الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها، ومحرمها، ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي: المذهب أنها كالمسلمة، والمراد بنسائهن جميع النساء، وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم
فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات).
الفوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذكر ابن كثير مجموعة من آداب الاستئذان وأدلتها. ونحن نجتزئ لك من كلامه ما يلي: (قال: وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف» فقال عمر: لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربا، فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فأخبر عمر بذلك، فقال ألهاني عنه الصفق بالأسواق.» وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد
…
عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فرد سعد ردا خفيا قال قيس: قلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال دعه يكثر علينا من السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام؛ قال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» . قال ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حمارا قد وطئ عليه بقطيفة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اركب» فأبيت فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» قال: فانصرفت، وقد روي هذا من وجوه أخرى فهو حديث جيد قوي والله أعلم. ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول «السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، انفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضا حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير حينئذ قال أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال جاء رجل فقال عثمان: سعد، فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «هكذا عنك- أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر» وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود من حديثه، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح» وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب فقال:«من ذا» فقلت أنا، قال: أنا أنا؟! كأنه كرهه، وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه، أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقد روى الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبإ وجداية وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم استأذن، فقال صلى الله عليه وسلم «ارجع فقل السلام عليكم أأدخل» . وذلك بعد ما أسلم صفوان. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به، وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وروى أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «أخرج إلى هذا
فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل» فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وقال هشيم أخبرنا منصور عن ابن سيرين وأخبرنا يونس عن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أألج أو أنلج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة:«قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول السلام عليكم أأدخل» فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل فقال «ادخل» .
وقال هشيم أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم. وأخواتكم. وقال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وأنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال.
قال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً الآية. وقال ابن جريج سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات جحدهنّ الناس. قال الله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات: 13) قال:
ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتا، قال والأدب كله قد جحده الناس، قال قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم فرددت عليه ليرخص لي، فأبى فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن، قال فراجعته أيضا: أتحب أن تطيع الله؟ قال قلت: نعم. قال فاستأذن. قال ابن جريج وأخبرني ابن
طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم قال: وكان يشدد في ذلك وقال ابن جريج عن الزهري: سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم، وقال ابن جريج قلت لعطاء أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود، عن زينب رضي الله عنها قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. إسناده صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا الأعمش عن
عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته. وقال مجاهد حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال تنحنحوا أو تنخموا. وعن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا، وفي رواية ليلا يتخونهم، وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال:«انتظروا حتى ندخل عشاء- يعني آخر النهار- حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة» . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن واصل بن السائب، حدثنا أبو ثورة بن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله هذا السلام فما الاستئناس؟ قال «يتكلم الرجل بتسبيحة، أو تكبيرة، أو تحميدة، ويتنحنح، فيؤذن أهل البيت» هذا حديث غريب، وقال قتادة في قوله تعالى حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا هو الاستئذان ثلاثا، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع، أما الأولى فليسمع الحي؛ وأما الثانية فليأخذوا حذرهم.
وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حييت صباحا، وحييت مساء. وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: قد دخلت ونحو ذلك، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله. فغير الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها الآية وهذا الذي قاله مقاتل حسن).
2 -
بمناسبة قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
…
قال ابن كثير: (هو أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد
…
عن جرير بن عبد الله البجلي
رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري وكذا رواه الإمام أحمد
…
وفي رواية لبعضهم فقال «أطرق بصرك» يعني: انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى، والله أعلم، وقال أبو داود
…
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات» ، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» وقال أبو القاسم البغوي حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضيل بن حسين، سمعت أبا أمامة يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة، إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» وفي صحيح البخاري «من يكفل لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أكفل له الجنة» وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: كل ما عصي الله به فهو كبيرة، وقد ذكر الطرفين فقال قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب. ولذلك أمر الله بحفظ الفروج، كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك فقال تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا، كما قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية (المعارج: 29). وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر لقلوبهم واتقى لدينهم، كما قيل:
من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، ويروى في قلبه. وروى الإمام أحمد حدثنا عتاب حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يحيى بن أبي أيوب عن عبيد الله بن زحر، عن علي ابن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروى هذا مرفوعا عن أبي عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم، ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه، وفي
الطبراني من طريق عبيد الله بن يزيد عن علي بن
يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا «لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم» .
