الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاكلها وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالأنعام وسائر الحيوانات ولهذا قال: يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي بقدرته، لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولهذا قال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يتعذر عليه شئ.
كلمة في السياق:
إن في هذه الآية تدليلا على هداية الله نجده في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ إلا أن الآية في سياقها الرئيسي تدليل على القدرة. فالله الذي خلق من الماء الواحد هذه الأنواع الكثيرة من الأحياء، قادر على كل شئ. والهداية ليست إلا مظهرا من مظاهر القدرة. فإذا تقرر أن الله هو القادر، وأنه الهادي، فكيف لا يسلم له الإنسان شرعا وقدرا؛ فيدخل في الإسلام كله، ويسلم له ويستسلم.
ثم ختم الله المقطع بآية شبيهة بالآية التي ختم بها المقطع السابق فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال وغيرها ما هو معجزات ودلائل واضحات وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بلطفه ومشيئته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته، لاحظ الصلة بين قوله تعالى: في هذه الآية وَاللَّهُ يَهْدِي وبين بداية المقطع: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هاديهما، ولاحظ صلة هذه الآية بقوله تعالى في محور السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
فوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ
…
قال النسفي: (وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معين ولا مشهود. فأبو تمام لما قال في المأمون:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قيل له إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلا:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلا من المشكاة والنبراس
2 -
في الضمير في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ قولان: أحدهما أنه عائد إلى الله، والثاني أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام الآتي. فعلى القول الأول صار المعنى: أن مثل هدى الله الذي هدى به المؤمن في القوة والوضوح وبيان الحجة وفوقها كمثل ما ذكر، فإذا بقي قلب لم يهتد فما ذلك إلا لعماه، أو أن المعنى على هذا القول: مثل هدى الله في قلب المؤمن كمثل مشكاة فيها مصباح، أي هداه في قلب المؤمن في غاية الإنارة والوضوح، وعلى القول الثاني في الضمير: يكون المعنى: مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهر، وما يستهدي به من القرآن والشرع، بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف، أي شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه بالمثل المذكور فهو يشبه قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فالمشكاة جسد المؤمن، والزجاجة قلبه، والمصباح الفطرة، والزيت شريعة الله المتميزة، التي ليست بشرقية ولا غربية، أي ليست بشرية.
ويفهم من هذا أن الفطرة إذا انقطع عنها مدد الشريعة بالإيمان والعمل انطفأت، كما ينطفئ المصباح لو لم يكن له مدد يستمد منه. ويفهم من هذا أن نور الفطرة قوي جدا، ويفهم من هذا أن ما أنزل الله من الهدى في غاية الصفاء، ونصوع الحجة.
المشكاة هي الجسد؛ إذ هو مركز تجمع النور، والزجاجة القلب، والمصباح الإيمان، والزيت العمل بالشريعة، ولا نور إلا بعمل، فمن افتقد النور فعليه بالعمل.
3 -
في شرح قوله تعالى زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قالوا: إنها في مستوى من الأرض، في مكان فسيح باد، ظاهر، ضاح للشمس، تقرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف.
وأقوى الأقوال في هذا النص: أن هذا مثل ضربه الله تعالى لشريعته، وهناك اتجاهات أحرى ذكرها ابن كثير، من ذلك ما قاله شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن
يضيء.
ومن الأقوال في النص ما ذكره ابن كثير عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ رجل صالح لا يهودي ولا نصراني.
فعلى هذين الاتجاهين في التفسير- فإن مدد الفطرة إلى القلب لا يستمر إلا إذا وجدت تغذية من رجل صالح، من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وهذا معنى ينبغي أن يفطن له المربون، وقد ركز عليه بعض الصوفية إلا أن الكثير منهم خلطه بطامات كثيرة. وقد ذكرنا في بعض كتبنا على ضرورة إحياء رتبة الربانية لاستئناف الحياة الإسلامية.
4 -
بمناسبة قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ قالوا: أي هذا النور الذي شبه به الحق في قلب المؤمن نور متضاعف، قد تناصر فيه المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والزيت، حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره، كما نرى ذلك في مصابيح السيارة والكشافات، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه، والقنديل أعون شئ على زيادة الإنارة، كما نرى ذلك في المصابيح الكهربائية، ونور زيت الزيتون الصافي على غاية من الصفاء والقوة.
