الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي من العذاب
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي به في تلك السنين. أي لو أخرناهم، وأنظرناهم، وأملينا لهم برهة من الدهر، وحينا من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شئ يجدي عنهم ما كانوا به من النعيم؟
ثم قال تعالى مخبرا عن عدله، وأنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم، وبعثة الرسل إليهم، وقيام الحجة عليهم فقال: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ
أي رسل ينذرونهم
ذِكْرى أي فعلنا ذلك تذكرة وموعظة وإقامة حجة وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوما لا يستحقون الهلاك. والمعنى: وما ظلمنا إذ أهلكنا لأننا ما أهلكنا من أهل قرية إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم.
كلمة في السياق:
يأتي قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ* ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ كرد ثان على استعجالهم العذاب؛ إذ يبين الله سنة من سننه في هذا الشأن، والملاحظ أنه يأتي هذا الموضوع في الخاتمة، بعد أن عرض الله علينا في السورة ستة نماذج على إهلاكه قرى أنذرت فكذبت، ومن ثم تعرف معنى قولنا كيف أن ما ذكر قبل الخاتمة يصب في خدمة الخاتمة، وأن كل آية في الخاتمة مرتبطة بسياق السورة الخاص بشكل بارز وواضح، وبعد أن أثبت الله أنه هو الذي أنزل هذا القرآن، وأقام الحجة على ذلك وعرض لموقف المجرمين، وسبب هذا الموقف، ورد على استعجالهم العذاب، يأتي الآن نفيه القاطع أن يكون للشياطين صلة بموضوع إنزال هذا القرآن، ومجيء هذا النفي هنا يشير إلى الشبهة الكافرة الجاحدة التي لا زال الكافرون يثيرونها وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم (وحاشاه بأبي هو وأمي) كانت له حالات غير صحية تحدث له فيها تخيلات وأوهام، هي أثر عن وسوسات وصرعات، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ما أجهلهم بالطب، وما أجهلهم بالقرآن، وما أجهلهم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجهلهم بظاهرة الوحي، وما أظلمهم وأسفههم. قال تعالى:
…
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ
وذلك لثلاثة أسباب، ذكرها على
الترتيب: فقال: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ قال ابن كثير: (ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم، أي ليس هو من بغيتهم، ولا من طلبتهم، لأن من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وقوله تعالى:
وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله ولهذا قال تعالى:
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ كما قال تعالى مخبرا عن الجن وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً إلى قومه أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً. (الجن:
8 -
10)
وإذ قامت الحجة الكاملة على أن هذا القرآن من عند الله، وأن الله أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين. فإن السياق الآن يتجه إلى النذير، آمرا ناهيا، موجها مؤدبا معلما، وفي ذلك وحده آية على أن هذا القرآن من عند الله؛ إذ تجد فيه آمرا أعلى لا تجد في أوامره أثرا للضعف البشري كما تجد أن محمدا مأمور، مقامه العبودية فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليفعل، ولكنه التحريك له على زيادة الإخلاص، والتربية لغيره، ثم لبيان أن منزل هذا القرآن رب العالمين وأن مقام محمد صلى الله عليه وسلم العبودية، وأنه إذا أخل بمقام العبودية فشأنه أن يعذب: فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فما أجهل الناس بالله.
ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخص عشيرته الأقربين بالدعوة، وفي ذلك كذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخصيص الأقربين بالدعوة دليل على أن الأمر جد وحق وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
ثم يصدر له الأمر بخفض الجناح للمؤمنين، وفي ذلك دليل آخر على أن القرآن من عند الله، فليست المسألة هنا مسألة زعامة، ولا جاه، ولا طلب كبرياء، فلو كان القرآن أثرا عن كبرياء بشر ما كان فيه مثل هذا الأمر