الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها، فنذكر بعض أنواعها، وساق اثنين وعشرين نوعا في بضع عشرة ورقة ثم قال: لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره، لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، ثم قال: وهل إبطال الحكم والمناسبات، والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل. وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ ثم قال: والحق الذي لا يجوز غيره، هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة) أهـ.
كلمة في السياق:
أحصت هذه المجموعة من الآيات مجموعة الأسباب التي تجعل هؤلاء يغفلون عن الحساب ويعرضون عن الحق، وفندتها كلها، وأبطلتها، وإذا كان الأمر كذلك فليس إلا الجهل هو سبب الغفلة والإعراض.
إن الصلة بين هذه المجموعة وسياق السورة الخاص من حيث إن السورة تعلل أسباب الغفلة والإعراض وتفندها، واضحة، وقد مر معنا ما فيه الكفاية في ذلك، والصلة بين هذه المجموعة، وبين محور السورة من سورة البقرة كذلك واضحة ففي سورة البقرة:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وهذه المجموعة تبين علة كفر هؤلاء، وهي الجهل الذي يترتب عليه إعراض، ومن اجتمع له الجهل والإعراض، فهو لا يسمع ولا يرغب أن يسمع، ومن ثم فالكلام معه وعدمه سواء.
فوائد:
1 -
دل قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ على أن من لا يملك النشر- أي إحياء الموتى- لا يصح أن يكون إلها وإذا كان الله تعالى وحده هو القادر على كل شئ، فهو وحده القادر على النشر، فهو وحده الإله، وفي ذلك تقريع لمن نسي الحساب، وتقريع لمن اتخذ معه إلها.
2 -
من أعظم الأدلة التي ذكرها القرآن على التوحيد هو قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
ويسمي العلماء هذا الدليل على الوحدانية ببرهان التمانع، وقد شغل هذا البحث عشرات الصفحات من كتب المصنفين في علم الكلام، وأنت تعجب عند ما تقرأ هذه المباحث الطويلة، كيف أن هذا التعبير القصير يدخل إلى القلب، وإلى العقل، بما لا مزيد عليه، ثم إنه يعجز البشر عن أن يستوعبوا حدود آفاقه، وبمناسبة هذا النص ذكر الألوسي كلاما كثيرا للعلماء فيما سمي- باصطلاح العلماء- ببرهان التمانع، ونحن ننقل لك هاهنا عنه بعض ما نقله عن الدواني: قال الدواني: (إن للتمانع عندهم معنيين: أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور، والآخر عدمه، وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر فيه، وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم لو تعدد الإله لم يوجد شئ من الممكنات؛ لاستلزامه أحد المحالين، إما وقوع مقدور بين قادرين، وإما الترجيح بلا مرجح، وحاصل البرهان عليه: أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال، لأمكن بينهما تمانع، واللازم باطل؛ إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم: إما أن لا يقع مصنوع أصلا، أو يقع بقدرة كل منهما، أو بأحدهما. والكل باطل، ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما؛ لتخلف مراد كل منها عن إرادته، فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال، وقد فرضا كذلك؛ ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين، إما إمكان التوارد، وإما إمكان الرجحان من غير مرجح، والكل محال؛ وبهذا الاعتبار- مع حمل الفساد على الكون- قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه، ودليل قطعي من وجه آخر والأول بالنسبة إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص.
3 -
عرفنا الله عز وجل على ذاته تعريفا كاملا بالقدر الذي يحتاجه الإنسان، وتقوم به الحجة على الإنسان في التدليل على وجود الله، وعلى اتصافه بالصفات العليا، والأسماء الحسنى، وبالقدر الذي تقوم به الحجة على حكمة الله في أفعاله وأحكامه، وبالقدر الذي يحتاجه المكلف، وتقوم به الحجة على التكليف، وعلى الجزاء والعقاب،
أما ما فوق ذلك فقد أخبرنا الله عز وجل عن ذاته بقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إن كثيرين من الناس يوغلون في بعض المباحث إلى الحد الزائد عما تقوم به الحجة، وهاهنا يقعون في الخطأ لأن هذا مقامه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فمثلا: في الدعوة إلى الله علينا أن نبرهن على أن الله موجود، وعلى أنه أرسل رسولا، وعلى أنه
أنزل وحيا، وعلينا أن نعرف على الله، وعلى أن الإنسان مسئول أمامه، وفي عملية التعريف على الله نذكر أن كل شئ بعلمه وإرادته وقدرته، وفي عملية التعريف على مسئولية الإنسان نثبت أن الإنسان مكلف مختار، ونبرهن على أن اختيار الإنسان لا يتنافى مع إحاطة العلم والإرادة والقدرة، لأن القدرة تعمل على وفق الإرادة، والإرادة تعمل على وفق العلم، والعلم كاشف لا مجبر، عند هذا الحد يقف الكلام، فلو جادلنا مجادل فقال: لم أراد الله ما أراد؟ نقول: الحكمة معروفة وموجودة، ولكن ما بعد ذلك لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ إن معرفة هذا الموضوع من أهم ما ينبغي أن يعرفه المسلم، ومن أعظم ما ينبغي أن يتذكره الإنسان في سيره العقلي إلى الله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
لم خلق الله الشر؟ لم خلق الألم في هذه الدنيا؟ الجواب: لكل ذلك حكمة يمكن البحث عنها، ولكن في النهاية لا بد أن يكون واضحا أن أحدا ليس من حقه أن يسأل الله فالله هو الرب، وهو الذي من حقه أن يسأل، إن التسليم لله تعالى هو غاية العقل، وهو غاية الحكمة أما أنه هو غاية العقل فلأن بداهة الفطرة تقول: إن الله وحده له العلم المحيط، والحكمة البالغة؛ ومن ثم فلا يحيط بأسرار فعله إلا هو، فغاية العقل أن يعرف حدوده بالتسليم لله، وأما أن التسليم لله غاية الحكمة، فلأن الاعتراض دأب الجاهلين، ولم يكن جاهل في يوم ما حكيما، إن الإنسان مقامه العبودية لله، والمسئولية أمامه، فإذا قلب الإنسان الآية فإنه يكون من الجاهلين بجلال الله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
4 -
نلاحظ أنه قد ذكر موضوع اتخاذهم الآلهة مرتين في هذه المجموعة: الأولى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ والثانية أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.