وقال السدي في تفسير قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن، ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
وهذا يؤكد تفسيرنا أن الإيمان في القلب هو السراج، والزيت هو الشريعة، والعمل بها. قال أبي بن كعب في تفسير قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ: يتقلب (أي المؤمن) في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة. فكأنه أراد أن يقول إن المؤمن في نور متضاعف متزايد في حاله كله، في يومه وغده، في دنياه وأخراه، ما دام قد اجتمع نور الإيمان ونور القرآن.
5 -
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية، المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي
لمساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها، ويوحد فقال تعالى فِي بُيُوتٍ
…
فكأن معدن هذه القلوب هي هذه المساجد، وهذه إشارة واضحة إلى أن التربية الإيمانية الكاملة إنما تكون في المسجد، إذ هي وحدها التي تتوافر فيها شروط التربية الصالحة.
والجار والمجرور في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
إما أن نعلقه ب (كمشكاة) وإما أن نعلقه ب (يوقد) السابقين في الذكر، وإما أن نعلقه ب (يسبح) المتأخر والتعليقان الأولان أقوى، فعلى التعليق الأول إنما يأخذ النور الكامل
من حياته في المسجد، وعلى التعليق الثاني نفهم أن إمداد القلب بالشريعة ومن أهلها إنما يكون داخل المسجد. قال قتادة في تفسير (البيوت) في الآية: هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها، وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول:(مكتوب في التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي، أكرمته، وحق على المزور كرامة الزائر) ومعنى أذن هنا أمر بدليل ما بعده، إلا أن مع الأمر يوجد الإرادة المشرفة، فقد شاء الله لهذه البيوت أن تكون معدنا للخير، وفي (أن ترفع) تفسيران: تفسير الرفعة بالرفع الحسي، فهو أمر ببنائها وتشييدها، وتفسير الرفعة بالرفع المعنوي، فهو أمر بتعظيمها، ولا شك أن المسلمين مأمورون بهذا وهذا، وموعودون على هذا وهذا الخير الكثير، ومما يدخل تحت الرفع المعنوي: عدم اللغو فيها ولا يدخل في الرفع الحسي زخرفتها.
6 -
بمناسبة قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أقول: دلت الآية على أن أصحاب القلوب المذكورة لهم عمل صالح، وحال خائف، فيا ويح المقصرين بالعمل، ويا ويح الغافلين الآمنين.
روى النسائي عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق» .
7 -
تشبيه المؤمن بالمشكاة دليل على أن جسد المسلم هو مركز تجمع النور، ومركز توجيهه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن الكامل ينير للناس الطريق، ويرى الناس
به الحقائق.
8 -
بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن كثير: (وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله». الحديث. وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه).
أقول: إن كثيرا من الناس أخطأ فهم كلمة ابن مسعود هذه، والمهم ألا نفهم أن نور الله كالأنوار المحسوسة، وأن ننزه الله عن أن يكون شئ من الأشياء بمثابة الجزء من الله- تعالى الله عن ذلك- قال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (الزخرف: 15).
9 -
في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ تلخيص لكل آداب المسلم مع المساجد، فأدب المسلم مع المساجد تعظيمها، وذكر الله فيها، وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: (وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها، وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءا على حدة، ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر هنا طرفا من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان، فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» . أخرجاه في الصحيحين. وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة» وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله. والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي، ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم، وإياك، أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس».
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلا أنشد
في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» . رواه مسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد» . رواه أحمد وأهل السنن. وقال الترمذي حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك» رواه الترمذي وقال حسن غريب، وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا قال:«خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه، ولا يقتص فيه أحد، ولا يتخذ سوقا» وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنبوا المساجد صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» ورواه ابن ماجه أيضا وفي إسنادهما ضعف. أما إنه لا يتخذ طريقا فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة، إذا وجد مندوحة عنه. وفي الأثر «وإن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه» وأما أنه لا يشهر فيه بسلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر رجل بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي أحدا، كما ثبت ذلك في الصحيح. وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه. كما نهيت الحائض عن المرور فيه، إذا خافت التلويث، وأما أنه لا يضرب فيه حد، ولا يقتص منه، فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب، أو المقطوع، وأما أنه لا يتخذ سوقا، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه. كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد «إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها» ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني: «جنبوا مساجدكم صبيانكم» وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة- وهي الدرة- وكان يعس المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا «ومجانينكم» يعني لأجل ضعف عقولهم، وسخر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك «وبيعكم وشراءكم» كما تقدم
«وخصوماتكم» يعني التحاكم والحكم فيه. ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره، لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه، ولهذا قال بعده:«ورفع أصواتكم» .
