الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها لم يذكر هنا الآيات التي أريها، ولكن من السياق نعرف أنه الحجج والبراهين والمعجزات وهي انقلاب العصا حية، وخروج يد موسى بيضاء من غير سوء، وفي سورة الإسراء قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. فَكَذَّبَ بالآيات وَأَبى قبول الحق، ذلك موقف الكافرين من الحق، التكذيب به، ورفضه في كل زمان ومكان، وإن زخرفوا هذا الرفض وهذا التكذيب بآلاف الصور، إلا أن المسألة تبقى هكذا، تكذيب للحق، ورفض له، مع قيام الحجة به، فإذا تذكرنا أن محور السورة من سورة البقرة هو وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عرفنا أن قصة فرعون في هذا السياق تعرفنا على أن الذين لا يؤمنون يكذبون ويرفضون، لا لقصور في الحجة، ولا لانعدام الآيات، بل لمرض في أنفسهم،
ثم قال تعالى قالَ أي فرعون أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى قال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما، ونزع يده من
تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، فقال هذا سحر جئت به لتسحرنا، وتستولي به على الناس، فيتبعونك، وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
وقال صاحب الظلال عن هذه الآية والآية التي بعدها: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ (ويظهر أن استعباد بني إسرائيل كان إجراء سياسيا خوفا من تكاثرهم وغلبتهم، وفي سبيل الملك والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير، ومن ثم كان فرعون يستأصل بني إسرائيل ويذلهم بقتل المواليد الذكور.
واستبقاء الإناث، وتسخير الكبار في الشاق المهلك من الأعمال .. فلما قال له موسى وهارون: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا
بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟
لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض.
وإذا كان موسى [في زعم فرعون] يطلب إطلاق بني إسرائيل لهذا الغرض، وكل ما يقدمه هو عمل من أعمال السحر، فما أسهل الرد عليه: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ .. وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنما تخفي وراءها هدفا من أهداف هذه الأرض، وأنها ليست سوى ستار للملك والحكم .. ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات، إما خارقة كآيات موسى، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق. فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا .. سحر نأتي بسحر مثله! كلام نأتي بكلام من نوعه! صلاح نتظاهر بالصلاح! عمل طيب نرائي بعمل طيب! ولا يدركون أن للعقائد رصيدا من الإيمان، ورصيدا من عون الله، فهي تغلب بهذا وبذاك، لا بالظواهر والأشكال.).
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي فلنعارضك بسحر مثل سحرك، وهكذا نقل فرعون المسألة من صبغتها الدينية فأعطاها صبغة سياسية ووطنية، وذلك دأب الظالمين مع أهل الحق، إذا وعظوهم أو ذكروهم أو أمروهم أو نهوهم فإنهم يتهمونهم في نياتهم، ويثيرون عليهم شتى العواطف، ثم قال فرعون لموسى فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين، ووقت معين لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي مستويا لا يغيب فيه شئ شيئا آخر، من أجل أن يرى الناس جميعا ما يحدث
قالَ موسى مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ أي يوم عيدكم، وتفرغكم من أعمالكم وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ أي يجمعوا ضُحًى أي وقت الضحوة، واختياره يوم عيدهم ليشاهد الجميع قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات، فيكون التبليغ للجميع، وتقوم الحجة على الجميع، واختياره وقت الضحى ليكون هناك متسع من الوقت نهارا، ليشيع ما حدث، ويتذاكر الناس فيه أطول وقت ممكن بقية يومهم، فيستقر في قلوبهم، وليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح وأبعد عن الريبة، وأكثر كشفا للحق.
