الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقل:
عند قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ
…
قال صاحب الظلال:
(نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى- عليه السلام في هذه السنوات العشر، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة، في هذا الطريق ..
لقد نقلت يد القدرة خطى موسى- عليه السلام خطوة خطوة، منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه الحلقة، ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون، وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه، ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا، وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها، وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف .. هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقى والتجريب، قبل النداء وقبل التكليف .. تجربة الرعاية والحب والتدليل، وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار، وتجربة الخوف والمطاردة والفزع، وتجربة الغربة والوحدة والجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور، وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي. إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر- عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشا، وأثبتهم ملكا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم من كئوس الذل حتى استمرءوا مذاقه فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن، ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم
كهؤلاء عمل شاق عسير.
وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة، انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير. ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.
فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى عليه السلام وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.
إن لحياة القصور جوا خاصا، وتقاليد خاصة، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية، والرسالة معاناة الجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ. والمهذب والخشن، وفيهم الطيب والخبيث والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع .. وفيهم وفيهم
…
وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم .. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين، ومشاعر الذين تربوا في القصور، ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخبر مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!
وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا .. وقلوب أهل القصور- مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة. لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.
فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى- عليه السلام أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة، وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون