَكُونُ مَضْمُونًا لِقَاءَ الْإِجَارِ كَمَا وَرَدَ فِي لَاحِقَةِ شَرْحِ الْمَادَّةِ (741) .
وَإِذَا كَانَ مَا تَرَكَهُ هُوَ بِمَقَامِ تَأْمِينَاتٍ مُقَابِلَ سَرِقَةٍ فَالرَّهْنُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُقَابِلٌ مِنْ الْمَالِ، وَلَكِنْ إذَا تَلِفَ ذَلِكَ الْمَالُ بِيَدِ صَاحِبِ الْخَانِ يَضْمَنُهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ الرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ (بَزَّازِيَّةٌ وَخَانِيَّةٌ) فَيَتَوَجَّهُ هُنَا سُؤَالٌ مُؤَدَّاهُ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا سَبَبُ الضَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالٌ مُقَابِلَ الرَّهْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا حُكْمَ لَهُ وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْأَمَانَةِ وَلِذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ ضَمَانٌ عَلَيْهَا؟ وَالْجَوَابُ هُوَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَى الرَّجُلُ الْمَالَ إلَى صَاحِبِ الْخَانِ طَلَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ وَهَلَكَ بِيَدِهِ فَيَضْمَنْهُ كَمَا أَنَّهُ إذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ وَلَمْ يُعْطِهِ هَذَا إيَّاهَا وَهَلَكَتْ بِيَدِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (794) . وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَقِّ الْوَارِدِ ذِكْرُهُ فِي التَّعْرِيفِ هُوَ الدَّيْنُ، وَقَدْ مَرَّ تَعْرِيفُ الدَّيْنِ فِي الْمَادَّةِ 158 فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ مُقَابِلَ الشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِدَيْنٍ كَالْعَيْنِ مَثَلًا فَإِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مِنْ آخَرَ مَالًا لِقَاءَ ذَهَبَاتٍ مَعْدُودَةٍ وَرَهَنَ مَالًا لِأَجْلِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ الرَّهْنُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الذَّهَبَاتِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَادَّةِ (243) لَا تَتَعَيَّنُ بِتَعَيُّنِهَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِذِمَّةِ الْمُشْتَرِي هُوَ بِالْفَرْضِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ خَمْسُ لِيرَاتٍ، وَحَيْثُ إنَّ الرَّهْنَ الْمَذْكُورَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمَبْلَغِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَنْعَقِدُ.
وَيَنْقَسِمُ
الدَّيْنُ الْمَذْكُورُ كَمَا يَأْتِي: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - الدَّيْنُ الْحَقِيقِيُّ، كَالْقَرْضِ، ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَبَدَلِ الْإِجَارَةِ، وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ، وَبَدَلِ الْمَغْصُوبِ، وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَالْمُسْلَمِ فِيهِ، بَدَلِ الصَّرْفِ، الدَّيْنُ الْحَقِيقِيُّ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ - الدَّيْنُ اللَّازِمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَعْنِي الدَّيْنُ الْوَاجِبُ تَأْدِيَتُهُ عَلَى الْمَدِينِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَبَدَلِ الْإِجَارَةِ، وَمَنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْخَرَاجُ وَالْأَرْشُ فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الدَّيْنِ وَيَصِحُّ الرَّهْنُ مُقَابِلَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَوْ الْمُضَارِبُ هَلَاكَ مَالِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ وَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ الِاسْتِهْلَاكَ وَتَصَالَحَا وَأَعْطَى رَهْنًا مُقَابِلَ بَدَلِ الصُّلْحِ يَصِحُّ.
