الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقد رأينا صلة كل مجموعات المقطع بهاتين الآيتين بما يغني عن إعادته هنا، لقد عمقت المجموعات الأربع معنى الدخول في الإسلام وعمقت موضوع ترك اتباع خطوات الشيطان، وعمقت موضوع عدم الوقوع في الزلل، ودلت على الطريق الواجب اتباعه للبعد عن الزلل، وللتوبة منه حين الوقوع فيه، وقد بدأ المقطع بقوله تعالى سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ثم سار المقطع ضمن مواضيع متعانقة حتى استقر على الآية وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين أول آية في المقطع، وبين آخر آية فيه، فإذا ما أضيف إلى هذا أن آيات المقطع الثاني ذات موضوع جديد اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهذا وذلك يدل على أن مقطعا قد انتهى، وأن مقطعا جديدا قد جاء، وقد عرض المقطع الأول علينا بعض فرائض الله عز وجل، كما أنه قد عرض بعض الآيات الواضحات، كما أنه ذكرنا ووعظنا، وذلك كله قد تضمنته آيتا البدء والختام.
نقول:
قال ابن تيمية رحمه الله بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ .. والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم، والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة التلذذ بالنظر، كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية، وإذ كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة.
وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله إن النظر إلى وجوه النساء، والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته عبادة، ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة، فهو بمنزلة من جعل الفواحش عبادة قال الله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (الأعراف: 28) ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صور المردان، فهل يقول مسلم إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور النساء نساء العالمين وصور محارمه؛ ويقول إن ذلك عبادة، بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه
كافر مرتد يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو
جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة.
فمن جعل المعاونة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها في دين الإسلام عبادة، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل وهو مضاهاة للمشركين الذين إذا فعلوا الفاحشة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية، وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف ممن جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة.
والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة، فالأول كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة (1)«احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس» ويجوز كشفها بقدر الحاجة كما تنكشف عند التخلي. ولذلك إذا اغتسل الرجل وحده بحيث يجد ما يستره فله أن يغتسل عريانا، كما اغتسل موسى (2) عريانا وأيوب (3)، وكما في
(1) الحديث رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة القشيري الصحابي المشهور قال قلت: يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر فذكر الحديث. وبهز وأبوه ليسا من شرط البخاري ولذلك فقد رواه معلقا.
(2)
حديث اغتسال موسى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر» إلى آخر الحديث المتفق عليه.
صحيح البخاري بشرح فتح الباري 385/ 1.، المنتقى بشرح نيل الأوطار 397/ 1.
(3)
وحديث اغتسال أيوب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك» . صحيح البخاري بشرح الفتح 387/ 1.
اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم يوم (1) الفتح، واغتساله في حديث ميمونة (2).
وأما النوع الثاني من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا نظر لها مستحلا لها كان عليه التعزير، لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة، والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال، فتخصيص الإنسان بالتسبيح نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وذاك لأنه أدل على عظمة الخالق عنده، ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه لما حصل في نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف 31) وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم فإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به.
وقد قال تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (طه: 131) وقال في المنافقين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ
(1) من ذلك حديث أم هانئ بنت أبي طالب: «ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ» . صحيح البخاري بشرح الفتح 1/ 387.
(2)
حديث ميمونة بنت الحارث ورواه عنها ابن عباس قالت: «وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا وسترته فصب على يده فغسلها مرة أو مرتين- قال سليمان (الأعمش أحد رواة الحديث) لا أدري أذكر الثالثة أم لا- ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم ذلك يده بالأرض أو بالحائط، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه وغسل رأسه ثم صب على جسده ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يردها» والحديث رواه الجماعة.
الصحيح بشرح الفتح 375/ 1 المنتقى بشرح نيل الأوطار 278/ 1.
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ (المنافقون: 4) فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم؛ لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة، وذلك أن الإنسان قد
ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى، وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته، وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور، فهذا حسن، وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الخيل والبهائم. وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار والأزهار، فهذا أيضا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم. بقوله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي لا يستعان به على الحق.
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع النظر بالشهوة، أو كان نظرا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره إلى النسوان والمردان، فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي، فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام: أحدها ما تقترن به الشهوة، فهو محرم بالاتفاق، والثاني ما يجزم أنه لا شهوة معه، كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا تقترن به شهوة، إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترن به الشهوة حرم.
وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبي أجنبي، لا يخطر بقلبه شئ من الشهوة، لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرءوس، ويخدمن من الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد، وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزقة التي يخاف فيها الفتنة بهم، إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، وهو النظر إليه كذلك.
وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو النظر إليه بغير شهوة لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان. في مذهب أحمد أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي، وغيره أنه لا يجوز، والثاني يجوز لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره، والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان هذا النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة، وأما النظر لغير حاجة محل الفتنة فلا يجوز.
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه، وقال: إني لا انظر لشهوة، كذب في ذلك، فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك.
وأما نظر الفجأة فهو عفو، إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحاح عن جرير قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال:«اصرف بصرك» رواه مسلم، وأحمد، وفي السنن أنه قال لعلي رضي الله عنه «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية»: وفي الحديث الذي في المسند وغيره «النظر سهم مسموم من سهام إبليس» : وفيه «من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها يوم القيامة» أو كما قال.
ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها كالمرأة والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان، ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى الصور حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع.
ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه
من حدث جميل يجلس إليه، وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن فتنتهم كفتنة العذارى، وما زال أئمة العلم والدين كأئمة الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال: صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان.
ثم النظر يولد المحبة، فتكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيما، والمتيم المعبد، وتيم الله: عبد الله، فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما، وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص كما قال الله في حق يوسف عليه السلام كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 24) فامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبيته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (الحجر:
39، 40) قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر: 42) والغي: هو اتباع الهوى.
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر عن بعضهم من جهال المتصوفة، فإنهم أهل
ضلال، فهم مع مشاركة اليهود في الغي، والنصارى في الضلال، زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا- وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعي في مصالحه وتعليمه وتأديبه، وغير ذلك- فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من نفعه.
وإنما هذا كما يقال إن في الزنا منفعة لكل منهما، بما يحصل له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال: إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية:
وقال تعالى في الخمر والميسر قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما (البقرة: 329) وهذا قبل التحريم، دع ما قاله عند التحريم، وبعده، فإن التعبد بهذه الصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من
باطن الإثم قال الله تعالى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (الأنعام: 120) وقال تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ (الأعراف: 33) وقال تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (الأعراف: 28).
وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين واليهود والنصارى، بل وعما عليه عقلاء بني آدم من جميع الأمم، وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص: 50) وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (النازعات: 40) وقال تعالى وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (سورة ص:
26).
وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهي، وجعل هذا طريقا إلى الله، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة، فقوله هذا أعظم كفرا من قول عباد الأصنام، ومن كفر قوم لوط، فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء يجعلون الله سبحانه موجودا في نفس الأصنام وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل يريدون أنه سبحانه ظهر فيها وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء في الصوفة، والزبد في اللبن والزيت في الزيتون والدهن في السمسم، ونحو ذلك مما يقضي حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده فيها، فيقولون في جميع المخلوقات نظير ما قاله النصارى في المسيح خاصة، ثم يجلون المردان مظاهر الجمال، فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقا إلى استحلال الفواحش بل استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل مشايخهم
…
إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمي وأختي وبنتي، حتى يكون هذا حلالا وهذا حراما؟، قال:
الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم.
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص. إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو بعض الصحابة، كقول الغالية في علي أو ببعض الشيوخ
كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك أو ببعض الصور كصور المردان، ويقول أحدهم: إنما انظر إلى صفات خالقي وأشهدها في هذه الصورة، والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله، ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا، فكيف إذا قاله في صبي أمرد، فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها.
وقد قال تعالى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران: 80) فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله كفارا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله إن الله فيها أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات.
(وأما الفائدة الثانية في غض البصر،) فهو يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (الحجر: 72) فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه كما قيل.
سكران سكر هوى وسكر مدامة
…
ومتى إفاقة من به سكران
وقيل أيضا:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
…
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
…
وإنما يصرع المجنون في الحين
وذكر الله سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان شاه بن شجاع الكرماني (1) لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة أظنه هو أكل الحلال- لم تخطئ له فراسة، والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب.
(الفائدة الثالثة) قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن في الأثر: الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وإن الله جعل
(1) كان رحمه الله ورضي عنه من أولاد الملوك صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري وأولئك الطبقة وكان أحد الفتيان كبير الشان مات قبل الثلاثمائة.
العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه قال تعالى يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8) وقال تعالى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران: 139).
ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله: وكان الحسن البصري يقول: إن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه، وفي دعاء القنوت «إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت» .
والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث وفي الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من يتشبه به مما هو عاص أو فاسق أو كافر، فيظاهر بدعوى الولاية، لله وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة لله، وأهل النفاق والبهتان، والله تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة، والله سبحانه أعلم).
قال الألوسي عند قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ .. :
(فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء، وهي ما بين السرة والركبة، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر الرجل للمرأة، يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة، نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة بشهوة حرم، وإن بدونها لا يحرم. نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال:
أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟»، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شئ من الرجل الأجنبي مطلقا، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، إذا كان بشهوة، ولا تستبعد وقوع هذا النظر، فإنه كثير ممن يستعملن
السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق، أو من الإبداء، أو مما يعم ذلك والإبداء وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور، كالخاتم والفتخة، والكحل، والخضاب، فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب، وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة، كالسوار، والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح والقرط).
(المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة أن مواقع الزينة الظاهرة من الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو داود. وابن مردويه. والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلى الله عليه وسلم» ، وأخرج ابن أبي شيبة.
وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان، ولعل القدمين عندهما كالكفين، إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة، فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات).
وعند قوله تعالى أَوْ نِسائِهِنَّ قال الألوسي:
(المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات، فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال، فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب، ولا فرق في ذلك بين الذمية وغيرها، وإلى هذا ذهب أكثر السلف*
وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر. والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد: فإنه بلعني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان: أصحهما ما عند الغزالي أنها كالمسلمة، وأصحهما عند البغوي المنع، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة، ومقتضاه أنها معها كالأجنبي، واعتمده جمع من الشافعية، وقال ابن حجر.