الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبعد أن فر فرعون من الجواب على طلب موسى، وبعد أن من عليه وأنبه على قتله القبطي قالَ موسى فَعَلْتُها إِذاً أي قتلت الرجل إذ ذاك وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن الفعلة تبلغ القتل، أو من الناسين، أو من الغافلين، أو قبل أن يكرمني الله بهداه ووحيه فأكون نبيا
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تقتلوني فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة وعلما، فزال عني الجهل والضلالة وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من جملة رسله، وكأنه قال: لقد تغير الحال الأول وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت، وإن خالفته عطبت.
كلمة في السياق:
إذا تأملنا قوله تعالى على لسان موسى فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإننا نجد فيه نكهة شبيهة بقوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنك لتلاحظ بشكل عام أن نكهة سورة الشعراء تشبه نكهة آية المحور، وذلك عدا عن كون معانيها تدور في فلك آية المحور. وهذا مظهر عظيم من أسرار هذا القرآن، فإنك لا تجد سورة فصلت آية من سورة البقرة إلا رأيت تشابها بين نكهة الآية والسورة. فإن تجد ذلك وأن تجد سورة البقرة ذات نكهة خاصة بها، وروح خاصة بها. فذلك وحده شئ عجيب. وذلك دليل على أن الله منزل هذا القرآن. ولنعد إلى التفسير لنرى تتمة جواب موسى لفرعون:
…
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أن جعلت بني إسرائيل عبيدا أذلاء، رد على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله، وأبى أن تسمى هذه نعمة، لأن سببها هو تعبيد بني إسرائيل؛ لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ولو تركهم لرباه أبواه، فكأن فرعون امتن على موسى بتعبيد قومه، وإخراجه من حجر أبويه فكيف تسمى هذه نعمة؟ قال ابن كثير في تفسير الآية: أي أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. وبهذا ختم موسى الرد على فرعون، وكان ردا في غاية القوة وفيه درس للمشتغلين بقضايا تحرير أقوامهم من ظالميهم وجلاديهم، ثم إن فرعون فر ثانية من الجواب،
وطرح سؤالا. وذلك أن موسى أعلمه أنه رسول رب العالمين، وهو يدعي الربوبية، ففي دعوة موسى إبطال لدعواه. ومن ثم أخذ الحوار طابعا عقديا، ونلاحظ أن موسى في هذا الحوار يقابل الحجة بالحجة، والكلمة بالكلمة، لأن الصمت في مقام التبليغ إخلال بالتبليغ، وذلك درس لكل من يتصدى للدعوة إلى الله أو إلى شرعه
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قال النسفي: أي إنك تدعي أنك رسول رب العالمين فما صفته. وقال ابن كثير: قال هذا له فرعون من الذي تزعم أنه رب العالمين غيري، هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف ..... ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هنا سؤالا عن الماهية فقد غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه،
فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل، فالإيقان هو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن. والمعنى: إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل فكفى خلق هذه الأشياء دليلا، أو إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع فالله عز وجل خالق السموات والأرض وما بينهما، ومالك جميع ذلك، والجميع عبيد له خاضعون، ومن كانت لهم قلوب موفقة، وأبصار نافذة عرفوا ذلك
فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى كما قال الله تعالى: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلها غيري؟
قالَ لهم موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، أي إن لم تستدلوا بغيركم فبأنفسكم، ولعله ذكر آباءهم لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم
قالَ أي فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري
قالَ موسى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فتستدلون بما أقول فتعرفون ربكم، قال النسفي. وهذا غاية الإرشاد، حيث عمم أولا بخلق السموات والأرض وما بينهما، ثم خصص
…
أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد من أحواله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر (كما يراه الناظر) على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الرحمن من الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن
كنعان
…
، قال ابن كثير: لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له، ونافذ في موسى عليه السلام
فقال ما أخبر الله تعالى عنه قالَ فرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال ابن كثير: لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، فظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال، وذلك ديدن كل ظالم، أن يلجأ إلى الإرهاب والتهديد به إذا خالفه الناس في مواقفه الظالمة. وقال النسفي: فلما تحير فرعون ولم يتهيأ له، أن يدفع ظهور آثار صنعه قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل، ولو قال لأسجننك لم يؤد هذا المعنى وإن كان أخصر
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك ببرهان قاطع واضح
قالَ فَأْتِ بِهِ أي بالذي يبين صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أن لك بينة، أي فأحضر ما يدل على صدقك
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح. قال النسفي: (أي ظاهر الثعبانية، لا شئ يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزورة بالشعوذة والسحر
وَنَزَعَ يَدَهُ أي من جيبه أي من فتحة عند القميص بعد أن وضعها تحت إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قال النسفي: دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضها نوريا.