النَّوْعُ الثَّانِي - الدَّيْنُ اللَّازِمُ ظَاهِرًا وَغَيْرُ اللَّازِمِ بَاطِنًا كَمَا لَوْ بَعْدَ أَنْ أَعْطَى شَخْصٌ رَهْنًا لِآخَرَ مُقَابِلَ مَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ تَصَادَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الدَّيْنِ رَأْسًا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَلْفَ قِرْشٍ وَأَنْكَرَ هَذَا، وَبَعْدَ أَنْ تَصَالَحَا عَلَى أَرْبَعِ مِائَةِ قِرْشٍ رَهَنَ عِنْدَهُ مَالًا بِقِيمَةِ أَرْبَعِمِائَةِ قِرْشٍ وَتَلِفَ ذَلِكَ الْمَالُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَتَصَادَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الدَّيْنِ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ وَيَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ضَمَانُ قِيمَةِ الرَّهْنِ (خَانِيَّةٌ) . وَكَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ شَخْصٌ رَهْنًا مُقَابِلَ الْمَالِ الَّذِي بَاعَهُ لِشَخْصٍ آخَرَ إذَا ضُبِطَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالِاسْتِحْقَاقِ فَبِالنَّظَرِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الْمَذْكُورَ صَحِيحٌ فَبِتَقْدِيرِ هَلَاكِهِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ يَعْنِي أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا هُوَ أَدْنَى قِيمَةٍ مِنْ الرَّهْنِ وَالْمَبِيعِ بِحَيْثُ إنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرَّهْنِ، وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْأَحْوَالُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَقِّ سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ لَهُ، وَلَيْسَتْ مَكْشُوفَةً لِعِبَادِهِ (زَيْلَعِيٌّ هِنْدِيَّةٌ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ) .
وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ شَخْصٌ لِآخَرَ لَحْمًا ظَنًّا بِأَنَّهُ لَحْمُ حَيَوَانٍ مَذْبُوحٍ وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَ رَهْنًا مُقَابِلَ ثَمَنِهِ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ اللَّحْمَ جِيفَةٌ فَالرَّهْنُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ وَلَدَى التَّلَفِ يَلْزَمُ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ مَثَلًا إذَا بَاعَ شَخْصٌ لِآخَرَ جِيفَةً بِمِائَةِ قِرْشٍ وَأَخَذَ مُقَابِلَهَا رَهْنًا مَالًا بِتِلْكَ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ وَتَلِفَ الرَّهْنُ الْمَذْكُورُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ يَضْمَنُ هَذَا لِلرَّاهِنِ مِائَةَ قِرْشٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ قِرْشٍ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مَا زَادَ عَلَيْهَا وَإِذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ خَلًّا وَبَعْدَ أَنْ رَهَنَ مُقَابِلَهُ مَالًا ضَاعَ الرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْخَلَّ نَبِيذٌ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ (خَانِيَّةٌ) وَالْخُلَاصَةُ وُجُوبُ الدَّيْنِ ظَاهِرًا كَافٍ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْوَاجِبَ ظَاهِرًا آكَدُ وَأَقْوَى مِنْ الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ فَالرَّهْنُ مُقَابِلُ الدَّيْنِ الْمَوْعُودِ كَجَوَازِ الرَّهْنِ مُقَابِلُ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ ظَاهِرًا. فَهَا أَنَّ الرَّهْنَ مُقَابِلَ النَّوْعِ الثَّانِي هَذَا مِنْ الدَّيْنِ أَيْضًا صَحِيحٌ وَهُوَ مِثْلُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ عِنْدَ هَلَاكِهِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ يَتَرَتَّبُ ضَمَانُهُ عَلَى مَا سَيَرِدُ فِي التَّفْصِيلَاتِ الَّتِي سَتُذْكَرُ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ 741 إنَّمَا تَجْرِي فِي هَذَا الضَّمَانِ التَّفْصِيلَاتُ الْآتِيَةُ: مَثَلًا إذَا رَهَنَ شَخْصٌ لِآخَرَ خَاتَمًا بِقِيمَةِ أَلْفِ قِرْشٍ مُقَابِلَ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الدَّيْنِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَصَادَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ مَوْجُودٍ رَأْسًا يُنْظَرُ فَإِذَا كَانَ التَّصَادُقُ حَصَلَ بَعْدَ
هَلَاكِ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ يُرَدُّ هَذَا الدَّيْنُ لِلرَّاهِنِ الَّذِي أَعْطَى الرَّهْنَ مُقَابَلَةً
