الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل
الهمة سلاح القلب للمعالي، فهي قد تدفع بالإنسان إلى اكتساب المعارف والعلوم والاستمتاع بالحياة، وهي تتفاوت من إنسان لآخر فمن الناس من يبحث في سفره وسياحته وغربته عن المعالي ويستمتع بحياته،
وهذا (تاكيو أوساهيرا) الياباني عاش ثمانية عشر سنة خارج بلاده اليابان يبحث عن سر تفوق أوربا الميكانيكي ولم يرى أرض اليابان طول تلك السنين ثم عاد بعد أن حفظ الدرس وأتقن الصنعة ليطبقها واقعاً عملياً على أرض بلاده.. يقول: بعد أن رأى رئيس الدولة اليابانية المحركات وهي تشتغل بأرض اليابان ذهبت إلى بيتي ونمت عشر ساعات وهي أول مرة أنام فيها عشر ساعات كاملة منذ خمسة عشر عاماً. (1)
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي
…
وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ
…
إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا
وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
ولكن همم الناس ورؤيتهم للحياة تتفاوت، فمن الناس من يعشق السفر والترفيه بهمة عالية ولكنه يقع في حبائل الشيطان وينخرط في مصائده، فهو لا يعي معنى كلمة سياحة وسفر ويعتبر سياحة الترفيه ضرباً خالصاً من المجون الذي لا يربطه رابط ولا يضبطه ضابط وما أن يغادر بلده ويهبط في البلد التي عزم السفر إليه حتى يعتبر نفسه خارج المراقبة الربانية بل خارج حدود الرصانة والعقل واللياقة والأدب، فيبدد الأموال على موائد المتعة التي ضلت طريق الصواب، فكثيراً ما ينثر بعضهم النقود على الراقصات أو تحت
(1) - ابدأ كتابة حياتك فصول في عناق المجد، ص33، الناشر: دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 2008م.
(2)
- سورة الرعد الآية (11) .
أقدام المومسات ويتنافسون في نوادي القمار بقدراتهم الخرافية على تبديد الأموال، حالات نفسية يضحى فيها بالأموال على رؤس العاهرات، وربما أصيب بعضهم بـ (الإيدز) أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة، فعاد وقد سود وجه بلاده وخسر صحته وسعادته وإيمانه.
فالترفيه لا يعني السقوط في الوحل، ولا يعني الذلة والخمول ونبذ الأخلاق الفاضلة وتبديد الأموال والإفراط في القيل والقال.
وإذا انتقلنا إلى ميدان الأخلاق العالية والقيم الإنسانية البانية نجد أن للأدب الاسلامي سهماً ضارباً في هذا المقام تغوص أعماقه في نفوس الفطرة الإنسانية، بله النفوس المسلمة، وتأمل معي أبيات معن بن أوس المزني وهو يفتخر ببعده عن مواطن الريب واجتنابه الفواحش والمنكرات وتلبسه بمعاني المكرمات حيث يقول:
لَعَمرُكَ ما أَهوَيتُ كَفّي لِرِيبَةٍ
…
وَلا حَمَلَتني نَحوَ فاحِشَةٍ رِجلي
وَلا قادَني سَمعي وَلا بَصَري لَها
…
وَلا دَلَّني رَأيي عَلَيها وَلا عَقلي
وَإِنّيَ حَقا لم تُصِبني مُصيبَةٌ
…
مِنَ الدَهرِ إِلا قَد أَصابَت فَتىً قَبلي
وَلَستُ بِماشٍ ما حَيِيت لِمُنكَرٍ
…
مِنَ الأَمرِ لا يَمشي إِلى مِثلِهِ مِثلي
وَلا مُؤَثِراً نَفسي عَلى ذي قرابَةٍ
…
وَأَوثِرُ ضَيفي ما أَقامَ عَلى أَهلي
وهذا يذكرنا بقول الحسن البصري رحمه الله: "ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى
طاعة أو على معصية؟ فإذا كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت". (1)
وإذا كان إذاعة مثل هذه الأخلاق وتمجيد مثل هذه الآداب يعين على فعلها والالتزام بهديها فكم كنا نتمنى على البلدان الإسلامية في اتفاقياتها للتعاون السياحي أن تكون قد انبرت لتشيجع الفنون التي تهدي لمثلها فإن ذلك السمت الإنساني الراقي والتصوير الفني العالي مما يطرب له كل مسلم ويعجبه، وقد سبق أن أشرنا إلى مكانة الشعر ومواضع التأثر به وهو ينطق بالحكمة والحكمة فيه مطلوبة مرغوبة وقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشعر الناطق بها وقال:(إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً)(2) .
وغالباً ما تكون الحِكم عامرة بالمواعظ، حافلة بالعبر والأمثال، فتكون حقلاً تربوياً خصباً يزكي النفوس ويحدوها نحو الفضائل حدواً.
أما إذا انتقلنا إلى الطبيعة الغناء فسنجدها حقلاً بديعاً يغري الشعراء ذوي الإحساس المرهف فيرسمون بأشعارهم لوحات بديعة ينبهون العقول على مبدعها وباعث نضرتها في صور مبهجة ومناظر مهيجة، قال الثعالبي:
الغيمُ بينَ مُمَسَّكٍ ومُعَصْفَرِ
…
والماءُ بينَ مُصَنْدَلٍ ومُعَنْبَرِ
والروضُ بينَ مُدَمْلَجٍ ومُتوَّجِ
…
والوردُ بينَ مدرهَمٍ ومدنَّرِ
والأرضُ قَدْ لَبِسَتْ قميصاً أخضراً
…
تختالُ فيه بطيلسانٍ أحمرِ
لتروقَنا بظرائفٍ ولطائفٍ
…
من حسنِ منظرِها وطيبِ المخبرِ
(1) - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص66، الناشر: دار الفكر القاهرة.
(2)
- أخرجه البخاري في صحيحه باب ما يجوز من الشعر والرجز حديث (5679) .