الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)، وفي الحديث النبوي:(الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ)(2) .
الإيمان بالقضاء والقدر
القدر نظام سماوي يجري وفق قانون رباني، فهو من جملة أركان الإيمان التي أخبر عنها الرسول عليه وآله والصلاة والسلام حينما سئل عن الإيمان ذكره من جملة أركانه فقال:(الإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)(3) . قال الشاعر:
تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي
…
طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ
فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ
…
وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ (4)
وفي الأمثال السائرة: "لا ينفع حذر من قدر"، وقيل:"إذا حل القدر بطل الحذر"، ومعنى ذلك: أن الحذر لا يدفع المقدور عن صاحبه، فالمرء لا يملك أن يفر مما كتبه الله وقدره عليه، وهذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب،
(1) - سورة آل عمران الآية (110) .
(2)
- أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها حديث (51) .
(3)
- أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان الإيمان والإسلام حديث (9) .
(4)
- هذان البيتان لأمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني، أبو الصلت (460-529هـ/ 1068-1134م) حكيم، أديب، من أهل دانية بالأندلس، ولد فيها، ورحل إلى المشرق، فأقام بمصر عشرين عاماً، سجن خلالها، ونفاه الأفضل شاهنشاه منها، فرحل إلى الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية (من أعمال المغرب) فاتصل بأميرها يحيى بن تميم الصنهاجي، وابنه علي بن يحيى، فالحسن بن يحيى آخر ملوك الصنهاجيين بها، ومات فيها، وله شعر فيه رقة وجودة.، في المقتضب من تحفة القادم أنه من أهل إشبيلية، وأن له كتباً في الطب، من تصانيفه (الحديقة) على أسلوب يتيمة الدهر، و (رسالة العمل بالإسطرلاب) ، و (الوجيز) في علم الهيأة، و (الأدوية المفردة) ، و (تقويم الذهن-ط) في علم المنطق.
وفي الأمثال الشعبية: "انت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد"، وقيل:"العاجز عن التدبير يحيل على المقادير"، قال الشاعر:
وعاجز الرأي مصباح لفرحته
…
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وفي أمثال العامة: "اللي من نصيبك لازم يصيبك، واللي مكتب على الجبين لازم تشوفه العين، والمكتوب ما منوش مهرب". (2)
فالإيمان بالقدر يجعل الحياة تعج بالأمل وتشرق بالأنوار وتهتف بالمعالي فيها معنى الحركة والإنجاز والأمل والتفاؤل الذي يجده الإنسان مبثوثاً في ثنايا القرآن حتى في لحظات انكسار المسلمين في غزوة أحد ووداع سبعين من أكابرهم وقادتهم ورجالهم في يوم رحيل الأبطال والشهداء يتنزل قول الله جل وعلا: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (3)، وفي لحظة صولة العدو وطيشه يأتي الأمل والتفاؤل ويتنزل قول الحق سبحانه وتعالى:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4)، وحتى في لحظة يأس الرسل وإحباطهم وفتور همتهم يأتي الأمل من جديد ليبدد هذا اليأس والإحباط فينجلي العمى ويأتي النصر الذي كتبه الله وقدره فيتنزل قول الحق تبارك وتعالى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (5)، وفي لحظة انتفاخ أهل الباطل وتطاولهم يأتي القدر الإلهي ليرد عليهم فيتنزل قول الحق سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} (6) ، فسبحان الله المتفضل على عباده، فقد جاء في الحديث القدسي:(أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)(7) .
والحق أن الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ويقضي على التشاؤم والطيرة ويزيد الإنسان قوة وفتوة فيجعله كالجبل الذي لا تهزه ريح ولا يجحبه مطر، فالمؤمن بقدر الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وفي الحديث الشريف:(عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَاّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)(8)، وفي الذكر الحكيم:{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (9) ، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (10) .
(1) - سورة يوسف الآيتان (67و68) .