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ قِرْشٍ فَلَا يُسْأَلُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ الزِّيَادَةِ (خَانِيَّةٌ) ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ كَانَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ ظَاهِرًا، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَافٍ لِضَمَانِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ التَّصَادُقُ الْمَذْكُورُ حَصَلَ قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ التَّصَادُقِ وَقَبْلَ طَلَبِ الرَّاهِنِ وَمَنْعِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَفِي هَذَا اخْتَلَفَ مَشَايِخُ الْمُسْلِمِينَ، فَصَاحِبُ الْهِدَايَةُ قَالَ بِتَلَفِهِ مَضْمُونًا، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ ذَهَبَ لِتَلَفِهِ أَمَانَةً، وَتَعْلِيلُهُ أَنَّ الرَّاهِنَ وَالْمُرْتَهِنَ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الدَّيْنِ يَنْتَفِي هَذَا مِنْ الْأَصْلِ وَعِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّيْنِ لَا يَبْقَى ضَمَانٌ لِلرَّهْنِ، وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: إنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الصَّائِبُ (أَبُو السُّعُودِ وَرَدُّ الْمُحْتَارِ قُبَيْلَ بَابِ الْجِنَايَاتِ بَزَّازِيَّةٌ وَمَجْمَعُ الْأَنْهُرِ) حَتَّى إنَّهُ ذَكَرَ فِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الِاخْتِلَافَ بِخُصُوصِ عَدَمِ ضَمَانِ الرَّهْنِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ هَذِهِ، وَأَمَّا إذَا طَلَبَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ بَعْدَ التَّصَادُقِ وَامْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ عَنْ رَدِّهِ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَيْهِ وَتَلِفَ بَعْدَئِذٍ فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ زَمَنِ امْتِنَاعِهِ عَنْ الرَّدِّ (اُنْظُرْ الْمَادَّةَ 794) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ - الدَّيْنُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ حَالًّا وَإِنَّمَا سَبَبُ لُزُومِهِ مَوْجُودٌ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ كَالرَّهْنِ - مُقَابِلَ الْأُجْرَةِ مَثَلًا إذَا أَجَّرَ شَخْصٌ بَيْتَهُ لِآخَرَ بِأَلْفِ قِرْشٍ سَنَوِيًّا وَهَلَكَ الرَّهْنُ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُؤَجِّرِ مُقَابِلَ بَدَلِ الْإِيجَارِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ بِوَجْهِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ أَوْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يُنْظَرُ فَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ هَلَكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ الْآجِرُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْإِيجَارِ بِمِقْدَارِ قِيمَةِ الْمَرْهُونِ يَعْنِي بِهَذِهِ الصُّورَةِ يُعْمَلُ بِحَسَبِ إفَادَةِ لَاحِقَةِ شَرْحِ الْمَادَّةِ (741) . وَأَمَّا إذَا كَانَ هَلَاكُ الرَّهْنِ حَصَلَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ رَدُّ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ رَدُّ قِيمَةِ الرَّهْنِ كَامِلَةً أَوْ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ يَلْزَمُ عَلَى الرَّاهِنِ مِنْ الْأُجْرَةِ فِيمَا لَوْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فَأَجَابَتْ دَارُ الْفَتْوَى الْعَالِيَةُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ رَدُّ كَامِلِ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ مُقَابِلَ دَيْنٍ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ، وَسَبَبُ لُزُومِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ أَيْضًا كَالرَّهْنِ مُقَابِلَ الدَّرَكِ كَمَا لَوْ أَعْطَى رَجُلٌ لِآخَرَ مَالًا قَائِلًا لَهُ: بِعْ هَذَا الْمَالَ فَأُعْطِيَكَ أُجْرَةً وَسَمَّاهَا وَفُقِدَ الرَّهْنُ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ مُقَابِلَ تِلْكَ الْأُجْرَةِ فَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - لَا يَجِبُ ضَمَانُ الرَّهْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي - الدَّيْنُ حُكْمًا كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا الْمَقْبُوضَةِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَسَوْمِ الشِّرَاءِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، يَعْنِي أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي لَدَى هَلَاكِهَا عِنْدَ مَنْ وَضَعَ الْيَدَ عَلَيْهَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الْقِيَمِيَّاتِ هِيَ بِحُكْمِ الدَّيْنِ فَيَجُوزُ أَخْذُ رَهْنٍ مُقَابِلَهَا وَيَسُوغُ لِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُ وَتَوْقِيفُ الرَّهْنِ لِبَيْنَمَا يَسْتَرِدُّ الْعَيْنَ (لِسَانُ الْحُكَّامِ وَمَجْمَعُ الْأَنْهُرِ) .