وقال الطبراني حدثنا أحمد بن زهير التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقري حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا حريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ كما قال تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر: 19) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» رواه البخاري تعليقا، ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما ذكر. وقد قال كثير من السلف إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل نظره إلى الأمرد وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أهل العلم؛ لما فيه من الافتتان، وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا، وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدني حدثنا عمر بن سهل المازني حدثني عمر بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل عين باكية يوم القيامة، إلا عينا غضت من محارم الله، وعينا سهرت في سبيل الله، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز وجل.
3 -
ذكر ابن كثير مجموع ما قاله العلماء في الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ
…
ونلاحظ أن بعض الآيات كان للعلماء فيها وجهتا نظر، كستر الوجه مثلا، فمنهم من يعتبره مفروضا، وقد عرض ابن كثير أدلة الطرفين، والذي نراه في هذا الموضوع وغيره أن القول الأدنى هو الرخصة، والقول الأعلى هو العزيمة، وما دام المسلم في الأدنى فلا حرج، وإذا ارتقى إلى الأعلى فذلك الأكمل، وهذه وجهة نظر لبعضهم، إذ يرى أن كل ما اختلف فيه أئمة الاجتهاد فإنه يدور ما بين رخصة وعزيمة، والورع هو الأطيب، ولا يحق للآخذ بالرخصة أن ينكر على من يبتغي الكمال، كما ليس للعامل في العزيمة أن يطالب كل الناس بالحد الأعلى، ثم إذا ترجح لأحد وجهة نظر لدليل- وخاصة إذا كان من أهل النظر- فعليه أن يعمل به، وله أن يدعو له
بالإحسان، ولكن ليس له أن يشتد على من خالفه ما دام على رأي للأئمة، وفي هذا المقام نحب أن نسجل ملاحظة: هي أن هناك أقوالا تسع عصرا من العصور، فمن المصلحة في هذه الحالة ألا نعارض مثل هذه الأقوال، إذا كان عليها بعض أئمة الاجتهاد، لأن طاقة الناس ليست واحدة في مجابهة الضغوط الاجتماعية، فإذا اتضح هذا المقام فلننقل كلام ابن كثير كله في هذه الآية؛ فإنه استوعب الأقوال كلها قال في الآية: (هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عبادة المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية، وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكر مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية، فقوله تعالى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري
…
أن أم سلمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة فقالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احتجبا منه» فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوعمياوان أنتما، أو ألستما تبصرانه؟» ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم، حتى ملت ورجعت. وقوله وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ قال سعيد بن جبير: عن الفواحش، وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن، وقال مقاتل: عن الزنا، وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الآية وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أن لا يراها أحد، وقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه،
ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة، وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب وقال الزهري: لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم، وقال مالك عن الزهري إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الخاتم والخلخال، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين،
وهذا هو المشهور عند الجمهور ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه، حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هو مرسل. خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها والله أعلم، وقوله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني المقانع، يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها؛ ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية؛ فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شئ، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ (الأحزاب: 59) وقال في هذه الآية الكريمة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمر: جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع. قال سعيد بن جبير وَلْيَضْرِبْنَ وليشددن بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شئ وقال البخاري وقال أحمد بن شبيب:
حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضا حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول لما نزلت الآية وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثني الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، وأشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات، كأن على رءوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبة به، وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرقرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به، وقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر بزينتها، ولكن من غير تبرج، وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى- يعني ابن هارون- حدثنا أبو بكر- يعني ابن أبي شيبة- حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ حتى فرغ منها وقال: لم يذكر العم، ولا الخال، لأنهما ينعتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال، فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره. وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد؛ فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك
حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» وأخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحارث بن قيس أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله أَوْ نِسائِهِنَّ قال: نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة. وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أَوْ نِسائِهِنَّ قال: هن المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط والوشاح، وما لا يحل أن يراه إلا محرم، وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة؛ لأن الله تعالى يقول أَوْ نِسائِهِنَّ فليست من نسائهن. وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة، فأما ما رواه ابن أبي حاتم عن عطاء قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات، فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة، أو أن ذلك من باب الامتهان، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد والله أعلم.
