الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله .. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية، وإشراق وطهارة.).
ومن تقديم الأستاذ المودودي لسورة النور نأخذ هذه الفقرة:
(والذي يجدر بالملاحظة أن سورة النور خالية من المرارة التي قد تنشأ في الأذهان والقلوب عند رد الحملات الشنيعة القذرة. انظر في جانب في الظروف التي نزلت فيها هذه السورة، وانظر في الجانب الآخر في ما تشتمل عليه من الموضوعات، تعرف أي رزانة وتدبر معتدل وترفع عظيم وحكمة بالغة علينا أن نواجه به الفتن ونعالجها في أقسى الظروف المثيرة للعواطف، بل يثبت لنا في الوقت نفسه أن ليس هذا الكتاب مما اختلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، بل قد أنزله عليه الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولو أن هذا الكتاب كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، لكان ظهر فيه- على كل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر والأناة ورحابة الصدر وتحمل الشدائد- ولو بعض أثر للمرارة التي لا بد أن يجدها كل إنسان عفيف في نفسه إذا أصيب في عرضه).
كلمة في سورة النور ومحورها:
فكرت كثيرا أي آية يمكن أن تكون محور سورة النور من البقرة، بحيث تأتي بعد محور سورة (المؤمنون) وقبل محور سورة الفرقان؟ فوقع في النفس أولا أن محورها هو قوله تعالى وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (البقرة:
99) إلا أنني لاحظت أنه قد جاء في سورة المؤمنون قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً (الآية: 51) وهو يشبه قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً (الآية: 168) ويشبه قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
…
(الآية: 172) فافترضت أن يكون المحور متأخرا على هذه الآيات ولذلك فقد استقر القلب على أن محور سورة النور هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 208، 209).
ولنتساءل ما الذي دلنا على أن هاتين الآيتين هما محور السورة؟
نلاحظ أن الآية الأولى في السورة هي:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
كما نلاحظ أن الآية (34) كانت وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ كما نلاحظ أن الآية (46) كانت: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
فذكر البينات والمبينات في هذه الآيات، وكون السورة تفصل أحكاما من الإسلام، وورود النهي عن اتباع خطوات الشيطان فيها، كل ذلك دلنا على أن هاتين الآيتين هما محور سورة النور.
ونلاحظ أن السورة تتردد فيها كلمة الآيات كثيرا: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18). كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58).
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59). كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61). لاحظ صلة هذه الخواتيم للآيات بقوله تعالى:
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
إن هذه السورة نموذج على الآيات البينات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ثم تجد فيها روائع التشريع وروائع الأسلوب، وروائع الانتقال، وذرى البلاغة، والقرآن كله كذلك، ولكن هذه الأمور في هذه السورة تكاد تكون أظهر، إن في هذه السورة من التصوير أروعه، ومن التمثيل أروعه، ومن التشريع أروعه، ومن الإنذار أروعه، ومن التبشير أروعه، ومن التأديب أروعه، ومن ثم فإن من فهم هذه السورة وعرف أسرارها أدرك من أسرار البيان القرآني وأسرار الإعجاز ما به تشرق أنوار اليقين على قلبه فتغمره.
إنك تجد فيها مقاطع كل مقطع له نكهة خاصة، وله بداية ونهاية خاصتان، وفي كل مقطع جمال وجلال وأسرار، إنها سورة اجتمع فيها من الأناقة والرشاقة في اللفظ والموضوع والتسلسل والتوجيه ما هو النموذج لإدراك أن هذا القرآن آيات بينات.
إن محور السورة هو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن ثم نلاحظ أن السورة قد عرضت لأحكام في الإسلام:
حد الزنا، وحد القذف، واللعان، وأحكام الاستئذان وآدابه، وأحكام العورة، وغض البصر، وإنكاح الأيامى، ومكاتبة الرقيق، وآداب الدخول إلى البيوت المسكونة وغير المسكونة، وإباحة الأكل من بيوت دوائر معينة، وبعض آداب الاجتماعات في الإسلام، وبعض آداب ينبغي أن تراعى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل هذا يدخل في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وقد جاء في السورة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كما ذكرت كثيرا من نماذج اتباع خطوات الشيطان. وذلك واضح الصلة مع قوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وفي السورة بيان لما ينبغي فعله إذا حدثت أنواع من الزلل، وبيان لأنواع من الزلل. فالسورة إذن تعالج الزلل إذا وقع، ومن خلال هذه المعالجة نتعرف على اسمي الله العزيز والحكيم، إذ نتعرف على أن الله عزيز من خلال الأحكام، ومن خلال العقوبات، ونتعرف على اسم الله الحكيم في كل ما شرع، ولذلك صلة بقوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
والآن فلنتذكر شيئا قلناه من قبل: قلنا: إن هناك صلة بين آيات المحاور في سورة البقرة ولو تباعدت هذه الآيات، ما دامت محاور لمجموعة سور، وكنموذج على ذلك هذه الصلة بين أواخر آيات محور سورة المؤمنون وما ذكرنا أنه محور سورة النور:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة: 28، 29) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 208، 209).
فبعد إقامة الحجة والتذكير بالنعم يؤمر المؤمنون بالدخول في الإسلام كله. إن المعاني التي عرضت في السورة، وطريقة العرض، وتسلسل المعاني وتنوعها تدل على الإعجاز
في هذا القرآن، وعلى استحالة أن يكون مصدره بشريا سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إن هذا الوضوح وهذا البيان في آيات السورة، ميزة تشهد على أن هذا الكمال، وهذا الجمال، لا يمكن أن يكون إلا من عند الله ذي الكمال والجمال.
تتألف السورة من ثلاثة مقاطع:
المقطع الأول: ويمتد من الآية الأولى حتى نهاية الآية (34): الآية الأولى منه هي:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والآية الأخيرة منه هي: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين بداية هذا المقطع ونهايته.
لقد عرض هذا المقطع آيات بينات في قضايا تشريعية وتوجيهية واجتماعية.
المقطع الثاني: ويمتد من الآية (35) حتى نهاية الآية (46) يبدأ بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
…
وينتهي بقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لاحظ الصلة بين بداية المقطع ونهايته ويتميز هذا المقطع بكون آياته البينات في موضوع العقيدة والكفر والإيمان والكون والحياة.
المقطع الثالث: ويمتد من الآية (47) إلى نهاية السورة ويتميز هذا المقطع بأن آياته البينات في موضوع المواقف والتوجيه.
وكل مقطع من هذه المقاطع يتألف من مجموعات وكل ذلك يرتبط بعضه ببعض بوشائج كثيرة.
وقد عرض الله عز وجل في هذه السورة أمهات من القضايا الاجتماعية والسلوكية والإيمانية والأخلاقية، ذات تأثير كبير على المجتمعات البشرية، وللمرأة من ذلك حظ كبير، مما يتعين معه على الرجال والنساء أن يدرسوا هذه السورة، ولذلك بدأت السورة بقوله تعالى: وَفَرَضْناها وجاءت آثار تحض على تعليم النساء هذه السورة.
وإن امرأ لا يخرج من دراسة هذه السورة برؤية الإعجاز واضحا وبالإيمان كاملا في