وَسَبَبُ كَوْنِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ دَيْنًا هُوَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ الْقِيمَةُ أَوْ الْبَدَلُ وَرَدُّ الْعَيْنِ (مُخَلِّصٌ) . أَمَّا الْبَدَلُ فَهُوَ دَيْنٌ وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ مُقَابِلَهُ وَإِنْ يَكُنْ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِيهَا بَعْدَ الْهَلَاكِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَبِنَاءً عَلَى هَذَا وَبِالنَّظَرِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ يَكُونُ رَهْنًا وَالرَّهْنُ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ (هِدَايَةٌ) .
وَإِنَّ الْمَهْرَ وَبَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ الْعَمْدِ إذَا كَانَا مِنْ الْأَعْيَانِ فَهُمَا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَحُكْمُ إيضَاحِ الرَّهْنِ مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (741) . سُؤَالٌ - إذَا فُرِضَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ لَفْظِ (الْحَقِّ) الْوَارِدِ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْعَيْنُ تَدْخُلُ الْأَعْيَانَ الْمَضْمُونَةَ بِنَفْسِهَا فِي التَّعْرِيفِ، وَتَعْبِيرُ كَلِمَةِ الْحَقِّ بِلَا تَأْوِيلٍ فَإِذًا لَا يَجِبُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَقِّ هُوَ الدَّيْنُ. الْجَوَابُ - بِمَا أَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الرَّهْنِ أَلَمْ يُرَ أَنَّ مَتَى رُهِنَتْ سَاعَةٌ مُقَابِلَ خَاتَمٍ مَغْصُوبٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْخَاتَمِ عَيْنًا مِنْ السَّاعَةِ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) . وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ رَهْنٍ مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمَالِ الشَّرِكَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمَضْمُونَةِ كَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا تَلِفَ رَهْنٌ كَهَذَا بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ (هِنْدِيَّةٌ) وَسَيَصِيرُ تَصْرِيحُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُ سَبَبِهِ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ (710) ، مَثَلًا إذَا طَلَبَ رَجُلٌ مِنْ خَيَّاطٍ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَعْدَ إرَاءَتِهِ لِشَخْصٍ آخَرَ بِطَرِيقِ رُسُومِ النَّظَرِ وَرَهَنَ عِنْدَهُ مَالًا بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ إعْطَاءِ الثَّوْبِ بِدُونِ رَهْنٍ فَأَخَذَ الثَّوْبَ وَهَلَكَ الرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالثَّوْبُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ وَحُكْمُ الْكَفَالَةِ أَيْضًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ (رَاجِعْ الْمَادَّةَ 631) وَالْإِيضَاحَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي شَرْحِهَا.