قال ابن كثير: (وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولذا لم يقل ليلا، ولكن نهارا ضحى) أقول: وفي ذلك درس للدعاة أن يختاروا الوقت الأنسب للشئ الذي يرغبوا أن يقدموه للناس خدمة لدين الله
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي شرع معرضا عن موسى في جمع السحرة من مدائن مملكته، وقد كان السحر فيهم كثيرا فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي مكره وسحرته ثُمَّ أَتى للموعد
قالَ لَهُمْ مُوسى أي للسحرة وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا، أو لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها؛ فتكونوا قد كذبتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ أي فيهلككم بسبب ذلك بِعَذابٍ أي فيهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له وَقَدْ خابَ أي خسر مَنِ افْتَرى أي من كذب على الله، وفي قول موسى هذا درس بليغ للدعاة ألا يقصروا في الوعظ في كل حال، وحتى لأشد أنصار الظالمين، فهؤلاء السحرة حشدهم فرعون ليجابه موسى، فوعظهم موسى، فأفاد هذا الوعظ مرتين، مرة في خلخلة صفهم، ومرة بعد ذلك إذ أسلموا جميعا، فلا يتركن المسلم دعوته في أي ظرف
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي اختلفوا وتشاجروا، ولا نعرف بالضبط ما هو مضمون النزاع، وقد قدر بعض المفسرين أن يكونوا اختلفوا في شأن موسى هل هو ساحر مثلهم؟ أو غير ساحر؟ وليس في معرفة ذلك كبير طائل ما دام النص قد أبهم مضمون اختلافهم وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي كان تناجيهم فيما بينهم سرا، والذي يبدو- والله أعلم- أنهم تكتموا على خلافهم، ولم يحاولوا أن يظهروه، ورددوا فيما بينهم ما أعلنه فرعون من قبل ولذلك
قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ أي إنه هذان لساحران يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر أي يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ليستوليا على الناس، وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ
أي بدينكم وشريعتكم الْمُثْلى أي الفضلى
فَأَجْمِعُوا أي أحكموا كَيْدَكُمْ أي ما تكيدون به موسى، أي اجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي ائتوا مصطفين، اتفقوا على ذلك لأنه أدل على وحدتهم، وأوقع في قلوب الرائين وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي وقد فاز من غلب، وهكذا حال أهل الباطل في الظاهر مجتمعون، وفي الباطن مختلفون، يتظاهرون بشيء، ويبطنون غيره، مولعون بالاستعراضات والمظاهر والمسيرات، ليغطوا بها ضعفهم النفسي،
ثم توجهوا إلى موسى بالخطاب قالُوا أي السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي اختر أحد الأمرين: إلقاؤك أولا، أو إلقاؤنا أولا، وهذا التخيير منهم أدب حسن معه، وقد وصلت بركة الأدب إليهم إذ أسلموا بعد ذلك
قالَ بَلْ أَلْقُوا أي أنتم أولا، وذلك ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويظهر الله سلطانه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه، فيصير آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي تتحرك وتضطرب، وهو عمل يشبه معجزة موسى في الظاهر، ويبدو أن سحرهم كان في غاية القوة، حتى أن موسى نفسه خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تتحرك، ولنا في الفوائد كلام حول السحر والفارق بينه وبين المعجزة
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس برهبة بحكم الجبلة البشرية، أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه، وهذا الذي رجحه ابن كثير ولم يحك غيره قال:
(أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم) والظاهر الأول وهو الذي قدمه النسفي، وليس في ذلك منقصة لموسى، بل هو الكمال ليكون قدوة، فليس الشأن ألا نحس في الخوف، ولكن الشأن ألا نستسلم له
قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب القاهر، أكد له الغلبة بأكثر من مؤكد، كما هو معلوم في اللغة
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي ما زورا وافتعلوا، أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ليس إلا، وكيد الساحر لا قيمة له وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي أينما كان
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي ألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا ساجدين قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا. قال النسفي: فما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم
وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى وهكذا شأن المنصفين إذا رأوا الآية، وقامت عليهم الحجة، لقد عرفوا- لعلمهم بالسحر- أن المسألة ليست بسحر، وبقي الكافر اللعين فرعون يزعم أن فعلة موسى سحر
قالَ فرعون حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة آمَنْتُمْ لَهُ أي صدقتموه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي وما أمرتكم بذلك فافتئتم علي في ذلك، طالبهم بمنطق السلطان بالطاعة، والانضباط والتقيد بالأوامر، وعدم التصرف إلا بإذن، ولم يدر أن سلطان الله فوق سلطانه، وأمر الله فوق أمره، ثم قال لهم قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أي لعظيمكم أو لمعلمكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه علي، وعلى رعيتي لتظهروه، ثم لجأ إلى سلاح الإرهاب والتهديد، وهو سلاح الظالمين الأخير فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ القطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال يعني: لأقطعنها مختلفات وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ هددهم بأن يجمع لهم بين القطع والصلب، وتلك أفظع موتة، لأنها تجمع بين المثلة والألم والتشهير ثم قال وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أنا على ترك إيمانكم بي، أو رب موسى على ترك الإيمان به، أو أنا أو موسى عذابنا أشد وأبقى؟ أي أكثر ألما وأدوم
قالُوا أي السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ أي لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الأدلة القاطعة الدالة على صدق موسى وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاحكم ما أنت حاكم، أي فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب، أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي في هذه الحياة الدنيا، أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا.
قال ابن كثير: أي إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا أي ذنوبنا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أي وليغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه وَاللَّهُ خَيْرٌ لنا منك، أو خير ثوابا لمن أطاعه وَأَبْقى وأبقى عقابا لمن عصاه، وهو رد لقول فرعون وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.