الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن أفصح الكلام، وأجمل ما نطق به اللسان، وأفضل ما انتظمته عقود البلاغة من البيان، وأنفس ما جرت به الأقلام حمد الله الواحد المنان، وإفراده بالتوحيد والتقديس على الدوام، والثناء عليه في كل آن، تنزه سبحانه وتعالى عن الشبه والنظير، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، ثم الصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله المجتبى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه الكرام الذين حملوا القرآن ونشروا الإسلام في سائر البلدان، وبعد:
فإن من محاسن العرب، وتمام الأدب حسن اختيار الكلمات الفصيحة، والمفردات البينة الصحيحة، والجمل الواضحات البليغة لغرض التعبير بها في الدلالة على المقصود الذي يسعى إليه، أو يراد الوقوف عليه، خاصةً فيما انتظم العرب في خطبهم وأشعارهم، وابتكروه في قصصهم وأمثالهم، فإنهم يغترفون من مفردات اللغة العربية أعذبها، ومن الجمل أروعها وأنسبها، ليصلوا بذلك إلى قلوب الناس وعقولهم، وليحركوا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأطيب ذلك يبهج القلب، ويفرح النفس، ويمتع الضمير، ويسر الخاطر، لأنه يظهر العلم، ويحث على العمل، ويصف الجمال، ويرشد إلى الصواب، ويحذر من القبيح، ويبعد عن الكسل، ويدفع الهم والحزن، ويرشد إلى تزكية
النفس، وإرضاء الخالق، وإسعاد المخلوق، ويبصّر على حسن التعامل مع الناس، وكم دفع الشوق محباً لإسداء من يحب نصائح يعز نظيرها، فيسعد بها صغير القوم وكبيرها، وينتفع بها أميرها ووزيرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قلتَ: أين أنت من ذلك، ولست من فرسان هذا الميدان وليس لك إن أردت سباحة هذا البحر يدان؟
قُلنا: نحن من أقل الناس بضاعة، وأضعفهم صناعة، غير أن ذلك لا يمنع العاقل من محاولة اكتساب الفضائل، والتشبه بالكرام، وأهل الفضائل من الأنام، وقديماً قيل:
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم
…
إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ (1)
ولعله من خير الأعمال السعي إلى مناصحة الإخوان، والعمل على نفعهم، وإدخال السرور عليهم، ومن هذا القبيل ما جمعناه واخترناه في هذا الكتاب مما لذَ وطاب، وإن لم يكن لنا فيه أكثر من اختيار وجمع ما افترق مما تناسب واتسق من عيون شعر العرب وأمثالهم، وقصصهم وأخبارهم، ووصاياهم ومواعظهم وأذكارهم، وبيان ما يناسب ذلك، ويتفق معه من كلام الله العزيز الحكيم، أو حديث رسوله محمد عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم، أو كلام الصحابة والآل الميامين، أو العلماء الأعلام والباحثين، وتحقيق ذلك، وابتكار بعض الأمثال، والسير على نفس المنوال الذي سلكوه،
(1) - هذا البيت يروى لأبي الفتوح يحيى بن حبش الحكيم شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 587هـ، ويروى لعبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ، ويروى أيضا لأبي عبد الله محمد بن محمد الحراق الحسيني، المتوفى سنة 1261هـ ولكن بلفظ: إن التشبه بالكرام رباح. والله أعلم.
مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة من ذلك كله، فإن ذلك يكفي، فاختيار المرء كما قيل "قطعة من عقله تدل على تخلقه وفضله"، فربَ علوم تنفع حاملها ودارسها ومعلمها، وأعمال ترفع من شأن صاحبها إذا أخلص لله في ذلك النية، فإن الله مولى كل خيرٍ وموليه، وخافض كل شيءٍ ومعليه، وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعلمه، وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) ، وفي الأمثال التي أوضحناها في كتابنا هذا مزيد بيّنة وبرهان، وفي أشعار العرب التي أوردناها حكمة وبيان، وما تحيى القلوب إلا بالإيمان، ولا تستيقظ إلا بنور الحكمة التي أرشد إليها القرآن، وإنما يسعد من الناس فلا يشقى من يطلب اكتساب ما لا ينفد ويبقى، وإذا كان الله جل وعلا قد أعلمنا بقوله:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فإنه قد علمنا بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى فقال:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (2) ، والعاقل إنما يملؤُ قلبه، ويمتع طرفه فيما يبقى أجره وذكره، ولم ينسَ نصيبه وحظه من الدنيا، ولعل من يعد عدّته ابتغاء تحصيل متعته يحتاج إلى جليس يواسيه ويسليه، واختيار سلاح ينفعه ولا يؤذيه، وسيجد المتتبع من فنون العلم التي أرشد إليها القرآن، وانتضته من العرب الفرسان خير سلاحٍ، فهو خير له من سلاح راج في الملا، وملئ به الفضاء، وشغل الناس به أوقاتهم، وأضاعوا فيه أعمارهم مما يجرح ويدمي، ويشوه النفس ويعمي،
(1) - سورة المجادلة الآية (11) .
(2)
- سورة الكهف الآية (46) .