تَعْبِيرُ الْحَقِّ الْوَارِدُ فِي التَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْحَقِّ وَقْتَ الرَّهْنِ وَلِهَذَا كَانَ الرَّهْنُ مُقَابِلَ الدَّيْنِ الْمَعْدُومِ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالثُّبُوتِ (كِفَايَةٌ فِي أَوَّلِ الرَّهْنِ) . مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ لِدَائِنِهِ بَعْدَ أَنْ أَوْفَاهُ مَا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ قَائِلًا لَهُ: إنِّي لَا أَعْلَمُ إذَا كَانَ بَقِيَ لَك بِذِمَّتِي شَيْءٌ أَمْ لَا، وَعَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ خُذْ هَذَا الْمَالَ رَهْنًا مُقَابِلَهُ فَأَخَذَهُ الدَّائِنُ يَصِحُّ الرَّهْنُ مُقَابِلَ بَقِيَّةِ الدَّيْنِ، وَحَيْثُ إنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ صَحِيحٍ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ فَلَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ عِنْدَ تَلَفِ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الرَّهْنَ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى (خَانِيَّةٌ) ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الرَّهْنَ مُقَابِلَ دَيْنٍ سَيُلْزَمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ، وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي سَيَلْزَمُ مُسْتَقْبَلًا غَيْرَ مَوْجُودٍ وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ أَيْ مَعْدُومًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ رَهْنٍ مِنْ الْآنَ مُقَابِلَ ذَلِكَ الدَّيْنِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الْمَذْكُورُ لَازِمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ غَيْرَ لَازِمٍ كَقَوْلِ الرَّاهِنِ لِلْمُرْتَهِنِ: إنِّي رَهَنْت عِنْدَك هَذَا الْمَالَ مُقَابِلَ الدَّيْنِ الَّذِي سَيُسْتَحَقُّ لَك بِذِمَّتِي، وَإِذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ: بِعْ فُلَانًا مَالًا وَلْيَكُنْ ثَمَنُهُ لِي، ثُمَّ رَهَنَ عِنْدَهُ مَالًا مِنْ قَبِيلِ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ رَهْنًا لَا يَصِحُّ (خِزَانَةٌ وَخَانِيَّةٌ) . وَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ شَخْصٌ آخَرَ كَيْ يُسَلِّمَهُ لِشَخْصٍ غَيْرِهِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَفَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ وَأَعْطَى الْمَكْفُولُ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ رَهْنًا لِأَجْلِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ
الْمَكْفُولَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدُ، وَلُزُومُهُ عِنْدَ عَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ نَفْسَهُ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْمَادَّةِ (636) أَنَّ الْكَفَالَةَ بِدَيْنٍ كَهَذَا هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْكَفَالَةِ الْمُضَافَةِ وَصَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لَهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ مُقَابِلَهُ.
وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَيْضًا أَنَّ الرَّهْنَ مُقَابِلَ الدَّرَكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ لَيْسَ بِحَقٍّ مُمْكِنٍ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، إذْ حَيْثُ إنَّ إعَادَةَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ لَمْ تَلْزَمْ بَعْدُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ (كِفَايَةٌ) ، وَسَوَاءٌ أَضُبِطَ الْمَبِيعُ مُؤَخَّرًا بِالِاسْتِحْقَاقِ أَمْ لَمْ يُضْبَطْ (دُرَرٌ) ، مَثَلًا لَوْ بَاعَ شَخْصٌ لِآخَرَ مَالًا وَبَعْدَ أَنْ سَلَّمَهُ إيَّاهُ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُضْبَطَ الْمَبِيعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَخَذَ مُقَابِلَ ثَمَنِهِ رَهْنًا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْمَالُ الْمَرْهُونُ يَكُونُ أَمَانَةً مَحْضَةً بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا قَبَضَ الرَّهْنَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ الْحُكْمُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَإِعَادَةِ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَحِقُّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ وَلَوْ ضُبِطَ الْمَبِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ (زَيْلَعِيٌّ) وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ وَإِنْ تَحَقَّقَ الدَّرَكُ بِضَبْطِ الْمَبِيعِ بِالِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالتَّسْلِيمِ لَا يَنْقَلِبُ الرَّهْنُ الْمَذْكُورُ إلَى الصِّحَّةِ وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ أَيْضًا بَلْ يَجِبَ إعَادَتُهُ إلَى الرَّهْنِ (شِبْلِيٌّ) ، وَإِذَا هَلَكَ الرَّهْنُ الْمَذْكُورُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانَةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ مَالَهُ فَإِعْطَاءُ الرَّهْنِ مُقَابِلَ الدَّرَكِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الرَّهْنِ مُقَابِلَ الدَّيْنِ الْمَعْدُومِ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُؤْخَذَ الْمَبِيعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي يَصِحُّ لِلْبَائِعِ أَنْ يُعْطِيَ لِلْمُشْتَرِي مَالًا آخَرَ بِصِفَةِ رَهْنٍ؛ لِأَنَّهُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ يَكُونُ قَدْ ثَبَتَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ (كِفَايَةٌ) .
