الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، فإنهم إذا تفكروا علموا أن استئصال السابقين كان لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه لَكانَ لِزاماً أي لكان الهلاك لازما لهؤلاء وَأَجَلٌ مُسَمًّى هذا معطوف على «كلمة» ، والتقدير:
ولولا كلمة سبقت من ربك، ولولا أجل مسمى، أي مدة معلومة مضروبة لكل أمة لجاء هؤلاء العذاب، وأهلكوا بسبب كفرهم وإعراضهم، وهذا تذكير وإنذار من الله، وبيان أن ما هم فيه لو شاء الله أن ينهيه بلحظة لأنهاه، فلا يغتروا مصرين على الكفر والإعراض عن الوحي، ومجيء هاتين الآيتين بعد ذكر الله المعيشة الضنك، والعذاب في الآخرة لمن أعرض عن ذكره يفيد أن هناك عقوبة ثالثة وهي الإهلاك في الحياة الدنيا بسبب الإعراض.
وقد ذكرنا في فصل المؤيدات من الجزء الرابع من كتاب (الإسلام) في سلسلة الأصول الثلاثة:
أن المؤيدات للالتزام بهذا الدين ثلاثة أقسام: بشرية، وفطرية، وربانية. والربانية قسمان: عقوبة الدنيا بالعذاب، وعقوبة الآخرة بالعذاب.
فالصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما واضحة، ففيهما تذكير، وذلك منسجم مع مقدمة السورة إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وفيهما إنذار لمن لم يؤمن، وذلك منسجم مع
محور السورة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
والآن ما هو موقف أهل الحق من هؤلاء المعرضين الخاطئين في تصورهم لموضوع الشقاء والسعادة؟ ما هي القضايا الرئيسية التي ينبغي أن يلتزم بها أهل الإيمان وأهل الهدى؟
هذا ما نراه في الآيات الثلاث:
1 -
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من تكذيبهم وأقوالهم التي يعبرون بها عن تصوراتهم المريضة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي بصلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي في صلاة العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أي من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء وَأَطْرافَ النَّهارِ في مقابلة آناء الليل، وحمله بعضهم على الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، هذا كله إذا فهمنا أن المراد بالتسبيح هنا تسبيح الصلاة، إلا أننا إذا فهمنا أن المراد بالتسبيح هنا مطلق التسبيح سواء كان في صلاة أو لا، يكون ذلك أمرا للمداومة على ذكر الله: سبحان الله وبحمده ليلا ونهارا، قبل طلوع الشمس وبعده، قبل غروب الشمس وبعده، في ساعات الليل وفي كل طرف من أطراف النهار بالصلاة وغيرها لَعَلَّكَ تَرْضى قال النسفي:(أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك) هذا هو الأمر الأول هنا، وهو يفيد أن التسبيح بحمد الله، مع الصبر، هو أدب المسلم في صموده أمام أقوال أهل الكفر- وما أكثرها، وما أشدها- كما أن التسبيح بحمد الله هو وسيلة المسلم للسعادة في الدنيا والآخرة، هذا وعد الله عز وجل لمن لازم التسبيح بحمده.
2 -
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي نظر عينيك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفرة، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس كل كافر ممتعا، ومعنى مد البصر:
تطويله، وألا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، دل ذلك على أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك أن يباده الشئ بالنظر ثم يغض الطرف، ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، ومظاهر الفسق في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن: لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة ولكن انظروا كيف يلوح
ذل المعصية من تلك الرقاب؟ وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها والمعنى: لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك، وقليل من
عبادي الشكور، ولذلك قال بعد قوله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أى لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم، أو ليستغرقوا فيما هم فيه من النعيم فينسوا أو ليروا أن ما هم فيه علامة على أن حالهم هي الحال الصحيحة، ومن ثم فلا تتطلع إلى ما هم فيه ولا تنظر إليه ولا تعظمه، بل كن زاهدا فيه وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ثوابه وهو الجنة أو الحلال المشروع الكافي خَيْرٌ أي أحسن وَأَبْقى أي وأدوم مما رزقوا.
ولما كان ميزان الشقاء والسعادة عند أهل الكفر هو نعيم الدنيا وهو أثر عن التصور الخاطئ لهذا الموضوع فقد صحح الله هذا التصور من خلال النهي عن مد البصر نحو ما يتمتع به الكافرون
3 -
وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي أهل بيتك أو أمتك بِالصَّلاةِ أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي واصبر أنت على فعل الصلاة بأن تداوم عليها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نسألك أن ترزق نفسك، ولا أهلك نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي وإياهم، فلا تهتم لأمر الرزق، وفرغ بالك لأمر الآخرة وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وحسن العاقبة لأهل التقوى، في هذه الآية تطمين على الرزق وهو الهم الذي يشغل أكثر الخلق، وأمر بالصلاة، وأمر بالأمر بها، لأن إقامة الصلاة تعطي الإنسان طمأنينة كاملة، فهي عامل السعادة الأول في قلب المؤمن، وفي الأمر بها للأهل تعليم للإنسان أن يكون عاملا على نشر الهدى، وخاصة في دائرة أهله.
وهكذا بالصبر والتسبيح والزهد والصلاة والأمر بالصلاة يشق المسلم طريقه في هذه الحياة، فيصمد أمام الكفر ومغرياته، وادعاءات أهله ويستمر على الهدى وعلى شرع الله.
وقد بقي معنا الآن من السورة ثلاث آيات تتضمن اقتراحا للكافرين وردا عليه:
وَقالُوا أي الكافرون لَوْلا يَأْتِينا محمد صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي بعلامة دالة على صحة نبوته، وقد رد الله عليهم بقوله أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى. أي الكتب المتقدمة يعني: أولم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن الذي فيه برهان ما في سائر الكتب المنزلة، ودليل صحتها، لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادة على صحة ما فيها أليس ذلك
وحده كافيا؟! وقد عبر ابن كثير عن قوله تعالى. أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى بما يلي:
(يعني القرآن العظيم الذي أنزله عليه الله، وهو أمي لا يحسن الكتابة، ولم يدارس أهل الكتاب وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح، ويبين خطأ المكذب فيها وعليها ..... ثم بعد كلام قال: وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه الصلاة والسلام وهو القرآن وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر، كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه؟
فإن يكن هذا القرآن على هذه الشاكلة، فذلك دليل على أنه من عند الله كما قال تعالى في بداية السورة تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ فالسورة تختم بما بدأت به بأن تأتي بالدليل على أن هذا القرآن من عند الله، إذ أن قصة موسى وقصة آدم موجودتان في الصحف الأولى فإن تعرضهما هذه السورة بمثل هذه الدقة وبمثل هذا الكمال دون تناقض وكما هما حقا وصدقا فذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وهذا يفيد أنه لا حجة لكافر لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ومن ثم ندرك الصلة بين هذه الآية وسياق السورة ومحور السورة من سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل الرسول أو القرآن لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أي: هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بنزول العذاب وَنَخْزى يوم القيامة والمعنى: أن هؤلاء الكافرين المكذبين لو أن الله أهلكهم قبل أن يرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وينزل عليهم هذا الكتاب العظيم لاحتجوا على الله بأنه لم يرسل لهم رسولا فها هو ذا الرسول قد أرسل، وها هي الآيات قد أنزلت ولم يؤمنوا ولم يتبعوا، ومن ثم فإنهم يستحقون كل ما أنذروا به، ومن ثم ختم الله السورة بأن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول:
قُلْ أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي ينظر للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ إذا جاءت القيامة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي الطريق المستقيم وَمَنِ اهْتَدى إلى الحق وسبيل الرشاد،