الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الحليمي في معنى العفو: انه الواضع عن عباده تبعة خطاياهم وآثامهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا ليكفر عنهم ما فعلو بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به وجزاء.
وقيل: العفو في حق الله تعالى: عبارة عن إزالة أثار الذنوب بالكلية، فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالب العباد بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنه، قال تعالى:{يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1)، وقال:{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (2) .
والعفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر. والعفُوُّ هو الله سبحانه الذي يعطي الكثير، ويهب الفضل، ولا يعتب عليه المنعم البتة (3) .
ثمرة التعرف على اسم الله العفوُ
العاقل إذا عرف أن ربه عفو يصفح عن الذنب ويقبل التوبة ويعفو عن السيئات، وجب عليه أن يؤمن به ويتقرب إليه ويسأله العفو عن جميع الذنوب والآثام، فالله جل وعلا هو العفو، يعفو عمن يشاء، ويغفر لمن تاب وأناب، ويشمل الخلق جميعاً بعفوه إلا من أشرك وكفر بربه ومات على ذلك أعاذنا الله والمسلمين من ذلك، قال تعالى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (4) ، وقال جل شأنه {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (5)، ثم انه يجب على من عرف أن ربه عفو كريم أن يستعمل العفو ويتخلق به حيى يدخل في مدح الله للعافين الذين أثنى الله عليهم بقوله:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (6) .
وفي الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ)(7) ، والعاقل يسعى إلى تحصيل سبب العفو من الله بترك الذنوب والاستغفار وطلب العفو من الله جل وعلا.
ولله در القائل:
يَستَوجِبُ العَفوَ الفَتى إذا اعتَرف
…
وتابَ ممَّا قَد جَناهُ واقتَرَف
لقَولِهِ قُل لِلَّذينَ كفَرُوا
…
إن يَنتَهوا يُغفَر لهم ما قَد سَلَف (8)
أما الحسن بن هانئ المعروف بابي نواس فهو يقول في طلب العفو من الله:
(1) - سورة الرعد (39) .
(2)
- سورة الفرقان (70) .
(3)
- شرح لأسماء الله الحسنى للرازي ص (325-326) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (204) .
(4)
- سورة النساء (48) .
(5)
- سورة الأنفال (38) .
(6)
- سورة آل عمران (134) .
(7)
- سنن أبي داود باب من كظم غيظا حديث (4777) .
(8)
- أورد هذين البيتين صاحب الموسوعة الشعرية ونسبهما إلى ابن غلبون الصوري، ورويت لأبي سعيد الزبيري انظر الموسوعة الشعرية ص (242) ويتيمة الدهر للثعالبي ج (1) ص (316) والجامع لأحكام الله للقرطبي ج (7) ص (225) .
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
…
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
…
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
…
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
…
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
فاطلب أخي من الله العفو يعف عنك فهو يحب العفو قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إلى الله، لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه قال الشاعر:
يا رب أنت رجائي
…
وفيك حسنت ظني
يا رب فاغفر ذنوبي
…
وعافني واعفُ عني
العفو منك الاهي
…
والذنب قد جاء مني
والظن فيك جميل
…
حقق بحقّك ظني (1)
ولله در القائل:
فيا ربِّ بردَ العفوِ هب لي إذا غلا
…
من الحَر في يوم الحسابِ دِماغُ (2)
فمن علم أن الله سبحانه وتعالى يشمل بالعفو من أناب إليه ورضي عنه، وجب عليه أن يأتي ما يكون سبباً لعفو الله من الإيمان، والتوبة، والاستغفار، والأعمال الصالحة، وأداء الواجبات، والإحسان إلى عباد الله، فمن كمال عفو الله انه مهما أسرف العبد ثم رجع إلى الله جل وعلا عفا عنه، ومن كمال عفوه انه جعل الإسلام يجب ما قبله، والحج يهدم ما قبله، والتوبة
(1) - أورد هذه الأبيات الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في لطائف المعارف جزء (1) ص (23) دون ان ينسبها لأحد.
(2)
- ديوان بن الحاج البلفيقي.