روى البخاري عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. وقال النسائي
…
عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال:
أتدري أين أنت؟ وهذا أيضا صحيح. وقوله: «وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم» تقدما وقوله «واتخذوا على أبوابها المطاهر» يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء، وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون ويتوضئون وغير ذلك. وقوله:«وجمروها في الجمع» يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ. وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي:
…
عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة.
إسناده حسن لا بأس به والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«صلاة الرجل في الجماعة يضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا» . وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدارقطني مرفوعا «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي السنن «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول:«أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم. وروى مسلم بسنده عن أبي حميد- أو أبي أسيد- قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك». ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم
المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وروى الإمام أحمد عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال:
«اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك» . ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى. فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.
10 -
وبمناسبة قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قال ابن كثير (وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» .
وروى الإمام أحمد عن السائب مولى أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وقال أحمد أيضا: عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» قال فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى» لم يخرجوه؛ هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب، كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» رواه البخاري ومسلم، ولأحمد وأبي داود «وبيوتهن خير لهن» وفي رواية «وليخرجن وهن تفلات» أي لا ريح لهن.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا» وفي الصحيحين
عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل).
11 -
رأينا في التفسير وفيما نقلناه من فوائد أهمية المساجد في دين الله، ومن ثم فإننا دعونا في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) إلى إحياء المساجد بحلقات العلم والذكر. وفصلنا في ذلك، وبينا أن هذا هو الطريق لإحياء الإسلام في كثير من مناطق العالم الإسلامي، وفصلنا هناك ما ينبغي فعله من أجل أن يقوم هذا الأمر على كماله وتمامه. وتعرضنا للموضوع نفسه في أكثر من مكان من سلسلة (في البناء).
12 -
قلنا إن هناك اتجاهين في فهم قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الأول أن هؤلاء متفرغون للعبادة. والثاني: أنهم لا يلهيهم العمل مع وجوده عن القيام بالواجبات الدينية. قال ابن كثير: (قال هشيم عن شيبان قال:
حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة. فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الآية. وهكذا روى عمرو ابن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ما يسرني أني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال، ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
أقول: هذا يدل على أن أبا الدرداء قد فهم النص على أن المراد به التفرغ للعبادة، والأكثرون على غير ذلك، قال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله، ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا سالم هذه الآية رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ثم قال: هم هؤلاء. وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الوراق: كانوا يبيعون
ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يقول: عن الصلاة المكتوبة، وكذا قال مقاتل بن حيان، والربيع بن أنس. وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا علي مواقيتها وما استحفظهم الله فيها».
13 -
عند قوله تعالى يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ قال ابن كثير: (وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا، فكلهم لم يشربه؛ لأنه كان صائما، فتناوله ابن مسعود فشربه، لأنه كان مفطرا، ثم تلا قوله يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ).
14 -
وعند قوله تعالى لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ذكر ابن كثير ما رواه الطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: أجورهم يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا».
15 -
في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم تحدثنا أثناء الكلام عن المعجزة القرآنية عن ما اكتشفه علماء البحار من أن هناك نوعين من الأمواج، في بعض البحار العميقة أمواجا باطنية هي أشد وأعتى من الأمواج الظاهرية، والأمواج الظاهرية المعروفة، وهي قضية لم يعرفها الإنسان إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، فإن يذكر الله عز وجل هذا المعنى في القرآن فذلك من أكبر الأدلة على أن منزل هذا القرآن هو المحيط علما بكل شئ.
16 -
بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بمناسبة هذه الآية قلنا إن في هذا النص معجزة علمية وفي ذلك يقول موريس بوكاي: في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) تحت عنوان (الكهرباء الجوية) قال:
الكهرباء الجوية ونتائجها الصواعق والبرد مشار إليها في الآيات التالية: سورة الرعد الآيتان (12، 13).
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.
سورة النور الآية (43). أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ.
وفي هاتين الآيتين تعبير عن علاقة واضحة بين تشكل سحب المطر الثقيلة، أو البرد ووقوع الصاعقة).
وقال صاحب الظلال: (إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثم تؤلف بينه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل
الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة
…
ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحاب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها، وانخفاضاتها، وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلا بعد ما ركبوا الطائرات).
17 -
بمناسبة قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ نذكر بالحديث الذي رواه الحارث الأعور عن الإمام علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن: «فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله
…
».
***