الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرائن التي تقوي هذا الأصل:
إذا كان عدم النقل دليلًا على عدم الحصول في الشرعيات، فإن هناك من القرائن ما يقوي ذلك الأمر ويعضده.
فمن ذلك:
1 - أن يروي الصحابي تفاصيل حادثة وقعت مما يتعلق به شرع ويذكر ذلك على سبيل الاستقصاء
.
وهذا يدل على أنه لم يغادر من تفاصيلها الرئيسة شيئًا (1) وذلك لأن
= يضع يده على صدره أثناء القيام، فإن القيام لفظ عام يشمل قبل الركوع وبعده، فلا وجه لقصر هذا العموم على بعض إفراده.
وقد ذكرت هذا المثال لكي لا يظن أن المسألة المشار إليها في أول هذا الهامش مجرد تمارين ذهنية عقلية مجردة، بل هي مسألة أصولية يتفرع عليها خلافات فقهية.
ويلاحظ هنا أنّ النقل العام كافٍ في إخراج الصورة عن البراءة الأصلية فيما إذا عدمت القرائن المقوية لذلك الأصل، أما إذا وجدت القرائن التي تقوي هذا الأصل فإن النقل العام هنا لا يكفي، بل لابد من وجود الدليل الخاص.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ما يؤيد هذا الذي ذكرته، فقد قال (مجموع الفتاوى 7/ 571): فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء دليل على انتفائه إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فيكون هذا لازمًا لثبوته، فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم.
(1)
أفعال الرسول (2/ 68) لكنه جعله في أنواع ترك النقل وذلك لأنه قسم ترك النقل إلى أقسام أربعة وهو يرى أن ترك النقل ليس دليلًا على نقل الترك في كل الحالات - كما أشرنا من قبل - والأولى أن يجعل ذلك والقسم الذي بعده - عند الأشقر - من القرائن المقوية لدلالة ترك النقل على نقل الترك في الشرعيات لا قسمًا له.
الصحابي أمين فيما ينقل، فلو كان هناك تفصيل له أثر في الحكم مما يتعلق به شرع لنقله الصحابي.
ومن أمثلة ذلك عدم نقل الجلد في قصة رجم الغامدية.
وذلك فيما ورد من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طهرني، فقال:"ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله:"فيم أطهرك؟ "، فقال: من الزنى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبه جنون؟ " فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال:"أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أزنيت؟ "، فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فرقتين، قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال:"استغفروا لماعز بن مالك" قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم" قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري
الله وتوبي إليه" فقالت: "أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ " قال: "وما ذاك؟ " قالت: إنها حبلى من الزنى، فقال: "آنت" قالت: نعم، فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال صلى الله عليه وسلم: "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: "إليَّ رضاعه يا نبي الله"، قال: "فرجمها" (1).
فليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الجلد والرجم وقد ثبت أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم الله: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"(2).
ولذا فقد اختلف الفقهاء في الجمع بين الحديثين.
فذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الجمع بين الرجم والجلد للحديث السابق، وهو قول الحسن البصري (3) وإسحق بن راهويه (4) ورواية عن أحمد
(1) مسلم (3/ 1421 - 1322/ 1695) كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا.
(2)
رواه مسلم (3/ 1316 / 1695) كتاب الحدود، باب حد الزنا.
(3)
هو: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، توفي سنة 110 هـ، وأخباره مشهورة لا تحتاج إلى ذكر.
[سير أعلام النبلاء (5/ 456)، وفيات الأعيان (2/ 69 / 156)].
(4)
هو: أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم التميمي ثم الحنظلي المروزي شيخ المشرق، نزيل نيسابور، ولد سنة 161 هـ، وارتحل إلى العراق في سنة 184 هـ وعمره =
وداود (1) وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي وابن المنذر (2).
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجمع بين الجلد والرجم (3).
قالوا: لم يرو الجلد في قصة ماعز، ولو حصل لنقل، ولم يرو كذلك في قصة الجهنية ولا اليهوديين اللذين رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجعلوا حديث ماعز رضي الله عنه ناسخًا لحديث عبادة رضي الله عنه، ويقوي ذلك النسخ أنه كان عقب قوله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فحديث عبادة رضي الله عنه متقدم على حديث ماعز رضي الله عنه.
= 23 سنة، ولقى كبار العلماء وكتب عن خلق من التابعين، قال الحاكم: إسحاق بن راهويه إمام عصره في الحفظ والفتوى. اهـ. توفي في نيسابور سنة (238 هـ).
[سير أعلام (9/ 547)، شذرات الذهب (3/ 172)].
(1)
هو: داود بن علي بن خلف، أبو سليمان البغدادي، المعروف بالأصبهاني، رئيس أهل الظاهر، ولد سنة 200 هـ، عُرِف بالعلم والحفظ والزهد، توفي سنة 270 هـ، له مصنفات منها" الإيضاح"، "كتاب الأصول".
[سير أعلام النبلاء (10/ 491)، وفيات الأعيان (2/ 255 / 223)، شذرات الذهب (3/ 297)].
(2)
هو: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الفقيه، نزيل مكة، وشيخ الحرم، وصاحب التصانيف مثل:(الإشراف في اختلاف العلماء)، و (الإجماع)، (المبسوط)، وغير ذلك، ويعد من فقهاء الشافعية، توفي سنة (318 هـ).
[سير أعلام النبلاء (11/ 439)، شذرات الذهب (5/ 89)، وفيات الأعيان (4/ 207 / 580)].
(3)
المغني (12/ 313)، المحلى (11/ 233)، الإشراف على مذاهب العلماء (7/ 252) لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر، تحقيق: د. أبو حماد صغير أحمد الأنصاري، نشر مكتبة مكة الثقافية - الإمارات العربية المتحدة، ط. الأولى (1428 هـ - 2007 م).
واعترض على ذلك:
بأنه ليس في قصة ماعز رضي الله عنه ومن ذكر معه - على تقدير تأخرها - تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم، لاحتمال أن يكون ترك روايته لوضوحه ولكونه الأصل.
وأجيب عن ذلك: بأن جلد من ذكر من الخمسة الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو وقع مع كثرة من يحضر عذابهم من طوائف المؤمنين يبعد أنه لا يرويه أحد ممن حضر، فعدم إثباته في رواية من الروايات مع تنوعها واختلاف ألفاظها دليل على عدم وقوع الجلد.
قال ابن حجر: "فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، وعدم وقوعه على عدم وجوبه"(1).
ويرى الصنعاني أن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلد أمر ظاهر دعاه إلى التوقف بعد أن كان يقول بالجمع بين الجلد والرجم (2).
ويرى الدكتور الأشقر أن القائلين باحتمال عدم ذكره لوضوحه تسليم منهم بصحة هذه القاعدة وأن الخلاف في الأثر الفقهي فقط (3).
والذي يظهر للباحث أن القول الراجح هو قول الجمهور، إذ يبعد جدًّا فعله مع عدم نقله وهو الموافق للأصل المذكور في أن عدم النقل دليل على نقل
(1) فتح الباري (12/ 122).
(2)
سبل السلام (4/ 96).
(3)
أفعال الرسول (2/ 69).