وقال ابن كثير: أي تتلألأ كقطعة من القمر فبادره فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد.
قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ لمن حوله من أشراف مملكته ووجهائهم وأصحاب النفوذ والرأي فيهم إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي فاضل بارع في السحر فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة،
ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر فيه فقال:
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به من حبس أو قتل؟ قال النسفي: (لما تحير فرعون برؤية الآيتين، زل عنه، ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه خوفا، طفق يؤامر قومه الذين هم- بزعمه- عبيده وهو إلههم.
أو جعلهم آمرين ونفسه مأمورا) وذلك دأب الطغاة يتظاهرون بأنهم منفذون لأوامر شعوبهم
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما ولا تباغت قتلهما خوفا من الفتنة
وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي شرطا يجمعون السحرة
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ والمعنى: أخره وأخاه حتى تجمع من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه ويأتون بنظير ما جاء به فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد، فأجابهم إلى ذلك، وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهرة
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة أي يوم العيد والميقات المحدد من ذلك اليوم هو وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة، كما ذكر ذلك في سورة طه
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي اجتمعوا وفي الصيغة ما يفيد استبطاء اجتماعهم. والمراد منه استعجالهم. واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم
وقال قائلهم لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي إن غلبوا موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض ألا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قال ابن كثير: ولم يقولوا نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قال ابن كثير: أي مجلس فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ طلبوا منه الإحسان إليهم والتقريب
قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لكم أجر عندي وتكونون مع ذلك من المقربين عندي في المرتبة والجاه، وهكذا فعل فرعون كل ما في وسعه من أجل أن يغلب موسى، ولكن هيهات، فالأمر أكبر من ذلك، إنها الرسالة، وإنها المعجزة، وإن الله من ورائهم محيط
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي من السحر فسوف ترون عاقبته وقد اختصرت في هذا المقام بعض الحيثيات التي ذكرت في سور أخرى، لأن الهدف هنا هو إبراز النتيجة، وتصوير العاقبة
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أقسموا بعزته وقوته أن لهم الغلبة، وهو من أيمان الجاهلية
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ويزورونه ويخيلونه في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، فقد اختطفت ذلك كله وابتلعته، وجمعته من كل بقعة، فلم تدع منه شيئا
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قال النسفي: عبر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة، لأنه ذكر مع الإلقاءات، ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
وحتى لا يبقى لبس بمن أرادوا بكلامهم لأن فرعون يدعي الربوبية قالوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قال
ابن كثير: فكان هذا أمرا عظيما جدا، وبرهانا قاطعا للعذر، وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم، وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا، وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق والمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحا جريئا، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين- فعدل إلى المكابرة والعناد- ودعوى الباطل- فشرع يتهددهم، ويتوعدهم
