الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو أحب هداية إنسان فلا يترتب على ذلك هدايته إلا إذا شاء الله ذلك ثم إن صلة هذه الآية في المحور كذلك واضحة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فمع أنه من المرسلين فمهمته التبليغ أما الهداية فهي لله وحده:
وبعد إذ يتقرر أمر الهداية كما رأينا، يعرض السياق أبرع حجج الكفر قديما وحديثا، في الصرف عن الإسلام ويناقشها ويردها مرة بعد مرة فلنر التفسير:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة فأنت لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه قومك أو غيرهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يخلق فعل الاهتداء في من يشاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، أو وهو أعلم بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات:
…
فائدة:
قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب. وقال ابن كثير في الآية (وفي الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة. قال الزهري
…
عن المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قاله:
هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وأنزل في أبي طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أخرجاه من حديث الزهري، وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما
حضرت وفاة أبي طالب، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك نزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان ورواه الإمام أحمد .. عن أبي هريرة بنحوه، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى عليه ذلك وقال:
أي ابن أخي ملة الأشياخ، وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب. وقال ابن أبي حاتم .. عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ثم قال ممن الرجل قلت من تنوخ، قال: هل لك في دين أبيك إبراهيم: الحنيفية؟ قلت: إني رسول قوم، وعلى دينهم، حتى أرجع إليهم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
…
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يخبر تعالى في هذه الآية عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى، حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، وهي نفس الحجة التي يرددها اليوم ضعاف النفوس والمغرضون، فهم إذا ما أقمت عليهم الحجة بالإسلام قالوا: إذا أعلنا موقفنا من الإسلام كمؤمنين به تتكالب علينا دول العالم كلها، كأن دول العالم كلها ليست متكالبة علينا الآن، وقد رد عز وجل قولهم أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم أمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون لهم أمنا وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي تجلب وتجمع إليه من كل الثمار، مما حوله من الطائف وغيره، ومن كل العالم الآن رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من
عنده ولما خافوا التخطف
قال صاحب الظلال في هذه الآية والآيتين بعدها: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.
(فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله.
ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة، وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو .. حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة.
إن هدى الله منهج حياة صحيحة حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد؛ صلاح القلب، وصلاح المجتمع، وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه. وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف. بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة. وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية؟. وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان. وقد رد الله عليهم في وقتها