الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها قال النسفي: (والسورة: الجامعة لجملة آيات بفاتحة لها وخاتمة واشتقاقها من سور المدينة وفي قوله سُورَةٌ أَنْزَلْناها تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي الاعتناء بها الاعتناء بما عداها وَفَرَضْناها أي فرضنا أحكامها التي فيها، وجعلناها مقطوعا بها، وأصل الفرض في اللغة القطع قال مجاهد وقتادة: «أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي) وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلائل مفسرات واضحات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتعظوا، فهذه هي حكمة إنزال سورة النور على ما هي عليه، فمن لم يحقق هذه الحكمة في نفسه فقد أسرف، ومعنى الآية: سورة أنزلها الله، وفرض أحكامها، من حلال وحرام، وأمر ونهي وحدود، وأنزل فيها آيات مفسرات واضحات لكي نتعظ.
هذه الآية هي مقدمة السورة وهي تبين أن السورة محكمة، وأن فيها فرائض، وأن فيها آيات بينات، فهي مدخل إلى السورة التي تفصل في موضوع الدخول في الإسلام كله،
وبعد أن قرر الله في هذه المقدمة ما قرر تبدأ السورة تفصل لنا ما فرض الله وما حكم مما فيه آيات بينات، ومما هو من الإسلام الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي البكران اللذان لم يتزوجا أما المحصن الذي قد وطئ ولو مرة واحدة في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل
فله حكم آخر كما سنرى في الفوائد فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قال النسفي: والجلد: ضرب الجلد، وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الألم إلى اللحم، والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين، وهي على الكل، إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم، وهذا حكم من ليس بمحصن، إذ حكم المحصن الرجم، وشرائط إحصان الرجم: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة، وقيل الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب، والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده، فيعطلوا الحدود، أو يخففوا الضرب فِي دِينِ اللَّهِ أي في طاعة الله أو حكمه إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي وليحضر موضع حدهما- وتسميته عذابا دليل على أنه عقوبة- طائِفَةٌ أي فرقة تشكل حلقة ليعتبروا وينزجروا قال النسفي: وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي أي الطائفة صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول شئ وعن ابن عباس رضي الله عنه أربعة إلى أربعين رجلا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين بالله
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قال النسفي: أي الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب
في خبيثة من شكله أو في مشركة، والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين، فالآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن
…
وقدمت الزانية على الزاني أولا- أي الآية السابقة على هذه- ثم قدم عليها ثانيا- أي في هذه الآية- لأن تلك الآية سبقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له، ولم تمكنه، لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا في ذلك بدئ بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه، لأنه الخاطب ومنه بدء الطلب وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي الزنا أو نكاح البغايا لقصد التكسب بالزنا أو لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف كما قال النسفي:
(بمزاوجة الزواني والقحاب)
وبعد أن قرر الله عز وجل حد الزنا وحرمته وتنزه المؤمنين والمؤمنات عنه فقد ذكر حد القذف الذي شرع لحماية أعراض المؤمنين والمؤمنات أن
تمس إلا ببينة لا تقبل جدلا فقال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون بالزنا الحرائر والعفائف المسلمات المكلفات، والقذف يكون بالزنا وغيره، والمراد هنا قذفهن بالزنا بأن يقول يا زانية بدليل ذكر المحصنات عقيب الزواني، ولاشتراط أربعة شهداء بقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي ثم لم يأتوا بأربعة شهود يشهدون على الزنا لأن القذف بغير الزنا بأن يقول: يا فاسق يا آكل الربا يكفي فيه شاهدان وعليه التعزير، وشروط إحصان القذف الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والعفة عن الزنا، والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً إن كان القاذف حرا وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً الصيغة تنفي قبول كل شهادة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال ابن كثير:(أوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام (أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة (الثاني) أنه ترد شهادته أبدا (الثالث) أن يكون فاسقا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد القذف وَأَصْلَحُوا أحوالهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر ذنوبهم ويرحمهم قال ابن كثير: (واختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة- وإن تاب- أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين، وجماعة من السلف أيضا، وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط؛ فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدا وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان فحينئذ تقبل شهادته والله أعلم).