وقديماً قيل: "رب سلاح يقول لحامله: ضعني، وكلمة تقول لصاحبها: دعني"، وربما أدرك عقلاء الناس وأصحاب الرأي فيهم أنما المرء معتبر بأكبر ما ينسب إليه عمله وإيمانه، فإن حسنا كان من المتقين الأخيار، وإن فسدا كان من الفسدة الأشرار، ولهذا كان من الإحسان أن يحسن الإنسان اختيار جليسه، وأن يصطفي أنيسه، وربما يجد المتتبع لفنون الأدب في أشعار العرب وأمثالهم من الأخبار النافعة ما تستظرفه العقول، وتستملحه النفوس، وفيه من محاسن الإنشاء، ودقة المعنى ما يوافق الشرع، وينفع الخلق، ويهدي إلى قيد الشوارد، وحفظ الشواهد، والعمل بالمواعظ، والاستفادة من المناسبات، والحرص على الانتفاع بالأوقات، والتفكر في المخلوقات مما يشرق به الأمل ويحث على العمل، وينتفي به الملل، ويقرب من الله عز وجل، فالكيس من جعل دنياه سعادة، وأخرته فلاحاً وشهادة، وحَرِصَ وفيه بقية، أن تكون له نفس صالحة أبيّة تقية، ولله در القائل:
إِذا المَرءُ لَم يَحتَل وَقَد جَدَّ جَدُّهُ
…
أَضاعَ وَقاسى أَمرُهُ وَهوَ مُدبِرُ
وَلكِن أَخو الحَزمِ الَّذي لَيسَ نازِلاً
…
بِهِ الأَمرُ إِلا وَهوَ لِلأَمرِ مُبصِرُ (1)
ولن يضيع أوقات زمانه، ويتعالى بالزعامة، ويتدثر بما يورث الأسى والندامة، إلا من كان أشد حمقاً (2) من النعامة، وحسب الرجل اللبيب أن يشغل أوقاته فيما ينفع ويفيد، أو يبصّر أخاه بالرأي السديد، ويدله على واضح الطريق، أو يرشده إلى اكتساب بضاعة يجيد فيها الصناعة.
(1) - القائل لهذين البيتين: تأبط شرا.
(2)
- الحمق: هو السفه وقلة الرأي، وإنما قلنا: أشد حمقاً من النعامة، لأن النعامة تترك بيضها يداس وتحضن بيض غيرها.
ولم يزل الأدب من بين علوم العرب في المقام الأعلى، والمحل الأسمى ثماره بالخير يانعة مادته وصياغته في جميع الصور التي تمثل نتاجه، وتزخر بها أمواجه، وتجوب بها مفاوزه وفجاجه، سواءً كان ذلك مما يتمثل في تصوير إحساسات وخلجات نفس تجاه عظمة الله جل وعلا، وما أودعه الكون بما فيه من جمال وأسرار هي آية لأولي العقول والأبصار، أم حيال آلام الإنسانية في هذه الحياة وآمالها الخيرة في هذا الاتجاه، أم أن ذلك كان تعبيراً عن أفكار ترشد الفرد أو المجتمع أو الإنسانية بأسرها إلى مفاوز الخير والصلاح والنجاح والفلاح، أو تبعدها عن طرق الشر بأشكاله المختلفة، ويستوي أن يكون ذلك الإنتاج الأدبي قد جاء في شكل شعرٍ منظوم، أو مثل سائرٍ مفهوم، أو قصةٍ أو فلسفةٍ تكشف عن واقع، أو توصل إلى حقيقة، حتى وإن كان ذلك تصويراً لنماذج من حالات الإنسان ومواقفه المختلفة، أو غير ذلك، فإننا قد حاولنا أن نودع شيئاً من ذلك فيما ضمّنَّاه في فصول كتابنا هذا، كل فصل حوى لوناً مما تقر به عين الناظر، ويسلو به خاطره، وتطيب حاله في سفره وحضره مما سجعت به بلابل أقلام العرب، وتداوله الثقات الأعلام من الباحثين الكرام، فأضاءت به الأيام من غير استقصاءٍ لكلامهم أو تطويلٍ في نقل أبحاثهم أو إيجاز يخل بكلامهم، وإن لم نشأ التوسع في ذلك فلكي لا يدرك القارئ الملل، إذ لو أردنا التوسع والاستقصاء لكان كل فصل في مادته التي يحوي مما يحتاج إلى كتاب، بل إلى كتب، وليس من المرغوب والمحبب للنفس أن يتعمق الإنسان فيما لا طائل تحته،
حتى لا يضلل القارئ في متاهات الفلسفة، ومعمعات الأفكار المجردة، ولا أن يستقصي بالتتبع والتحليل لكل ما يجد لما في ذلك من الإرهاق، والإضاعة للوقت، لأنه إذا أدرك الإنسان ما ينفع ويفيد فقد أفاد، ولذلك اكتفينا بما رأينا فيه البلاغ والوصول إلى ما نريده من المناصحة للإخوان بالشكل الذي يجذب القارئ ولا ينفره، وعلى نحو يرسم في ذهنه، ويسجل في وعيه وإدراكه فائدةً تكسبه خيراً أو تدفع عنه شراً في دنياه أو أخرته، ولنا أمل أن يجد كل ذلك طريقه إلى قلوب القراء لامتلاكه من البيان عنصره وأساسه، فعنصر المادة والصياغة في الأدب مقومان من مقوماته، وهما له كالروح والجسد للإنسان، وفي تلازمهما شرف الحياة، ولعل القارئ سيجدهما في كتابنا هذا برهاناً على ما قصدناه، وعوناً على ما أردناه، والله نسأل أن ينفع بذلك فهو ولي ذلك والقادر عليه.