الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والملاحظ أن الأمر بالمكاتبة جاء بعد الأمر بالإنكاح، فما هي الصلة بين الأمرين؟
أقول: إن الإنكاح سبب لزيادة المسلمين، والمكاتبة تكثير لسواد المسلمين، إذ العبودية نوع موت، ثم إن الأمر بإنكاح الإماء والعبيد الصالحين يوصل إلى الكلام عن حريتهم والطريق إليها، لأن العبد يحرص على أن يتزوج بعد أن يكون حرا، كما أنه يكون أكثر حرصا على الحرية بعد زواجه، وأما الصلة بين هذا الموضوع وبين محور السورة فواضح؛ فهذا جزء من نظام الإسلام الذي أمر الله المسلمين في الدخول به كافة.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي إمائكم عَلَى الْبِغاءِ أي على الزنا إذ البغاء الزنا للنساء خاصة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا عن الزنا، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يعني هذا أنه يجوز للرجل إذا لم ترد أمته التحصن أن يدفعها إلى الزنا، كما لا يعني أن الأمة بالخيار في أن تتحصن أو تزني، بل كان القيد بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن، فآمر المطيعة لا يسمى مكرها، ولا أمره إكراها ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة، وفيه توبيخ للأسياد فكأنه قال: إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بأن تفرحوا بذلك، وتعينوهن عليه فكيف تكرهونهن؟ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ أي على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لهن رَحِيمٌ بهن أو لهم وبهم إذا تابوا.
نقول:
1 -
قال صاحب الظلال في الآيات الأخيرة: (إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل، فهو يفرض العفة وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر.
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين ..
والمقصود هنا الأحرار. وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ..
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم.
ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب.
ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا- مع هذا- أن الإسلام- بوصفه نظاما متكاملا- يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات .. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام. فإذا وجد في المجتمع الإسلامي- بعد ذلك- أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج- متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء- فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف (1)» .
(1) أخرجه الترمذي والنسائي.
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ..
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال. والمال هو العقبة الكئود غالبا في طريق الإحصان. ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية. وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً .. وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ. ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا. والخير هو الإسلام أولا. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها- وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم- فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
2 -
وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً الآية (ويكسر شهوته بالصوم للحديث، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل، وقول جمع: إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود، على أن الأدوية خطيرة، وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة، ثم أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم).
أقول: أما إذا كانت الأدوية تخفف من حدة الشهوة ولا تؤدي إلى قطع النسل فلا بأس باستعمالها للرجل أو للمرأة، ثم إذا كان الزوج أو الزوجة في غيبة عن الآخر فلكل منهما استعمال الأدوية المهدأة التي لا تقطع النسل.
3 -
بمناسبة الكلام عن المكاتبين في الآيات يقول الأستاذ المودودي في تفسيره لسورة النور: (ومما يجدر بنا ذكره بهذه المناسبة أن الأرقاء في الزمن القديم كانوا على ثلاثة أنواع: 1 - أسارى الحرب، و 2 - الأحرار الذين كانوا يؤخذون ويسترقون ظلما فيباعون، و 3 - الذين كانوا في الرق كابرا عن كابر، ولا يعرف متى كان آباؤهم قد استرقوا، ومن أي النوعين رقهم. فلما جاء الإسلام، كان المجتمع الإسلامي في بلاد العرب وغيرها من أقطار العالم ممتلئا بالأرقاء من هذه الأنواع الثلاثة، وعليهم تقريبا كان يعتمد النظام الاقتصادي والاجتماعي في سيره أكثر مما كان يعتمد على الخدمة والأجراء.
فالإسلام واجهته في مثل هذا الوضع مسألتان: الأولى هي مشكلة الأرقاء الذين كانوا موجودين في المجتمع إذ ذاك، والثانية هي حل مشكلة الرق في المستقبل. فجوابا عن المسألة الأولى ما ألغى الإسلام دفعة واحدة حقوق الملكية التي كانت للناس على أرقائهم منذ الزمان القديم، لأنه لو فعل ذلك، لما عطل نظام البلاد الاقتصادي والاجتماعي بأسره فحسب، بل لجر البلاد- أيضا- إلى حرب داخلية مدمرة مثل الحرب التي ظهرت في البلاد الأميركية لما أقدمت على إلغاء نظام الرق، بل لظلت القضية على ظهور هذه الحرب بدون حل، كما بقيت قضية ذل الزنوج (Negros) بدون حل في أميركا.
فأعرض الإسلام عن هذا الطريق الخاطئ للإصلاح، وقام في البلاد بحركة شاملة قوية
لمنح الأرقاء حريتهم، واستحث الناس بوسائل الترغيب والتلقين، وأحكام الدين، وقوانين البلاد، على أن يمنوا على أرقائهم بالعتق ابتغاء لنجاتهم الأخروية، أو تكفيرا لذنوبهم حسب الأحكام الدينية، أو في مقابل مقدار معلوم من المال يأخذونه منهم.
فهذه الحركة القوية التي قام بها الإسلام في بلاد العرب أعتق النبي صلى الله عليه وسلم بموجبها 63 رقبة، وأعتقت إحدى نسائه وهي عائشة رضي الله عنها 67 رقبة، وأعتق عمه العباس بن عبد المطلب في حياته 70 رقبة، وأعتق حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة رقبة، وأعتق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ألف رقبة، وأعتق ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه ثمانية آلاف رقبة، وأعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألف رقبة. ونجد مثل هذه النظائر كثيرة في حياة غير هؤلاء من الصحابة من أبرزهم ذكرا أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، فكأن الناس في ذلك الزمان كان بهم ولوع شديد بفعل الخيرات، ونيل رضا ربهم، فكانوا لأجل ذلك يعتقون أرقاءهم، ويشترون أرقاء غيرهم ويعتقونهم، حتى نال أرقاء الجاهلية كلهم حريتهم قبل انقضاء عهد الخلفاء الراشدين. أما قضية الرق بالنسبة للمستقبل،
فعالجها الإسلام بأن حرم تحريما باتا أن يؤسر حر ويسترق فيباع ويشترى. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«قال الله تعالى: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره .. » رواه البخاري وغيره. غير أن الإسلام قد أذن- نعم، أذن فقط ولم يأمر- باستعباد أسارى الحرب في ما إن كانت حكومتهم لا ترضى باستردادهم من الدولة الإسلامية بمن بيدها من أساراها، ولا هم يفدون أنفسهم بأنفسهم. ولكن مع ذلك فقد ترك الإسلام مجالا واسعا في وجوههم لأن يشتروا حريتهم بالمكاتبة، كما أبقى في حقهم جميع التعاليم والأحكام المتعلقة بتحريض الناس على منح الحرية لأرقائهم القدماء، أي تحريرهم ابتغاء لمرضاة الله أو تكفيرا للذنوب، أو وصية الرجل عند وفاته بعتق رقيقه بعده- وهو ما يعبر عنه بالتدبير في المصطلح الإسلامي- أو نيل الأمة حريتها مع وفاة سيدها، سواء أكان أوصى بعتقها أو لم يوص، إن كان استمتع منها فولدت له ولدا. فهذا هو الحل الموفق الذي عالج به الإسلام قضية الرق. فالجهال لا يدركون حقيقة هذه القضية في الإسلام فيوردون عليها أنواعا من الاعتراضات، وبالجانب الآخر أن محترفي الاعتذار لا يعتذرون عن قضية الرق فحسب، بل وينكرون أصلا إباحة الإسلام للرق في أي صورة من صورها).