وبعد أن ذكر حكم قذف الأجنبيات بين حكم قذف الزوجات إذ للأزواج وضع خاص
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي يقذفون زوجاتهم بالزنا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا، وعلى هذا فإذا قذف أحدهم زوجته، وتعسر عليه إقامة البينة، فإن عليه أن يلاعنها كما أمر الله عزّ
وجل، وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين، أي فيما رماها به من الزنا
وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنا قال ابن كثير: (فإذا قال ذلك بانت منه بنفس اللعان عند الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويتوجه عليها حد الزنا، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات إنه لمن الكاذبين، أي فيما رماها به)
ومن ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها العذاب، والمراد بالعذاب هنا الحبس عند الحنفية، فإنها عندهم إذا رفضت الملاعنة تحبس حتى تلاعن أو تعترف أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنا
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما رماها به، خصها بالغضب لأن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صدقه فيما رماها به، ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها، والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه. قال النسفي:(وجعل الغضب في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثيرا، كما ورد به الحديث فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقوعه على قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعا لهن)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ولولا تفضله عليكم وَرَحْمَتُهُ أي نعمته وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي لولا ذلك لفضحكم الله، أو لعاجلكم بالعقوبة.
نقول: ذكر الأستاذ المودودي موقف الناس من عقوبة الزنا، ثم ذكر حكم الإسلام في هذا الموضوع فقال:
(الوجهات المختلفة في اعتبار الزنا جريمة مستلزمة للعقوبة: أما القضية التي فيها الخلاف بين مختلف القوانين والشرائع بعد اتفاقها على حرمة الزنا، فهي كون الزنا «جريمة مستلزمة للعقوبة في نظر القانون» فالمجتمعات التي كانت على قرب من الفطرة الإنسانية، ما زالت تعد الزنا (أي العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة) في حد ذاته جريمة قررت لها العقوبات الشديدة، ولكن ظل سلوك المجتمعات واتجاهها نحو الزنا يلين شيئا فشيئا على قدر ما ظلت زخارف المدنية تفسد هذه المجتمعات.
فأول تساهل جيء به عامة في هذه القضية، أنهم فرقوا بين «الزنا المحض»
(Pornication)
و«الزنا بزوجة الغير (Adultery) «فاعتبروا الأول خطيئة أو زلة يسيرة، ولم يعتبروا جريمة مستلزمة للعقوبة إلا الآخر. أما تعريف «الزنا المحض» عندهم، فهو «أن يجامع أيما رجل- بكرا كان أو متزوجا- امرأة ليست بزوجة لأحد» ، فما العبرة في هذا التعريف للزنا بحال الرجل وإنما هي بحال المرأة، فهي إذا كانت بدون زوج، فجماعها هو الزنا المحض، بقطع النظر عما إن كان الرجل الذي جامعها متزوجا أو غير متزوج. فحد هذه الخطيئة أي عقوبتها هين جدا في قوانين مصر القديمة وبابل وآشور والهند؛ وهذه القاعدة هي التي أخذت بها اليونان والروم، وبها تأثر اليهود أخيرا. فهي لم تذكر في الكتاب المقدس لليهود إلا كخطيئة يلزم الرجل عليها غرامة لا غير، فقد جاء في كتاب الخروج:(وإذا راود رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها يمهرها لنفسه زوجة. إن أبى أبوها أن يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى)(1).
وجاء هذا الحكم بعينه في كتاب الاستثناء بشيء من الاختلافات في ألفاظه وبعده التصريح بأنه (إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين مثقالا من الفضة، وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها)(2) غير أنه إذا زنى أحد ببنت القسيس، عوقب بالشنق بموجب القانون اليهودي وعوقبت البنت بالإحراق (3).
وهذه الفكرة ما أشبهها بفكرة الهنادك، ستعرف ذلك إذا راجعت كتاب (القانون الديني) لمانو (4)، حيث جاء فيه (أيما رجل زنى ببنت من طبقته عن رضاها فليس عليه شئ من العقوبة، وله أن يؤدي الأجرة إلى والدها وينكحها إن رضي به. وأما إذا كانت البنت من طبقة أعلى من طبقته، فلتخرج البنت من بيتها ويعاقب الرجل بقطع الأعضاء». ويجوز تغيير هذه العقوبة بإحراق البنت حية إذا كانت من الطبقة البرهمية.
فالحقيقة أن هذه القوانين كلها ليست الجريمة الأصلية فيها إلا «الزنا بزوجة الغير» أي أن يزني الرجل بامرأة هي زوجة لغيره، كأنه ليس الأساس لاعتبار هذه الفعلة جريمة أن
(1) الإصحاح الثاني والعشرون: (16، 17).
(2)
الإصحاح الثاني والعشرون: (28، 29).
(3)
Every man ،s Talmud B.P /319.20
(4)
أكبر واضعي القانون الديني للهنادك.