فما حكمة ذلك؟
يلاحظ أنه قيدت الإلهية المتخذة في الآية الأولى بالأرض، بينما لم تقيد في الآية الثانية، فكأن الآية الثانية تتحدث عن اتخاذهم آلهة من الأرض وغيرها، وللنسفي تعليل آخر قال:(الإعادة لزيادة الإفادة، فالأول للإنكار من حيث العقل، والثاني من حيث النقل، أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك، فقيل لمحمد: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي هذا نقلي وذاك عقلي اهـ) عن النسفي بتصرف.
5 -
فسرنا قوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أن المراد بذكر
من معي القرآن الذي هو ذكر هذه الأمة، وأن المراد بذكر من قبلي: الكتب السابقة، ولكننا نحتمل أن يكون المراد القرآن في المرتين، فالقرآن فيه ذكر هذه الأمة، وفيه الذكر الذي أنزل على كل الأمم السابقة، وعلى القول الأول فقد دل قوله تعالى هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أن الكتب السماوية كلها قد دعت إلى التوحيد الخالص، وهذا شئ بديهي فيها، ومع أنها الآن محرفة ومبدلة- كما أثبتنا ذلك أكثر من مرة- فإنه بقي فيها حتى الآن ما يدل على أن التوحيد الخالص هو دعوة الأنبياء جميعا، وقد حاول سيف الله أحمد فاضل في تعقيباته على إنجيل برنابا أن ينقل طرفا من ذلك فاستوعبت نظرته كتب العهد القديم والجديد، قال: وقد وردت لا إله إلا الله في أسفار العهد القديم والجديد (الكتب التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون حاليا) وأبين بعضها فيما يلي: (لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له؛ لأني أنا الرب إلهكم)(سفر اللاويين 26: 1) أي أن كل حجر مصور لا يمكن أن يكون إلها بل هو وثن.
(الرب هو الإله ليس آخر سواه)(سفر التثنية 4: 35)(اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك)(سفر التثنية 6: 4، 5) أي لا تحب إلا الرب بكل ما أعطيت (فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه). (سفر التثنية 7: 9)(فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك)(سفر التثنية 10: 12)(الرب إلهك تتقي إياه تعبد) أي تعبده لا تعبد غيره (وباسمه تحلف)(سفر التثنية 10: 12) أي إذا حلفت فاحلف باسم الله- وفي سفر التثنية 13: 4 (وراء الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وإياه تعبدون).
(انظروا الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون» .. (وإياه تعبدون).
انظروا الآن. أنا أنا هو وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي وليس من يدي مخلص). (سفر التثنية 32: 39) - وتعني ليس من يدي مخلص: أي أنه لا شفيع ولا وكيل من دونه (ليس قدوس مثل الرب لأنه ليس غيرك)(سفر صموئيل الأول 2: 2)، (ولا تحيدوا عن الرب بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم. ولا تحيدوا.
لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة). (سفر صموئيل الأول:
12: 20، 21). (لذلك قد عظمت أيها الرب الإله لأنه ليس مثلك وليس إله
غيرك). (سفر صموئيل الثاني 7: 22): (أيها الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك). (سفر الملوك الأول 8: 33) «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر). (سفر الملوك الأول: 8: 60)(الرب هو الله الرب هو الله)(سفر الملوك الأول 18: 39) (أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أفواه لا تتكلم. لها أعين لا تبصر. لها آذان ولا تسمع. كذلك ليس في أفواهها نفس. مثلها يكون صانعوها وكل من يتكل عليها. يا بيت إسرائيل باركوا الرب
…
) (من مزمور 135: 15: 20)(اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله)(سفر الجامعة 12: 13)(أنا الرب هذا اسمي لا أعطيه لآخر)(سفر أشعياء 42: 8) (إني أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس
غيري مخلص) (سفر أشعياء 43: 10، 11)(أنا الأول والآخر ولا إله غيرى) .. (وما أعلمتك منذ القدم وأخبرتك فأنتم شهودي. هل يوجد إله غيري)(سفر أشعياء 44: 8)(أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي. نطقتك وأنت لم تعرفني لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري. أنا الرب وليس آخر)(سفر أشعياء 45: 5، 6)(أنا الرب وليس آخر)(سفر أشعياء 45: 18)(أليس أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر) سفر أشعياء 45: 21) (اذكروا الأوليات من القديم لأني أنا الله وليس آخر الإله وليس مثلي) سفر أشعياء 46: 9 «وإني أنا الرب إلهكم وليس غيري) سفر يوئيل 2: 72).
وفي إنجيل مرقص يقول المسيح عليه السلام: (إن أول كل الوصايا: هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى)(إنجيل مرقص 12: 29، 30) فقال له الكاتب (وهو نيقوديموس على ما بينه إنجيل برنابا)(بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه)(إنجيل مرقس 12: 32) فأعجب المسيح عليه السلام برده وقال له: (لست بعيدا عن ملكوت الله .. (إنجيل مرقص 12: 34).
***