وَالرَّهْنُ مُقَابِلَ دَيْنٍ غَيْرُ لَازِمٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعًا وَغَيْرُ لَازِمٍ ظَاهِرًا فَقَطْ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبَاطِلٌ كَإِعْطَاءِ رَهْنٍ مُقَابِلَ ثَمَنِ جِيفَةٍ بِيعَتْ بِاعْتِبَارِهَا جِيفَةً فَإِذَا هَلَكَ هَذَا الرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانَةٌ، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (710) وَشَرْحَهَا. وَلَكِنَّ الرَّهْنَ مُقَابِلَ الدَّائِنِ الْمَوْعُودِ جَائِزٌ مَعَ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مَعْدُومًا وَقْتَ عَقْدِ الرَّهْنِ كَانَ مِنْ اللَّازِمِ أَنْ لَا يَكُونَ جَائِزًا قِيَاسًا عَلَى الرَّهْنِ مُقَابِلَ الدَّرَكِ إنَّمَا الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ وَأَنَّ الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ يُؤَدَّى وَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُودِ غَالِبًا، وَالِاعْتِبَارُ لِلْغَالِبِ التَّابِعِ وَلَيْسَ لِلْمَغْلُوبِ النَّادِرِ، اُنْظُرْ الْمَبْحَثَ الثَّانِيَ الْعَائِدَ لِشَرْحِ الْمَادَّةِ (710) . وَأَمَّا الدَّرَكُ فَهُوَ بِعَكْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا (الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ) ، فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الصِّفَةُ الْمُخَصِّصَةُ لَفْظَ الْحَقِّ، يَعْنِي هُوَ حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَسْتَلْزِمُ تَقْيِيدَ الْحَقِّ بِالْمَالِيِّ فَتَخْرُجُ، كَمَا ذُكِرَ أَيْضًا الْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ مِثْلُ حَقِّ الْقِصَاصِ وَيَتَقَيَّدُ الْمَالُ أَيْضًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، إذْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَالًا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْهُ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ إيفَاءُ الْحَقِّ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ الْمَالِ مُمْكِنًا وَاحْتُرِزَ بِالتَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْمَالِ الْفَاسِدِ (رَدُّ الْمُحْتَارِ) . وَاحْتُرِزَ أَيْضًا بِتَوْصِيفِهِ بِصِفَةِ (اسْتِيفَائِهِ) مِنْ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَأَخْذُ الرَّهْنِ مُقَابِلَ مَالِ أَمَانَةٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ كَمَا صُرِّحَ فِي الْمَادَّةِ (768) حَيْثُ إنَّ الْأَمَانَةَ لَيْسَتْ مَضْمُونَةً إذَا هَلَكَتْ
بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (710) وَإِنْ تَكُنْ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ مَضْمُونَةً بِأَنْ اُسْتُهْلِكَتْ فَالْأَمَانَةُ حِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَانَةً وَتُعَدُّ مَغْصُوبَةً، وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ: وَلَوْ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمَذْكُورَةَ اُسْتُهْلِكَتْ فَلَا يُؤْخَذُ بَدَلُ الْأَمَانَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يُرْهَنْ الْمَالُ الْمَذْكُورُ مُقَابِلَ الْأَمَانَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، بَلْ إنَّهُ رُهِنَ مُقَابِلَ الْأَمَانَةِ الْمَوْجُودَةِ وَغَيْرِ الْمَضْمُونَةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ آنِفًا بِالتَّفْصِيلِ.
قِيلَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجْبَرَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ عَلَى إعْطَاءِ الرَّهْنِ وَأَخَذَهُ جَبْرًا فَهَذَا الرَّهْنُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، اُنْظُرْ الْمَادَّتَيْنِ (1006 وَ 1007) رَدُّ الْمُحْتَارِ.