وقوله تعالى أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال ابن جرير يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها، وإن كانت مشركة لأنها أمتها، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وقال الأكثرون بل يجوز لها أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقي قال:«إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» . وقد ذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته. ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين، وكان من أشد الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه»
ورواه أبو داود عن مسدد عن سفيان به. وقوله تعالى أَوْ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله، ولا هم لهم إلى النساء ولا يشتهونهن. قال ابن عباس:
هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد: هو الأبله، وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف. وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة، يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة يستطعم. وروى الإمام أحمد عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها مخنث وعندها عبد الله ابن أمية يعني أخاها والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، قال فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة «لا يدخلن هذا عليك» أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة. وقال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنثا، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة، فقال:
إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكم هذا» فحجبوه ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة. وقوله تعالى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يعني لصغرهم، لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية، وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إياكم والدخول على النساء» قيل يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال «الحمو الموت» وقوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق، وفي رجلها خلخال صامت، لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذا إذا كان شئ من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي ولقوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ إلى آخره، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، فيشم الرجال طيبها، فقد قال أبو
عيسى الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» . يعني زانية، قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حسن صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به. وقال أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة شم منها ريح الطيب، ولذيلها إعصار، فقال يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت: نعم. قال لها:
تطيبت؟ قالت: نعم. قال إني سمعت حبيبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة» ورواه ابن ماجه. عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضا من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها» .
ومن ذلك أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق، لما فيه من التبرج قال أبو داود عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء:
«استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة، والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان).
4 -
عند قوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن كثير: (هذا أمر بالتزويج وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قدر، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«تزوجوا الولود تناسلوا؛ فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» وفي رواية «حتى بالسقط» والأيامى: جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له،
وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال رجل أيم وامرأة أيم وقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى فقال إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال ابن أبي حاتم
…
أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعن ابن مسعود «التمسوا الغنى في النكاح» يقول الله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه وعن الليث
…
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» وقد زوج النبي صلى الله
عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يكن عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له، ولم أره باسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن. وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة).
5 -
وعند قوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن كثير: (هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» الحديث، وهذه الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله تعالى وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم، لأن الولد يجئ رقيقا قال عكرمة في قوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً قال هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر إلى ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله).
6 -
رأينا أن هناك اتجاهين للمفسرين في قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْراً هل هذا الأمر للندب أو هو للوجوب، ولننقل كل ما قاله ابن كثير في هذا الموضوع: ثم نعقب تعقيبا خفيفا على موضوع الرق.
قال ابن كثير: (هذا أمر من الله تعالى للسادة، إذا طلب عبيدهم منهم أن يكاتبوهم، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة، إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه، قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، وكذا روى ابن وهب
…
عن عطاء بن أبي رياح: إن يشأ كاتبه، وإن يشأ لم يكاتبه، وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري، وذهب آخرون إلى إنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذا بظاهر هذا الأمر. وقال البخاري، وقال روح ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبا، وقال عمرو بن دينار قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا، ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة، وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال: كاتبه، فأبى فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فكاتبه هكذا ذكره البخاري معلقا، ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟
قال ما أراه إلا واجبا. وقال ابن جرير
…
عن أنس بن مالك أن سيرين أراد أن يكاتبه فتلكأ عليه، فقال له عمر لتكاتبنه. إسناد صحيح، وروى سعيد بن منصور
…
عن الضحاك قال: هي عزمة، وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس» وقال ابن وهب قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده، قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى، وإذن منه للناس، وليس بواجب، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية وقوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال بعضهم أمانة، وقال بعضهم صدقا، وقال بعضهم مالا، وقال بعضهم حيلة وكسبا، وروى أبو داود في المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال تعالى «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس» .