(2)
- الأمثال الشعبية والعربية والعالمية لسامي محمد، ص86، الناشر العالمية للكتب والنشر الجيزة مصر، الطبعة الثانية 2006م.
(3)
- سورة آل عمران الآية (139) .
(4)
- سورة يونس الآية (1532
(5)
- سورة يونس الآية (110) .
(6)
- سورة الرعد الآية (17) .
(7)
- أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة حديث (7603) .
(8)
- أخرجه مسلم في صحيحه باب المؤمن أمره كله خير حديث (5318) .
(9)
- سورة التوبة الآية (51) .
(10)
- سورة الحديد الآيتان (22و23) .
وقال الشاعر:
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به
…
وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لمرئٍ عيشٌ يسر به
…
إلا سيتبع يوماً صفوه كدرُ
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ
…
وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي
…
فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي
…
وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ
…
وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
وفي الذكر الحكيم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)، وفي الأدعية المأثورة في دبر كل صلاة مكتوبة:(لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)(2) ، فالعاقل يؤمن بالقدر فهو لا يكثر الهم ولا يتطير أو يتلبس بالكدر، قال طرفة بن العبد (3) :
إذا ما أردت الأمر فامضِ لوجهه
…
وخل الهوينا جانباً متأنيا
ذ
(1) - سورة فاطر الآية (2) .
(2)
- أخرجه البخاري في صحيحه باب الذكر بعد الصلاة حديث (799) .
(3)
- طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجاءاً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد، اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شاباً.
ولا يمنعنك الطير مما أردته...........فقد خط في الألواح ما كنت لاقيا (1)
وقال آخر:
طيرة الدهر لا ترد قضاءً
…
فعذر الدهر لا تشبه بلوم (2)
وقوله: "طيرة الدهر" مصدر طيّر يتطيّر طيرة، والطيرة: اسم مصدر من تطيّر طيرة كما يقال: تخيّر خيرة، ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما، وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان التطير يصدّ المتطير عن مقاصده فنفاه الشارع وأبطله وأخبر بأنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، وقد قال بعض العلماء: الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب، وهي من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ) رواه البخاري (3)، وزاد مسلم:(وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ)(4)، وفي حديث ابن مسعود:(الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا وَمَا مِنَّا إِلَاّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول بن مسعود (5)، ولأحمد من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنه:(إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ)(6)، وقال ضابئ بن الحارث (7) :
وَما عاجِلاتُ الطَيرِ تُدني مِنَ الفَتى
…
رَشاداً وَلا عَن رَيثِهِنَّ يَخيبُ
وَرُبَّ أُمورٍ لا تَضيرُكَ ضَيرَةً
…
وَلِلقَلبِ مِن مَخشاتِهِنَّ وَجيبُ
(1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية ص78 ، منسوباً لطرفه بن العبد، وليس في ديوانه الذي بين أيدينا.
(2)
- ورد هذا البيت في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج13ص142 ، والموسوعة الشعرية ص77، غير منسوب لقائل بعينه.
(3)
- صحيح البخاري باب لا عدوى حديث (5329) .
(4)
- صحيح مسلم باب لا عدوى ولا طيرة ولا نوء ولا غول حديث (4116) .
(5)
- سنن أبي داود باب في الطيرة حديث (3411) ، وسنن الترمذي باب ما جاء في الطيرة حديث (1539) .
(6)
- مسند أحمد حديث (1727) .
(7)
- قال عنه الحافظ ابن حجر: له إدراك وجنى جناية في خلافة عثمان رضي الله عنه فحبسه فجاء ابنه عمير بن ضابئ فأراد الفتك بعثمان ثم جبن عنه، وفي ذلك يقول:
هَمَمْتُ ولمْ أَفعلْ وكِدْتُ وليتَني
…
تركْتُ على عُثْمانَ تَبْكي حَلائِلُهْ
فلما قدم الحجاج الكوفة أمر بضرب عنقة، وانظر: الاصابة ج5ص102.