وَلِهَذَا إذَا بَاعَ رَجُلٌ لِآخَرَ مَالًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مُعَيَّنًا مُقَابِلَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ. فَقَطْ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الرَّهْنِ إذَا امْتَنَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ الْمُتَبَرِّعِ وَلَا إجْبَارَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ الْبَائِعُ مُخَيَّرًا إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْبَيْعِ بِدُونِ رَهْنٍ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ إنَّ الثَّمَنَ الْمَوْجُودَ مُقَابِلَهُ رَهْنٌ أَوْثَقُ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي لَا يُوجَدُ مُقَابِلَهُ رَهْنٌ، وَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ لِلثَّمَنِ فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بِخُصُوصِ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِوَصْفِ الثَّمَنِ أَيْضًا (رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي الرَّهْنِ) مَا لَمْ يَدْفَعْ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْمَبِيعِ سَلَفًا أَوْ يُعْطِ لِلْبَائِعِ قِيمَتَهُ رَهْنًا فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَا يَكُونُ الْبَائِعُ مُخَيَّرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مَقْصُودُ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ وَتَوَثَّقَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (شَرْحُ الْمَجْمَعِ) وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْمَادَّةِ (187) ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ يُرْهَنَ الْمَالُ وَيُسَلَّمَ إذَا ضُبِطَ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُرْتَهِنُ إجْبَارَ الرَّاهِنِ عَلَى إعْطَاءِ قِيمَةِ الرَّهْنِ الْمَضْبُوطِ أَوْ بَدَلِهِ؛ لِأَنَّ قَيْدَ التَّبَرُّعِ فِي الرَّهْنِ مُعْتَبَرٌ
(بَزَّازِيَّةٌ فِي الثَّالِثِ هِنْدِيَّةٌ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ وأنقروي) وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَا يُمْكِنُ الدَّائِنُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَدِينِهِ مَالًا غَيْرَ جِنْسِ مَطْلُوبِهِ وَيُمْسِكَهُ عِنْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّهْنِ بِلَا إذْنِهِ فَإِذَا رَضِيَ الْمَدِينُ مُؤَخَّرًا وَأَجَازَ ذَلِكَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَ يَكُونُ غَيْرَ صَحِيحٍ وَغَصْبًا (رَدُّ الْمُحْتَارِ فِي الرَّهْنِ) وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ غَيْرِهِ بِدُونِ إذْنِهِ مُقَابِلَ دَيْنِهِ فَإِذَا فَعَلَ وَلَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَ الْمَالِ يُدْعَى وَيَسْتَرِدُّ هَذَا مَالَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ بِحُضُورِ الرَّاهِنِ (عَلِيٌّ أَفَنْدِي) ، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (96) ، وَلَا يَقْدِرُ الْأَبُ أَيْضًا أَنْ يَرْهَنَ مُقَابِلَ دَيْنِهِ مَالَ ابْنِهِ الْكَبِيرِ بِدُونِ إذْنِهِ فَإِذَا فَعَلَ يَسْتَرِدُّهُ بِحُضُورِ الرَّاهِنِ أَوْ وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا ذُكِرَ آنِفًا، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (1637) ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا إذَا ارْتَهَنَ شَخْصٌ مِنْ امْرَأَةٍ دَارًا وَبَعْدَ قَبْضِهَا وَفِي غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ حَضَرَ شَخْصٌ آخَرُ وَأَعْطَى دَيْنَهَا فُضُولِيًّا وَارْتَهَنَ الدَّارَ الْمَذْكُورَةَ مُقَابِلَ الْمَبْلَغِ الَّذِي أَدَّاهُ وَكَفَلَ أَيْضًا بَعْضُ الْجِيرَانِ الْمَبْلَغَ فَيُمْكِنُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْتَرِدَّ الدَّارَ عِنْدَ حُضُورِهَا وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ دَيْنِهَا بِدُونِ إذْنِهَا، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (1506) ، وَلَا يَسُوغُ أَيْضًا لِذَلِكَ الشَّخْصِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ مُتَبَرِّعًا وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ عَلَى الْجِيرَانِ الَّذِينَ كَفَلُوا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ بِكَفَالَتِهِمْ وَضَمَانِهِمْ لِشَيْءٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ لَا تَكُونُ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً (تَنْقِيحٌ) ، اُنْظُرْ الْمَادَّةَ (612) .
وَتَفْصِيلُ كَيْفِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ وَالتَّضْمِينِ عِنْدَ ظُهُورِ مُسْتَحِقٍّ لِلرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ هُوَ عَلَى