الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: الإذعان والاعتراف.
يقال أقر بالحق: أي اعترف به.
المسألة الثانية: الإقرار عند الأصوليين:
الإقرار أحد أقسام السنة - كما سبق - ومن ثم كثرت تعاريف الإقرار وتنوعت واختلفت عن بعضها، وسوف أورد بعضًا من تلك التعريفات، ثم أبين بعضًا مما تدل عليه تلك التعريفات، وما هو التعريف المختار المرضي من تلك التعريفات:
عرف ابن حزم الإقرار بأنه: "الشيء يراه النبي صلى الله عليه وسلم أو يبلغه أو يسمعه فلا ينكره ولا يأمر به"(1).
وعرفه الجصاص بأنه "تركه - أي النبي صلى الله عليه وسلم النكير على فاعل يراه يفعل فعلًا على وجهٍ، فيكون ترك النكير عليه بمنزلة القول منه"(2).
وعرفه السمعاني بأنه "سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء يفعل بحضرته"(3).
وعرفه يحيى بن موسى الرهوني بأنه "أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بفعلٍ صدر عن المكلف، ولم ينكره عليه، مع القدرة على الإنكار"(4).
= ومسلم (1/ 478 / 685) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها. واللفظ للبخاري.
(1)
الإحكام لابن حزم (4/ 590).
(2)
الفصول في الأصول (3/ 235).
(3)
قواطع الأدلة (2/ 64).
(4)
تحفة المسئول في شرح مختصر منتهى السول (2/ 199).
وعرفه الشيرازي بأنه "أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فلا ينكره، أو يرى فعلًا فلا ينكره، مع عدم الموانع"(1).
وعرفه الزركشي بأنه "أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول أو فعل قيل أو فعل بين يديه أو في عصره وعلم به"(2)، وفي تشنيف المسامع عرفه بأنه "كف عن الإنكار"(3)، وكذلك عرفه أبو زرعة العراقي (4) وجمال الدين الإسنوي (5).
وعرفه ابن النجار الفتوحي (6) بـ "أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعلٍ
(1) اللمع (ص 147).
(2)
البحر المحيط (4/ 201).
(3)
تشنيف المسامع (2/ 899).
(4)
الغيث الهامع (2/ 455).
(5)
نهاية السول شرح منهاج الأصول (2/ 642).
(6)
هو: محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم البهوتي، المصري، الفتوحي، المعروف بابن النجار، أخذ العلم عن كبار علماء عصره كعبد الرحمن السخاوي، قال الشعراني: صحبته أربعين سنة، فما رأيت عليه شيئا يشينه، تولى وظيفة قاضي قضاة الحنابلة بمصر، توفي سنة (972 هـ).
من تصانيفه: "حواشي على كتاب منتهى الإرادات" في الفقه، و"شرح الكوكب المنير" في علم الأصول، و"حاشية على شرح عصام الدين السمرقندي" في البلاغة، و "التحفة" في السيرة النبوية.
[معجم المؤلفين (3/ 73)، والأعلام (6/ 6)، وخلاصة الأثر (3/ 390)، السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (347/ 538)].
أو قولٍ، فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه من غير كافر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا به" (1).
وعرفه الطوفي بأنه "تقرير من يسمعه يقول شيئًا أو يراه يفعله على قوله أو فعله بأن لا ينكره"(2).
وعرفه المرداوي بأنه "سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعل أو قول بحضرته أو زمنه عالمًا به"(3).
وعرفه أبو شامة بأنه "أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا صادرًا من مسلم مكلف، أو يسمع منه قولًا أو يبلغه ذلك ولم ينكره عليه مع فهمه له"(4).
بالنظر في التعريفات السابقة يتبين ما يلي:
أولًا: بالنظر إلى ماهية الترك يلاحَظ أن التعريفات السابقة بين أحد أمرين: إما تعريف الإقرار بأنه السكوت عن الإنكار أو تعريف الإقرار بأنه الكف عن الإنكار، فالأول: يخص الإقرار بترك الإنكار بالقول، والثاني: يشمل ترك الإنكار بالقول أو بالفعل.
وإذا كان ترك القول داخل في ماهية الترك - في هذه الدراسة - فلا إشكال على أي من الأمرين من القول بأن الإقرار نوع من أنواع الترك.
(1) شرح الكوكب المنير (2/ 194).
(2)
شرح مختصر الروضة (2/ 62).
(3)
التحبير (3/ 1491).
(4)
المحقق من علم الأصول (ص 171).
ثانيًا: بالنظر إلى ماهية متروك الاعتراض عليه فالتعريفات بين أحد أمرين:
الأول: النص على أنه إما قول أو فعل.
الثاني: الإطلاق وعدم النص على الأقوال أو الأفعال.
فليس هناك إذن من يخص الإقرار بترك الإنكار على القول دون الفعل أو الفعل دون القول.
فمثال الإقرار على قول:
ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد؛ إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه وإن سكت: سكت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه وإن سكت: سكت على غيظ، فقال:"اللهم افتح"، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] (1).
قال أبو إسحاق الشيرازي: "فلما لم ينكر عليه دل ذلك على أنه إذا قَتل قُتل، وإذا قذف جلد"(2).
وأيضًا: ما ورد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم
(1) رواه مسلم (2/ 1133 / 1495) كتاب اللعان.
(2)
اللمع (ص 147).
فجاء رجل من اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد، وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، إني مقرع بينكم، فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية، فأقرع بينهم فجعله لمن قرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه (1).
ومثال الإقرار على فعل:
ما ورد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم (2).
وأيضًا: ما ورد عن أم سليم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها فيقيل عندها فتبسط له نطعًا (3) فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه
(1) رواه أبو داود (2/ 289 / 2269) كتاب الطلاق، باب من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد، والنسائي (6/ 182) كتاب الطلاق، باب القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه، وابن ماجه (2/ 786 / 2348) كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 29 / 2269).
(2)
رواه مسلم (1/ 463 / 670) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد.
(3)
النطع: بساط من جلد [القاموس المحيط (2/ 1026)].
فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أم سليم ما هذا؟ "، قالت: عَرَقك أَدُوفُ (1) به طيبي (2).
ثالثًا: بالنظر إلى زمان المتروك الاعتراض عليه يلاحَظ أن التعريفات كلها تنحصر في ثلاثة اتجاهات:
الأول: يخص ذلك بما كان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقط.
الثاني: يخص ذلك بما كان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيبته مع أن يبلغنا أنه علمه.
الثالث: يعمم ذلك في كل ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وأمكن أن يعلمه.
وهذا يدل على أن الإقرار ليس على رتبة واحدة في الدلالة، وتفصيل ذلك في مراتب الإقرار.
رابعًا: التعريف المختار:
التعريف يقصد به بيان الماهية، ولذا فأقرب تلك التعريفات هو أن الإقرار هو:"الكف عن الإنكار"، وهذا الكف بعمومه هنا في التعريف يشمل الكف عن الإنكار على القول، أو الفعل، ويشمل ما في حضرته صلى الله عليه وسلم، وما في غيبته صلى الله عليه وسلم وعلم به، وما يلحق بذلك مما يحصل في زمنه صلى الله عليه وسلم وينزل منزلة ما نقل أنه قد علم به.
(1) أدوف: أخلط [لسان العرب (3/ 449) مادة (د وف)].
(2)
رواه مسلم (4/ 1816 / 2332) كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به.