قد ارتكب الزنا رجل وامرأة، وإنما هو أنهما قد عرضا رجلا في المجتمع لخطر أن يقوم بتربية طفل ليس من صلبه، أي ليس الزنا هو الأساس، وإنما الأساس هو خطر اختلاط النسب، وأن يتربى الطفل على نفقة رجل غير والده ويرثه. وعلى هذا الأساس كان الرجل والمرأة معا مشتركين في ارتكاب الجريمة. أما عقوبة هذه الجريمة عند المصريين:
فهي أن يضرب الرجل ضربا شديدا بالعصا، ويجدع أنف المرأة. ومثل هذه العقوبة كانت لهذه الجريمة في بابل وآشور وفارس القديمة. أما الهنود فكانت عقوبة المرأة عندهم أن تطرح أمام الكلاب حتى تمزقها، وعقوبة الرجل أن يضجع على سرير محمى من الحديد وتشعل حوله النار. وقد كان من حق الرجل عند اليونان والروم في بدء الأمر أنه إذا وجد أحدا يزني بامرأته، أن يقتله أو ينال منه- إن شاء- غرامة مالية. ثم أصدر قيصر أغسطس في القرن الأول قبل المسيح مرسوما بأن يصادر الرجل بنصف ما يملك من المال والبيوت، وينفى من موطنه، وأن تحرم المرأة من نصف صداقها، وتصادر بثلث ما تملك من المال، وتنفى إلى بقعة أخرى من بقاع المملكة. ثم جاء قسطنطين وغير هذا القانون بإعدام الرجل والمرأة. ثم تغير هذا القانون في عهد ليو (Leo) ومارسين (Marcian) بالحبس المؤبد، ثم جاء قيصر جستينين وخفف هذه العقوبة وغيرها بضرب المرأة بالأسواط ثم حبسها في دير الراهبات، وإعطاء زوجها الحق في أنه إن شاء استخرجها من الدير في ضمن سنتين، أو تركها فيه إن شاء إلى طول حياتها.
وأما الأحكام الموجودة في القانون اليهودي عن الزنا بامرأة الغير، فهي:
(وإذا اضطجع رجل مع امرأة اضطجاع زرع وهي أمة مخطوبة لرجل ولم تفد فداء ولا أعطيت حريتها، فليكن تأديب. ولا يقتلا لأنها لم تعتق)(1).
(إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة)(2).
(إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنتزع الشر من وسطك. ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل
(1) كتاب التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، (22).
(2)
كتاب التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، (22).
بلوغ وعقل وحرية
…
ورابعها كونه مسلما
وعقد صحيح ووطء مباح
…
متى اختل شرط فلن يرجما
وزاد غير واحد أن يكون كل من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد.
وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتدا والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة، وقيل
بالوطء بعده. والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا.
وقال صاحب الظلال في تبيان حكمة بعض العقوبات في الإسلام: (والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة، وعمارة الأرض، التي استخلف فيها هذا الإنسان.
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لا تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عش، وإنشاء حياة مشتركة لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية، تذهب بكل هذه المعاني، وتطيح بكل هذه الأهداف؛ وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا، لا يفرق بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فليس وراء اللذة بناء في الحياة، وليس وراءها عمارة في الأرض، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المنقطع، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان!
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. فأما الزنا- وبخاصة البغاء- فيجرد هذا الميل الفطري من كل
الرفرفات الروحية، والأشواق العلوية؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل؛ ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان، بل أشد غلظا من الحيوان. ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة، في حياة زوجية منظمة، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا- وبخاصة البغاء- في بعض بيئات الإنسان!
ودفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا .. ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن الجريمة، من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة .. وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد
…
هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى.
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها.
فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر.
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق ..
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله صلى الله عليه وسلم:
«ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (1) لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل أو اعترافا لا شبهة في صحته.
(1) أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا، لأنها غير قابلة للتطبيق. ولكن الإسلام- كما ذكرنا- لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة؛ وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر؛ وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة. ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود. أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية. وقد جاء كل منهما يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي مرارا؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات. ولم يعد بد من إقامة الحد، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
«تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» (2).
فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة، وعلى الآداب الإنسانية، وعلى الضمير البشري. وهي رأفة مصطنعة. فالله أرأف بعباده. وقد اختار لهم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمية الأولى ..
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه. والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة- كما قلنا- إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة.
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة. ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ..
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود (باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان).
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات- وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا- بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار .. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق.
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.
لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم .. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا .. ثمانين جلدة .. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق .. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم .. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا.
ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت).