الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرناه من قبل، والآن نقول: إن أخطر ما يحاول الكافرون في عصرنا القضاء عليه هو الحج، وقد ذكرنا أدلة ذلك في مقدمة كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) لأن الحج هو الذي يثير كل مشاعر الوحدة عند المسلمين، ويزيل كل مشاعر الفرقة بينهم، وقد درجت حكومات في العالم الإسلامي وفي غيره أن تمنع المسلمين من الحج بكل وسيلة، وبكل حجة، ومنها الحجج الاقتصادية الباردة، فتجد هذه الحكومات الفاجرة تنفق قطعها النادر على التجسس على شعوبها، أو تبذره في كل طريق كافر، ومع ذلك تمنع المسلم إذا أراد أن يحج بحجة أنه سينفق مالا خارج قطره، وكأنه ينفق في أرض غريبة، وهذا يدخل في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ........ وقد آن الأوان أن ننقل ما نريد نقله من فوائد لها صلة بهذا المقطع:
الفوائد:
1 -
عند قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يذكر المفسرون قصة الغرانيق، ثم يحاولون تعليلها أو توجيهها، مع أن المحدثين يردونها من أساسها، حتى ألف بعضهم رسائل مستقلة في إبطالها، ومن ثم فإننا لن نذكرها، ولن نتكلف للرد عليها ما دام أصلها غير ثابت، ولعلنا نتعرض لها في كتاب (الأساس في السنة) ولعل من جملة ما جعل للقصة رواجا هو عجز بعض المفسرين عن فهم الآيات، فرأوا في القصة توجيها سهلا للآيات فساروا عليه.
2 -
وبمناسبة قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ قال النسفي: (هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» فقيل: فكم الرسل منهم؟ فقال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر» والفرق بينهما أن الرسول من- جمع إلى المعجزة- الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، وقيل الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره).
3 -
نلاحظ من قوله تعالى: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أن إلقاء الشيطان ونفاذ أمره يحتاجان إلى مناخ ملائم، والمناخ الملائم لإلقاء الشيطان هو مرض القلب وقسوته، وقد حمل بعض المفسرين كلمة:
وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ على الكفار، وليس لهم دليل على ذلك لأن قسوة القلب مرض
قد يصيب المؤمنين، والدرس الذي نستفيده من الآيات هو أن ما دام هناك قسوة قلب، ومرض قلب، فللشيطان سبيل إلى فتنة الإنسان، ومن ثم فإن أول ما ينبغي أن يعالجه المربون هو مرض القلب وقسوته، ومرض القلب النفاق، وقسوة القلب مرض غير النفاق، ولا يتخلص الإنسان من النفاق وقسوة القلب إلا ببذل جهد ذاتي لذلك، فمهما كان المربي قويا إذا لم تواته همة المريد فلا فائدة، ومن ثم فإن على المسلم أن يبتعد عن كل شئ يقسي القلب .. ككثرة الكلام الذي لا فائدة منه «لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي وككثرة الضحك فإنها تميت القلب، وكمجالسة أهل الدنيا بلا ضرورة، ولا بد للمسلم أن يبتعد عن كل أسباب النفاق من محبة الظالمين وموالاتهم، ومودتهم، وطاعتهم ..
4 -
بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. قال ابن كثير: (فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 169) والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم، وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق وعظم إحسان الله إليه، روى ابن أبي حاتم عن شرحبيل بن السمط أنه قال: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان- يعني الفارسي- رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين» واقرءوا إن شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وروى أيضا عن همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل فقال فضاله: ما لي أرى الناس مالوا على هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا حتى بلغ آخر الآية).
5 -
نلاحظ أن هناك ثمانية آيات من قوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا .... إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وفي سبع آيات منها ورد في كل منها اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد نقل النسفي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية لذلك يستجاب لقرائها.
6 -
عند قوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
أقول: إن قوله قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء يشير إلى أن العرش والماء كانا موجودين، ولا يفهمن فاهم أن هذا التقدير مستأنف، فالله علم أزلا وقضى وقدر ولكن الإبراز الأول إلى اللوح المحفوظ كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ولنلاحظ أن الرقم (خمسين ألف سنة) هو يوم من أيام ربنا كما قال تعالى في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فالله عز وجل ذكر يوما عنده كألف مما نعد، وذكر يوما عنده مقداره خمسون ألف سنة، وكما قلنا من قبل فإن مثل هذه الأرقام في القرآن عن الأيام لا يدرك مدى الإعجاز في ذكرها إلا الإنسان المعاصر، الذي صار يقيس دورات المجرات بالسنين الضوئية، وأبعاد ما بين النجوم بمثل هذا، ويعرف أن أياما في غير هذه الأرض تزيد كثيرا على يوم الأرض.
7 -
ونحب قبل أن ننتقل عن هذا المقطع أن نؤكد على معنى هو أنه في هذا المقطع الذي هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار قد عرض الله علينا سنتين: واحدة في قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ...... والثانية في قوله تعالى ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ والذي أحب أن أؤكده هنا أن هاتين السنتين ينبغي أن يكونا على بال الداعية إلى الله في كل لحظة، وعليه أن يبقى ذاكرا ما يلي:
1 -
أن الشيطان لن يترك المدعوين بلا إلقاء، وأن مظنة الاستجابة له مرضى القلوب وقساتها، وأن أهل العلم وحدهم بمنجاة من إلقاءاته فليحرص الداعية إذن على تطهير القلب وتعميم العلم.
2 -
أن عملية الإلقاء من الشيطان والاستجابة لها يترتب عليها موقف ضد الداعية، فإذا قابل الداعية الموقف بمثله فلا حرج عليه، وإن ظلم فإن الله ناصره، إن هاتين القاعدتين ما لم تكونا على ذكر دائم لدى الداعية فإنه يأسى كثيرا.
ولننتقل إلى المقطع الرابع ولنقدم له بكلمة حول السياق:
محور سورة الحج هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد بدأت سورة الحج بالامر بالتقوى، وربت عليها، وذكرت
الصوارف عنها، ثم أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار في المقطع الثالث الذي ورد في خواتيمه قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وها هو المقطع الأخير يأتي مفندا عبادة غير الله، آمرا بعبادة الله، مفصلا في ذلك، أن نقطة البداية في التقوى عبادة الله، ومن ثم يأتي هذا المقطع ليهدم في الآية الأولى منه عبادة غير الله، ولما كان المستفيدون الوحيدون من الخطاب هم المؤمنين من الناس، فإن المقطع في نهايته يتوجه إلى المؤمنين آمرا إياهم بصنوف من العبادة توصل إلى التقوى، إن الآية التي هي محور سورة الحج من سورة البقرة أمرت بالعبادة للوصول إلى التقوى، وسورة الحج ابتدأت بالأمر بالتقوى، وختمت بالأوامر بالعبادة؛ إذ هي الطريق العملي لتحقيق التقوى، فكانت آخر ما يقرؤه الإنسان في السورة.
***