قالَ فرعون آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ بذلكم، أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا علي في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي وقد تواطأتم معه على أمر ومكر، وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعدهم فرعون فقال فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي وبال ما فعلتم، ثم صرح بما سيفعله بهم فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من أجل خلاف ظهر منكم، أو مخالفا بين أيديكم وأرجلكم في القطع وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وهي عقوبة أراد بها فيما يبدو ترهيب العامة، لئلا يتبعوهم في الإيمان
قالُوا لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا، ولا نبالي به إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي المرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء،
ولهذا قالوا إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي: ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان؟ قال ابن كثير: فقتلهم كلهم. وهكذا قامت الحجة قياما كاملا، ومع ذلك بقي العتو، وأنزل الله الآيات الأخرى التي ذكرت في سورة الأعراف، واختصرت هنا؛ لأن السياق ينصب هنا على فعل الله لأنبيائه. ومن ثم فالسياق هنا ينتقل مباشرة إلى موضوع الخروج والإنجاء
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي بني إسرائيل. أي سربهم ليلا. قال النسفي: سماهم عباده لإيمانهم بنبيه إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه. قال النسفي: علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم، يعني إني بنيت تدبير أمركم وأمرهم، على أن تتقدموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم من طريق البحر فأهلكهم، هذا ما كان من وحي الله وتدبيره، وقد ذكر تدبير فرعون ضد بني إسرائيل، ليعلم أن الله عز وجل هو الذي يدبر المعركة بين الكافرين والمؤمنين، ومن ثم فمهما دبر الكافرون ضد المؤمنين، فالعاقبة للمتقين؛ لأن
الله يعلم كيدهم، وهو الذي يدبر للمؤمنين، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب. وأما تدبير فرعون فقد انصب على ما يسمى باصطلاح عصرنا بالتوعية الشعبية
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين للناس بعنف، أي أرسل من يجمع الناس ليقولوا لهم:
إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ أي لطائفة قَلِيلُونَ أي إنهم لقلتهم لا يعبأ بهم
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي إنهم يفعلون أفعالا تغيظنا، وتضيق صدورنا
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي متيقظون بشكل دائم. يعني: ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهكذا لخص الله لنا بأربع آيات تدبير فرعون ضد بني إسرائيل، وهو التدبير المستمر للطغاة في كل العصور ضد أهل الحق:
يحشرون الناس، ويجمعونهم بسلطة السلطان، فيعقدون الاجتماعات والندوات، ويسيرون المسيرات للتوعية- في زعمهم- ويقولون عن أهل الحق: إنهم فئة قليلة منحرفة عن إرادة الشعب، وخارجة على إرادة الجماهير، وأنهم يقومون بأعمال إجرامية ضد السلطة، وأن على جميع الشعب أن يكون حذرا وواعيا. إن مثل هذا التسجيل الخالد لفعل فرعون، والذي ينطبق على كل زمان ومكان، لهو وحده معجزة، ومن هنا نفهم سرا من أسرار القصص القرآني، وخصيصة من خصائصه إن القصة القرآنية نموذج خالد مستمر متكرر فيه عبرة وعظة ودروس لكل إنسان، وفي كل زمان.
ثم بعد ذلك قص الله علينا عاقبة الجميع فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَعُيُونٍ أي وأنهار جارية
وَكُنُوزٍ أي وأموال ظاهرة من الذهب والفضة. قال النسفي: وسماها كنوزا لأنهم لا ينفقون منها في طاعة الله وَمَقامٍ أي ومنزل كَرِيمٍ أي بهي بهيج
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو وأخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي إن كان المراد بأورثناها أورثنا بعضها كالكنوز التي استعارها منهم بنو إسرائيل ليلة الخروج فذلك التوريث كان في ليلة الخروج، وإن كان ما حدث بعد ذلك في زمن بعض ملوك بني إسرائيل كسليمان، إذ امتد نفوذ بني إسرائيل حتى غطى مصر، فذلك التوريث فيما بعد، والآية تحتمل هذا وهذا
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي فلحقوهم داخلين في وقت شروق الشمس وهو طلوعها. وهذا يفيد أن بني إسرائيل نفذوا الأمر بالإسراء ليلا، وأن فرعون وقومه أتبعوهم، وكانت لحظة الإدراك وقت طلوع الشمس
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابلا، بحيث يرى كل فريق الآخر. والمراد بالجمع بنو إسرائيل